دعوى على الديموقراطية
محمد ابرهيم
الدعوى التي قدمها المدعي العام لمحكمة التمييز في تركيا لحظر حزب العدالة والتنمية الحاكم تعيد فتح ملف كان من المعتقد انه سلك طريقه في ما سُمّي النموذج التركي للديموقراطية في بلد اسلامي كبير.
الطلب بحد ذاته، وفي حق حزب حاكم، يعلن ان مراكز السلطة لم تتقبل او لم تستسلم لواقع التغيير التدريجي الذي تعيشه تركيا من النظام العلماني المتشدد الى النظام الاسلامي المنفتح.
هو نظام اسلامي في نظر خصومه العلمانيين مع انه يحصل على اسلاميته باللجوء الى صناديق الاقتراع، ويلجأ الى اوروبا كي تعينه بمعاييرها على كبح مراكز القوة في النظام الاتاتوركي عن تغيير قواعد اللعبة الديموقراطية من اساسها.
ولا ينفع في اثبات خطأ المراكز العلمانية، او في تنبيهها الى خطر ما تسعى لاقترافه بحق الديموقراطية التركية الراهنة، الاشارة الى ان اللون الاسلامي للحكم لا يكاد يظهر. وحتى في حال ظهوره فانه يأتي ليضع حدا لاجراءات القسر العلمانية في وجه مظاهر اسلامية بسيطة كالسماح بارتداء غطاء الرأس في الجامعات.
ذلك ان العلمانية الاتاتوركية تشير في المقابل الى النَفَس الطويل الذي يعتمده الاسلاميون في “أسلمة” المجتمع، والى ان الوتيرة ستتصاعد مع سقوط الحواجز العلمانية في الجامعات والقضاء والجيش.
قد ترفض المحكمة الدستورية في تركيا النظر في الدعوى من حيث الاساس، وتجنب البلاد ازمة كيانية، لكن مغزى الخطوة لا يخفى، وهو ان بقايا مراكز السلطة العلمانية لن تنتظر حتى تفقد سلطتها تدريجا وموقعا اثر موقع ولو وفق الاجراءات الدستورية المعتمدة.
هذه الاجواء التي دخلتها تركيا فجأة، تعيد التذكير بانها تنتمي حقيقة ليس الى اوروبا التي ما زالت توصد ابوابها امامها باعذار شتى تغطي اعتبارا واحدا هو اسلامها، وانما الى عالمها الاسلامي حيث المشكلة واحدة وإن اتخذت اشكالا ودرجات متفاوتة بتفاوت تطور مجتمعاتها.
ففي الوقت الذي تدخل فيه تركيا ازمتها “الدستورية” من بابها العريض، يتخبط البلدان الاسلاميان الاكبران مصر وايران في مشكلة شبيهة، وإن من موقع مختلف.
الانتخابات البلدية المصرية تشهد العاب الكرّ والفرّ المعروفة لمنع الاخوان المسلمين المصريين من التقدم بحرية بترشيحاتهم. وهو ما يُسمى الغاء المشكلة من المنبع اي منع الترشيح لتجنب الاضطرار الى التزوير في نهاية العملية، او مواجهة نجاح المرشح الاسلامي.
اما لماذا يفوز الاسلاميون المصريون حيث تتاح عملية ديموقراطية نزيهة، فالاسباب ليست بعيدة من تلك التي تجعل الاسلاميين الاتراك يفوزون بسهولة في الانتخابات العامة، وكلها تعود الى خبرة المواطنين مع انظمة استهلكت منطلقاتها منذ عقود على الاقل.
ولم يبق امام النظام المصري ما يستر به مزيج القهر والتزوير لكبح الاسلاميين سوى الفكرة “النبيلة” التي تقول انه ينبغي الفصل بين السياسة والدين مع التحذير من العواقب الوخيمة للاختلاط بينهما على تماسك المجتمع المتنوع دينيا.
هذه الحجة الفعالة في اوساط ضيقة في مصر، نظرا الى ضحالة الجذور العلمانية في المجتمع المصري، تتمتع بفاعلية اكبر في تركيا حيث تشكل العلمانية البيئة الطبيعية لقطاعات حديثة واسعة في المجتمع، ومع ذلك فهي غير قادرة على خوض التحدي في صناديق الاقتراع حيث يبدو سريعا ان مزيج الاعتبارات المقابل يجعل الاكثرية تفضل اي بديل عن الفساد المجرّب.
الصورة المعاكسة، لكن ذات المنطلقات الواحدة نجدها في ايران، حيث الشرعية الاسلامية اساسها الثورة، مثلما الشرعية “العلمانية” في مصر اساسها ثورة اسبق، وفي تركيا ما هو اكبر من ثورة في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
ايران الاسلامية تريد ان تظهر بمظهر من يحترم العملية الانتخابية. وهي لم تكن تشكو في منطلقاتها من اي خوف في قصور “شعبيتها”. وهي لا تزال اليوم قادرة على التجييش، لكنها مع ذلك تشكل سلوك من يخشى ليس فقط غير الاسلاميين، وانما تخشى الاسلاميين الاصلاحيين، الذين يمرون في مطلع كل عملية انتخابية في مطهر التدقيق في الاسماء الصالحة للترشيح، وخلف ذلك الارادة المفهومة للمرشد الذي يحدد “الجو العام” للمؤسسات التمثيلية الايرانية في تشكيلاتها المتعاقبة.
علمانيون حقيقيون او مزيفون يحجزون خصومهم الانتخابيين باعتبارات لاانتخابية، واسلاميون واصلون يرفضون منح خصومهم لا بل اشباههم حق الاحتكام لصندوق الاقتراع، وازمة ما يسمى الديموقراطية في البلدان الاسلامية تستمر في البحث عن نموذجها الذي تعلن ولادته و”سرعان” ما نصبح في مراسم الوفاة.