العدوان الأميركي على سوريا وأفغانستان
منير شفيق
العدوان الأميركي الذي تمثل في الاعتداء على البوكمال المنطقة الحدودية السورية يُلحظ عليه من حيث الشكل والمضمون ما يلي:
1- جاء عدوانا سافرا على دولة ذات سيادة من قبل جيش يحتل العراق وقد اعتدى على سيادته وشعبه. وارتكب فيه في خمس سنوات ما لا يُحصى من الجرائم التي تدخل في جرائم الحرب، وجرائم الإبادة ضد الإنسانية، وجرائم انتهاكات حقوق الإنسان.
فمن هذه الزاوية يكون العدوان الأميركي على سوريا جزءاً متواصلاً، من العدوان على العراق وأفغانستان والصومال وفلسطين ولبنان في عهد إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش فقط. وذلك بلا حاجة إلى ذكر ما قبلها.
2- أخذ العدوان على منطقة البوكمال شكل اقتحام للأجواء السورية من قبل مروحيات مع قصف وإنزال أرضي وعملية كوماندوز، وقد أسفرت عن استشهاد ثمانية مدنيين من بينهم أطفال وعائلة.
فمن هذه الزاوية يكون الاعتداء من النمط الإرهابي الموجّه ضد المدنيين مع سابق الإصرار والتصميم. فالبيان الرسمي الأميركي أعلن بأن الهدف هو قتل “مهرّب”. أي عملية اغتيال استهدفت شخصاً بعينه، وصُممت على معرفة. ولم يُذكر أنها واجهت مقاومة حتى تسوِّغ من قتلوا غيره. هذا ومن دون أن يُعلن عن اسمه أو يؤتى بدليلٍ عليه.
الأمر الذي يجعل هذه العملية، من هذه الزاوية، جزءاً من جرائم الإرهاب في إطار أي تعريف للإرهاب.
3- إدارة بوش دأبت على ارتكاب العدوان العسكري بتحدٍ صارخ ومدوٍ للقانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدّة، ولكل ما يُعلن عن احترام لمبدَأَيْ سيادة الدولة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والحرص على السلم العالمي، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. وبكلمة، اعتبرت إدارة بوش نفسها فوق القوانين والأعراف الدولية، وفوق الجميع، وبلا احترام حتى لحلفائها أو السائرين في ركابها.
ولهذا لا يستطيع أحد أن يُدافع عن سياساتها العدوانية جملة وتفصيلاً. ويدخل هذا العدوان الأخير ضمن هذا الإطار. وبالمناسبة فإن الخروج على كل القوانين والأعراف، واعتبار “المرء” لنفسه المشرّع لما يفعل والمقرّر الوحيد للفعل من زواياه الشرعية والقانونية والإنسانية سمة من سمات الإرهابي بامتياز. وذلك تحت أي تعريف للإرهاب.
4- العدوان المذكور على سوريا كشف زيف ما قيل عن مشروع الاتفاقية الأمنية التي طبخها البنتاغون مع حكومة المالكي من حيث التأكيد على عدم استخدام القوات الأميركية لأراضي العراق في العدوان على دولة مجاورة أو دولة أخرى. فقد جاء هذا العدوان من الأراضي العراقية على الجارة سورية كشافاً لذلك الزيف.
وجاء في الآن نفسه -من خلال تعليق الناطق الرسمي للحكومة العراقية علي الدباغ- كشافاً أيضاً لزيف تأكيد الحكومة العراقية بأنها حريصة على سيادة العراق، وبأنها حريصة على عدم استخدام أراضي العراق في العدوان على دولة مجاورة أو دول أخرى.
يدّل التصريح المريب الذي أعلنه الناطق الرسمي في تعليقه على العملية وتسويغه لها بصورة ملتوية -ولكن واضحة- على زيف ما جاء في مشروع الاتفاقية الأمنية، وزيف تفسيرات حكومة المالكي لها. فهذا العدوان إن تمّ بموافقة حكومة المالكي فتلك مصيبة، وإن تمّ من وراء ظهرها، مع تسويغها له لاحقاً فالمصيبة أعظم.
5- على أن السؤال الأساس الذي لا بدّ من أن يُطرح مع هذا العدوان وحوله، هو الهدف منه، وماذا يريد أن يحقق؟ ولماذا الآن؟ وكيف يمكن أن يُقرأ إلى جانب وضعه في إطار الطبيعة العدوانية لإدارة بوش.
قبل أن يُجاب عن هذا السؤال أو الأسئلة، لنتذكر تجربة من حلّلوا إرسال البارجة كول أمام الشواطئ اللبنانية والسورية. وكيف راحوا يُسهبون في الحديث عن الهدف منه، وما يُراد أن يُحققه، ولماذا الآن (في حينه) وكيف يجب أن يُقرأ. ثمّ لم تمر بضعة أيام حتى نُقلت البارجة باتجاه الخليج وإذا بقرار إرسالها كان ردّة فعل ارتجالية، أو في الأدّق لم يكن مدروساً ولم يأتِ ضمن خطة لها مقدمّاتها ولها ما بعدها.
وهكذا وجد المحللون أنفسهم يتطوّعون في تحليل الهدف من إرسال كول إلى الشواطئ اللبنانية والسورية بينما كان القرار الأميركي مرتجلاً متخبطاً ليس له من سياق في خطة مُحكمة، أو إستراتيجية متماسكة.
ولعلّ من يدقق في الكثير من قرارات إدارة بوش، ولنقل منذ نهاية العام 2006 سيجدها فاقدة للإستراتيجية، وذات طبيعة مرتجلة، بمعنى لم تدرس معها الخطوة التالية. ولم يكن لها من سياق محدّد.
طبعاً هذا غير مألوف في السياسة الأميركية تقليدياً. ولكن ما العمل مع إدارة منسلخة عن المألوف. وقد فقدت حتى الإستراتيجية التي وضعتها لنفسها مع مسلسل الإخفاقات حيثما “حلّت وارتحلت”.
هذا ما حدث معها، في قرارها الأحمق والفجّ، في دفع جورجيا للاعتداء العسكري على أوسيتيا الجنوبية وقوات السلام الروسية. وهذا ما يحدث في تعاملها كل يوم مع الأزمة المالية العالمية الخطيرة التي كانت هي (إدارة بوش) من المعجّلين بها والمصعّدين لها.
من هنا فإن العدوان على سوريا يدخل ضمن الارتجال والتخبط والقرارات المتسّرعة غير المدروسة، فضلاً عن طبيعته العدوانية الإرهابية الإجرامية. ولهذا فإن نتائجه اللاحقة ستكون في غير مصلحة أميركا من أوجُه عدّة.
ومن السياسات الحمقاء التي تستخدم العدوان العسكري ما يحدث منذ مدة من غارات عسكرية أميركية على منطقة وزيرستان في باكستان. فهذه السياسات لم يكفها تدهور نظام مشرف الذي أعطى لها ما لم يعطه حليف آخر حتى الذين كان لها الفضل الأول بوضعهم في سدّة الحكم.
إدارة بوش تعتبر أن من حقها عدم احترام سيادة الدول. وهو مبدأ إذا اختُرق لا يبقى من معنى للعلاقات الدولية. ولهذا كان من المبادئ القليلة التي اتفقت على التوقيع عليها كل الدول منذ معاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر. فقد كانت الأساس الذي قام عليه القانون الدولي وكانت منطلقاً لإقامة الدولة القومية الحديثة.
صحيح أن هذا المبدأ لم يُحترم دائماً. وصحيح أنه من الممكن تسجيل حالات كثيرة اخترق فيها، ولا سيما في القرن التاسع عشر. وكان ذلك شرط انتشار ظاهرة الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ولكن بقي المبدأ مسلماً بصحته وقد تكرسّ في ميثاقي عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدّة.
ولكن لم يسبق لحكومة أو لعهد، أن خرق هذا المبدأ، كما فعلت إدارة بوش لا سيما في القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لقد بدأت إدارة بوش عهدها الأول 2001-2004 بالكلام على السيادة المنقوصة، وانتهاء عهد احترام سيادة الدول. بل وصمت عهدها ولا سيما في العام 2002 بإدارة الظهر لهيئة الأمم المتحدّة وميثاقها، والإعلان بأنهما أصبحا من الماضي، ولم يعودا متناسبين مع المرحلة الجديدة والحرب العالمية ضد الإرهاب.
ولهذا شنت عدوانها على العراق واحتلته، مدّعيّة أن لا حاجة إلى موافقة مجلس الأمن. بل مؤكدة على أن الولايات المتحدّة حلّت محلّ مجلس الأمن وحلّت مكان حلف الناتو، بعد شطب “أوروبا القديمة” من حسابها.
وللغرابة فإنها وجدت عدداً من المنظرين السياسيين العرب لا سيما من اليساريين سابقاً، يسوّقون هذه السياسات والمواقف تحت دعوى “المتغيّرات العالمية الجديدة” بعد 11/9/2001. وأخذوا يبّشرون بنظام عالمي أحاديّ القطبية ستعمّ فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان بعد إزالة الأنظمة الاستبدادية والقضاء على الإرهاب. وقد أدرجوا بدورهم مقاومات الاحتلال ضمن إطار “الإرهاب” تماماً كما فعلت إدارة بوش وحكومة شارون.
بيد أن التجربة، وبوقت قصير جداً، أثبتت أن سياسات العدوان التي تنتهك القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدّة، وتحتكر لنفسها القرار الدولي ارتدّت على أميركا كلها، وليس على إدارة بوش وحدها. وها هي ذي موازين القوى الدولية والإقليمية العربية والإسلامية تشهد على ذلك. ثم جاءت الضربة القاضية بانفجار الأزمة المالية الأميركية وانفضاح النظام الرأسمالي الأميركي الذي فُرض على العالم.
وبهذا أصبحت إدارة بوش في حالة حيص بيص، وقد تركت مَنْ حولها من حلفاء، بما يُشبه حالة الذين تراهم سكارى وما هم بسكارى. وهو ما يفسّر تخبّطها في اتخاذ القرارات سواء أكان في السياسة أو الاقتصاد، وسواء أكان بالنسبة إلى الحلفاء أم الأعداء.
الأمر الذي يجعلها في السياسة والاقتصاد والعسكر تخسر على كل صعيد. وتترك حلفاءها يخسرون، ومَنْ تخاصمهم أو تعاديهم أو تسعى لتهميشهم يَكسبون بالضرورة.
ليس ثمة ما هو أشد دلالة من جهة الحلفاء الذين يخسرون من مثال باكستان. فمنذ أن قرّر الجنرال برويز مشرف التحالف مع إدارة بوش ضد أفغانستان، بما في ذلك تسهيل غزوها واحتلالها بدأ وضعه الداخلي بالتدهور.
ومنذ أن راحت أميركا تعتدي على سيادة باكستان من دون الرجوع إلى أخذ الإذن بقصف الداخل الباكستاني وارتكاب مجازر بحق المدنيين، وبمستويات أكثر بكثير مما حدث مع سوريا في العدوان الأخير بدأت تخسر الكثير من الصداقات.
ولكن الفارق بين من يُعتدى على سيادته وهو حليف لأميركا، وبين من يعتدى عليه وهو غير حليف أن الثاني يصبح أقوى إذا ما صمد وواجه، بينما يصبح الأول أضعف إلى حد التهاوي والسقوط إذا لم يخرج من تحت العباءة الأميركية، كما حدث مع مشرف. وما قد يحدث مع العهد الباكستاني الجديد إذا لم يضع حداً للعدوان الأميركي.
لكن من الجهة الأخرى يجب أن يوجّه النقد الصارم للأمين العام لهيئة الأمم المتحدّة لسكوته عن كل تجاوز لسيادة الدولة واعتداء عليها. وهو ما يجب أن يوجّه بقوّة لمنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ودولهما، مجتمعة ومنفردة، في عدم اتخاذ إجراءات تتعدّى الاحتجاجات الخجولة، أو التعليقات الملتوية.
وإنه لمن البديهي أن هذه المواقف الضعيفة، والتي تفوح من بعضها رائحة التواطؤ، هي التي جرّأت إدارة بوش حتى اليوم على الاستمرار في سياسات العدوان. ولولا ذلك لما تورّطت إدارة بوش بكل هذا التمادي والعدوان، ولما تدهور وضع أميركا إلى هذا الحد المريع. مما يزيد صدقية القول: ربّ ضارة نافعة.
ــــــــــ
كاتب فلسطيني
الجزيرة نت