صفحات سورية

الغـارة علـى سوريـا فضحتنـا

فهمي هويدي
الخبر السيئ أن سوريا تعرضت لعدوان عسكري اميركي. أما الخبر الأسوأ فإن العالم العربي وقف إزاءه ذاهلا ومشدوهاً. والبيانات التي صدرت عن عواصمه الكبرى جاءت خجولة على نحو محزن، جاء كاشفاً عن عمق أزمة البيت العربي.
الخبر أعلن على الملأ مساء الأحد قبل الماضي (٢٦/١٠) على لسان مصدر سوري، أن أربع مروحيات أميركية هاجمت في الساعة الرابعة بعد الظهر منطقة البوكمال، التي تبعد ثمانية كليومترات عن الحدود مع العراق. وقامت بإنزال مجموعة من جنود القوات الخاصة، الذين هاجموا مزرعة السكرية، واقتحموا مبنى مدنياً قيد الإنشاء، حيث أطلقوا النار على العمال الموجودين بداخله، ما أدى إلى سقوط ثمانية شهداء، بينهم زوجة الحارس. وبعد انتهاء العملية غادرت المروحيات الأراضي السورية إلى قواعدها في العراق، دون أن تتصدى لها أية دفاعات جوية.
في وقت لاحق، نقلت وكالات الأنباء عن مسؤول أميركي قوله إن القوات التي نفذت الغارة قتلت زعيم أخطر شبكة لتهريب المسلحين والأسلحة والأموال من سوريا إلى العراق. وذكر المسؤول أن الزعيم الذي يظن أنه قتل يدعى »أبو غادية«، ويعد من أكبر مهربي المقاتلين الأجانب، وقال المتحدث باسم حكومة بغداد إن منطقة البوكمال كانت مسرحاً لنشاطات تنظيمات معادية للعراق، تنطلق من سوريا.
السبب الذي بررت به المصادر المختلفة العملية لم يكن مقنعاً، لأنها تمت في الوقت الذي تعددت فيه الإشارات الاميركية الى تقدير الجهود السورية المبذولة للحد من عمليات التسلل إلى العراق عبر الحدود. ونقل عن جنرال عسكري أميركي قوله إن معدل تسلل المقاتلين »الأجانب« تراجع إلى حد كبير، بحيث وصل مؤخراً إلى حوالى ٢٠ شخصاً فقط في الشهر، فيما كان المتوسط الشهري ١٢٠ متسللاً قبل عام. كما أن الغموض ظل يكتنف الهدف من العلمية. فمن قائل بأنه أريد بها تعزيز موقف السناتور ماكين مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة، ورفع أسهمه في سباق الأيام الأخيرة قبل الاقتراع. وقائل بأن الرسالة أريد بها »شد أذن« السوريين، وتذكيرهم بأن بيتهم من زجاج، وأن الذراع الاميركية يمكن أن تطوله في أي وقت، وهناك من قال إن الرسالة موجهة للإيرانيين الذين يزعجون الاميركيين في العراق، ويعطلون توقيع الاتفاق الأمني بين بغداد وواشنطن. باعتبار أنه إذا كان المبنى الذي قصف في سوريا بحجة أنه كان مأوى »للارهابيين«، فإن الحجة ذاتها يمكن استخدامها في مواجهة إيران لأنها متهمة بأكثر من إيواء الإرهابيين. أقصد بالتمويل والتدريب والتسليح وغير ذلك.

مهما كانت الذرائع أو الخلفيات فالقدر الثابت أن الولايات المتحدة لم تتردد في إرسال طائراتها لاختراق الأجواء السورية، والقيام بإنزال عسكري على أراضي دولة لها سيادتها، في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي. وهذا الذي فعلته واشنطن بحق سوريا، سبق أن أقدمت عليه في اليمن والصومال وأفغانستان وباكستان، حيث قصفت قواتها أهدافاً مختلفة بحجة محاربة الإرهاب وملاحقة الإرهابيين، دون أدنى احترام لسيادة الدول أو حرمة حياة مواطنيها. وهو مسلك لا يهدر فقط أسس التعايش بين بني البشر التي أقرها المجتمع الدولي منذ إنشاء »عصبة الأمم« في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وإنما أيضاً يعبر عن مدى الهوان الذي أصبح يعيش في ظله العالم العربي والإسلامي، فلا احترام لسيادته أو كرامته ولا اعتبار لشعوبه، التي يمكن أن تطولها العربدة الأميركية في أي وقت ولأي سبب. ونموذج الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين التي تساندها واشنطن، مرشح للاستنساخ في علاقة الولايات المتحدة بالعرب والمسلمين حيث وجدوا، الأمر الذي يعني أن أي تمرد على الهيمنة الاميركية أو المقاومة لها، مرشح لأن يقمع على الفور، بالقوة المسلحة وبالطائرات التي تسير بلا طيار.
المسألة تتجاوز استباحة العالم العربي والإسلامي والازدراء به. إلى تأسيس مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تتصور الولايات المتحدة في ظلها أنها أصبحت القطب الأوحد، وأن ذلك يخول لها أن تقدم إرادتها ومصالحها على كل ما في مبادئ القانون وميثاق الأمم المتحدة، خصوصا ما كان منها متعلقاً بسيادة الدول على أراضيها. وقد اعتبرت الإدارة الاميركية ان عنوان الحرب ضد الإرهاب مسوغاً للانقلاب على فكرة منع التدخل في شؤون الدول الأخرى الأعضاء في الأمم المتحدة، والانتقال إلى »حق« التدخل بدعوى الأسباب الإنسانية، وتوجيه »الضربات الاستباقية« لإجهاض المخططات الإرهابية. وهو السلوك الذي حذت روسيا حذوه في اجتياح جورجيا. ويخشى أن تنتقل عدواه إلى الدول الأخرى التي تستشعر قوة وتفوقاً في محيطها فتستخدم عضلاتها تلك في فرض إرادتها على جيرانها الضعفاء، الأمر الذي يعيد بالعالم إلى الوراء، ويعيد إلى الواجهة شريعة الغاب مرة أخرى.
أصداء الغارة على سوريا تحتاج إلى دراسة وتحليل. فأقوى وأسرع تلك الأصداء عربياً جاءت من لبنان عن رئيس وزراءه فؤاد السنيورة، الذي أصدر مكتبه بياناً شديد اللهجة، اعتبر ما جرى اعتداءً خطيراً، مداناً ومرفوضاً وغير مقبول، مهما كانت الحجج التي سيقت لتبريره. أما أقوى الأصداء العالمية فقد خرجت من موسكو التي أدانت العملية، واعتبرت تأثيرها سلبياً وحاداً على المنطقة، على نحو خطر يهدد الاستقرار فيها.
خارج هذه الدائرة، فإن ردود الأفعال العربية كانت فاترة بصورة مدهشة. فمصر مثلاً أصدرت بياناً على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية، اعتبر العملية خرقاً جسيماً لسيادة سوريا على أراضيها، وأعرب عن الأسف لوقوع ضحايا مدنيين من جرائها، وقدم التعازي لسوريا وأسر الضحايا. كما أضاف البيان أن مصر تهيب بجميع الأطراف بضرورة الامتناع عن أي أعمال أو إجراءات أو تحركات من شأنها زعزعة الاستقرار في الاقليم أو أي دولة من دوله، والالتزام بمبادئ حسن الجوار (الأهرام ٢٨/١٠/٢٠٠٨).
بيان المتحدث الرسمي فاجأنا بأنه خلا من أي إدانة للغارة، التي وصفها بأنها »خرق جسيم« لسيادة سوريا، وذلك وصف وليس حكماً أو تقييماً. ثم إنه أهاب بالأطراف المختلفة أن تمتنع عن كل ما من شأنه زعزعة استقرار المنطقة. وهي صيغة غريبة ساوت بين القاتل والقتيل، ووضعتها على قدم المساواة. إذ طبقاً للبيان فإن الجاني الولايات المتحدة، وسوريا المجني عليها يتحملان المسؤولية، ومطلوب منهما معاً أن يمتنعا عما من شأنه زعزعة الاستقرار.
السعودية التزمت صمتاً مثيراً للانتباه، الأمر الذي لا يفسر إلا بأنه تعبير عن عمق الأزمة بين الرياض ودمشق. التي كانت مقاطعة القمة العربية الأخيرة في العاصمة السورية من تجلياتها. والتجاهل السعودي للموضوع لم يمنع بعض الصحف المحسوبة عليها من الغمز في قناة سوريا والشماتة فيها. وكان ذلك واضحاً في تعليق رئيس تحرير صحيفة »الشرق الأوسط« على الموضوع. فقد كتب (في ٢٩/١٠) مقالاً وجه فيه النقد لسوريا وليس للأميركيين. إذ تحدث عن ورطة ضرب سوريا. وقال إن جل ما اعتقد (السوريون) أنه أوراق في يد دمشق تستطيع استخدامها عربياً ودولياً، مع الأميركيين والإسرائيليين وكذلك مع الأوروبيين، قد احترق بيد السوريين قبل استخدامه.
بقية الأصداء العربية كانت عادية، وظلت تدور في فلك الإدانة والشجب، بما في ذلك بيان الجامعة العربية، التي كان يفترض أن يتوجه أمينها العام إلى دمشق في اليوم التالي للغارة مباشرة، تعبيراً عن التضامن والمساندة السياسية على الأقل. إلا أنه كان في القاهرة مجتمعاً مع الرئيس الإيطالي، ومهتماً بمشاركة الجامعة في اجتماعات الاتحاد من أجل المتوسط، وفي اليوم الذي يليه طار إلى الكويت لحضور اجتماعات المؤسسات المالية العربية!
ليس هذه المرة الأولى التي تنكشف فيها عورة الموقف العربي، إلى الحد الذي نجد فيه أن إدانة عواصمه لأي عملية فدائية ضد إسرائيل أصبحت أقوى من إدانة العدوان الأمـيركي على سوريا. كما أنها ليست المرة الأولى التي نلحظ فيها السقوط المدوي لفكرة »التضامن العربي«. فقد تكررت أمثال هذه المشاهد في مواقف عدة من قبل، كان الموقف من المشاركة في قــمة دمشق من أشهرها. ونحمد الله أن محاضر اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية لا تنشــر على الملأ، لأنها تفضح حقيقة الخلافات بين الدول العربية، حتى يبدو أن التضامن الوحيد في العالم العربي ليس متحققاً إلا في اجتماعات وزراء الداخلية العرب التي تنعقد بانتظام مشهود في تونس!
هذه الخلافات المستحكمة أصابت في مقتل نظرية الأمن القومي العربي، فانكشفت دوله حتى فقدت هيبتها، وأصبحت مستباحة لكل من هب ودب من المستكبرين والمتغطرسين. وما تفعله إسرائيل بالعرب والفلسطينيين شاهد على ذلك، وما يتعرض له السودان من تمزيق واغتصاب شاهد آخر، وما حل بالعراق شاهد ثالث، والعبث بلبنان شاهد رابع، والعدوان على سوريا أحدث الشواهد.
من النتائج البائسة التي ترتبت على ذلك أن انفراط الصف العربي أضعف الوشائج التي تربط بين شعوب الأمة، حتى سرب إليها حالة من الانصراف عن الشأن العام، ولعب الإعلام الموجه دوراً خطيراً في ذلك. وإذا استثنينا قضية فلسطين التي ما زالت حاضرة بدرجة أو بأخرى في وجدان الأمة ـ دعك من بعض أنظمتها ومثقفيها ـ فإن الشارع العربي أصبح أكثر انفعالاً بالقضايا المحلية، حتى أصبحت مصر مثلاً مشغولة بقضية هشام طلعت مصطفى والفنانة اللبنانية سوزان تميم أو بانهيار الصخور في الدويقة، وبمباريات الأهلي والزمالك، فيما تتعامل بعدم اكتراث مع الحاصل في غزة أو السودان أو سوريا ولبنان.
لست أشك في أن غياب دور مصر، وانكفاءها التدريجي خلال ربع القرن الأخير على الأقل حوّل العالم العربي إلى سفينة بلا ربان، وجسم بلا رأس، الأمر الذي كان له إسهامه الكبير في حالة الانفراط الراهنة. وهو ما يبرز الحاجة الملحة إلى ظهور »مخلّص« يجمع شمل العرب وينقذهم من التشرذم والضياع. ومن المفارقات أن هذه الدعوة أطلقها أيضاً وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر، الذي كتب مقالاً عنوانه كالتالي: »الحاجة إلى جان مونيه عربي«. وهو ما لفت انتباهنا إليه المثقف اللبناني البارز رغيد الصلح، في مقالة نشرتها له صحيفة »الحياة« اللبنانية (في ٣٠/١٠)، وجان مونيه هذا رجل فرنسي ولد قبل ١٢٠ عاماً، وظل يناضل طول حياته دفاعاً عن الحلم الأوروبي، حتى اعتبر الأب الشرعي للاتحاد الأوروبي الراهن، وأطلق عليه اسم »مواطن الشرف الأوروبي الأوحد«.
الوزير الألماني السابق لم يجد سبباً لاستمرار تشرذم العالم العربي، واعتبر أن ظروفاً كثيرة تستدعي التئام صف دوله وتعاونها في ما بينها، خصوصاً أن المشتركات في ما بينها أقوى بكثير مما هو متوافر لأي مجموعة إقليمية أخرى. وقد تحدث عن التحدي البيئي الذي يستدعي تعاون الدول العربية في ما بينها، وكان ذلك قبل بروز شبح الأزمة الاقتصادية العالمية التي لا بد من أن تؤثر على العالم العربي، خصوصاً دول النفط منه، الامر الذي يضيف سببا قويا آخر للتنسيق والتعاون العربيين.
حين وقعت على مقالة فيشر قلت: لماذا لا يسدي الرجل لنا خدمة، ويقوم من جانبه بدور جان مونيه، بحيث يقنع الزعماء العرب بوجهة نظره؟!
([) كاتب مصري
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى