حول فرادة الانتخابات الأميركية
حسن شامي
ثمة شواهد كثيرة تعزز الانطباع السائد بأن العالم كله عاش وإن لأيام أو أسابيع قليلة، على ايقاع الانتخابات الأميركية كما لو أنها انتخابات لرئيس العالم. وقد ساهمت المشهدية المعولمة والتغطيات الإعلامية والدعوية المكثفة اضافة الى الملاحقة المثيرة لاستطلاعات الرأي والتقديرات الاحصائية في انشاء صورة عن تشكل إجماع أو شبه إجماع عالمي على فرادة الحدث الانتخابي. ومع أن الحدث هو تعريفاً، ما لا يحدث إلا مرّة واحدة، فإن أجزاء كبيرة من العالم، كانت قد أخذت تعتاد، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وجدار برلين، على اعتبار الانتخابات الأميركية حدثاً عالمياً من حيث النتائج والمفاعيل على الأقل، ما دام يتضمن تأكيداً على زعامة الولايات المتحدة للعالم وإن تفاوتت أشكال التعبير عن هذه الزعامة.
وهذه الملاحظة تميز التساؤل عن مكمن ومدار الفرادة الفعليين للانتخابات، وهي تجيز كذلك التساؤل عن شروط ارتسام الاجماع المعولم على الفرادة والاستثنائية. فنحن نعلم أن الاجماع، أي إجماع، القبلي منه أو غير القبلي المتولد في مجتمعات وثقافات تعرف التفاوت والانقسام، يحجب في الواقع لغات ورهانات متنوعة وربما متنازعة. الاجماع عقدة دلالات يقتضي التقاطها واعادة موضعة الحدث على المستويات المناسبة لعمل دلالاته.
قد يكون الوجه الرمزي البارز هو الفرادة المشار اليها. فليس أمراً مألوفاً أن يخوض رجل أسود اللون (بالأحرى خلاسي) ومتزوج من امرأة سوداء تعتبر نجاحها وترقيها استثناء وليس القاعدة، انتخابات رئاسية ويفوز بها. والوجه الرمزي هذا يطاول التاريخ المعقد والحافل بوثبات ونزاعات ونضالات تتعلق بحقوق الملونين السود منذ حرب الانفصال بين شمال أميركا وجنوبها حول الغاء الرق الذي كان أهل الشمال يطالبون به فيما يتمسك الجنوبيون بالمحافظة عليه.
ثمة بالطبع من يجد في هذا البعد الرمزي تفسيراً لارتفاع نسبة الاقتراع وبلوغها حداً قياسياً. وقد يكون صحيحاً ان بيئة الافارقة الأميركيين، خصوصاً الشبان، شهدت درجة عالية من الحراك والتعبئة وبالتالي اقبالاً غير مسبوق على الاقتراع، مما استدعى حراكاً مشابهاً في أوساط الجمهوريين. على أن تصوير فوز أوباما كتحقيق لمعجزة تستحق ابتهاجاً استثنائياً، يحتاج الى التدقيق، أي الى اعمال الفكرة بعد انتهاء سكرة الابتهاج. فأوباما، لم يقفز من الشارع الى البيت الابيض، ولم يقفز من كابوس الهامش الى الاسطورة، ولم يأتِ من عدم اجتماعي الى كينونة ممتلئة. فهو في النهاية، وهذا ما يؤخذ بعين الاعتبار، مرشح مؤسسة كبرى (الحزب الديموقراطي) بعد الفوز بانتخاباتها الأولية ضد منافسته هيلاري كلينتون، وقد حظي بتأييد مؤسسات اقتصادية واعلامية وازنة ونافذة، وخاض حملة انتخابية ناجحة وعالية التمويل والنشاط، وعرف كيف يرهّف خطابه الانتخابي ويصبّه على الهويات (تحديداً تمثيله لتطلعات الطبقة الوسطى) بحيث يحض قطاعات واسعة من السود المستنكفين عن الاقتراع، على الخروج من قدريتهم المتوارثة، دون أن تكون بالضرورة راسخة وثابتة، ويطمئن في الوقت ذاته قطاعات واسعة من البيض واللاتينيين مكرراً القول بأنه مرشح الوحدة الوطنية الأميركية، لا الانتقام، دون أن يغفل ثقل المسألة العرقية في التاريخ الاجتماعي والسياسي للولايات المتحدة، ولكن كذلك دون اختزال التجربة الأميركية الى بُعدها العرقي فحسب. وليس بلا طائل التذكير بأن الجمهوريين ساهموا هم أيضاً وعلى طريقتهم الاستيعابية على الأرجح، في فتح أبواب الوظائف العليا للدولة أمام المتحدرين من بيئات الملوّنين السود واللاتينيين وغيرهم، كما هي حال كولن باول وكوندوليزا رايس مثلاً.
الرمزي هو أيضاً معقد المخاوف والهوامات بقدر ما هو موئل الآمال والتطلعات الخلاسية. ولقد لبعت الأزمة المالية العالمية دوراً في اعلاء شأن الرمزي هذا، ومعه تحويل الانتخابات الى رهان عالمي. فقد كشفت هذه الازمة عن حجم التشابكات والترابطات، المرئية وغير المرئية التي تشد المؤسسات والشركات المالية الى بعضها البعض بحيث يتحول افلاس مؤسسة أميركية جازفت بمضاربات وقروض عقارية مغشوشة الى أزمة مالية تطاول العالم كله. على أنه لا مبالغة في القول إن الارث الثقيل لولايتي جورج بوش بلغ من الثقل حداً جعل كثيرين يتمنون الخلاص منه بأي ثمن. وقد دفع جون ماكلين ثمن هذه الرغبة في الخلاص من مغامرة متصلة باتت في مخيلة كثيرين امارة على التهور.
لقد ساهمت سيرة بوش وتجربته في دفع قطاعات واسعة من الأميركيين الى معانقة ما يحسبونه نقيضاً له. وبلغ الأمر حداً استثنائياً، اذ اعلنت شبكة «سي أن أن» أن 76 في المئة من الأميركيين يرفضونه ويحكمون عليه سلبياً، وهو رقم قياسي لم يبلغه حتى ريتشارد نيكسون في عز فضيحة دوترغيت. وقد بدأت منذ اسابيع حفلة غسل الايدي منه، واحياناً بطريقة منافقة. لقد أصبح أبو الفضائل مرذولاً. وهو في مزاوجته بين القسيس والمحارب التي تستنهض صورة شائعــــة من القــــرون الوسطى، لم يفعل سوى زج بلد كبير بكامله في تصفية حســـاب مــــع سنوات شبابه الشقــــي. يمكــــن لروائــــي أقل براعة مــــن فوكنر صاحـــب «الصخب والعنف» ان يجد في الرواية العائلية لجورج دبليو وشقاوته وطيشه، ما يفسر بعض وجوه السياسة الأميركية في الداخل والخارج. الولد الضال استأنف قدرياً، داخل فعل الهواية الذي ينسبه الى سيرته الذاتية، ضلالته الى حد توريط البلد الأميركي بها. ثمة بالتأكيد دهاقنة راهنوا عليه وعلى غريزيته ونزقه مثله مثل الابن الثالث والمتهور في رواية «الصخب والعنف». هؤلاء الدهاقنة اسمهم المحافظون الجدد.
اذا كان جورج دبليو سيذهب على الارجح نحو عزلة صاخبة وعنيفة، فالاختبار الذي يتعرض له أوباما لن يكون خلواً من الصعوبة والقسوة. لن نطلب منه توجيه لوم الى كبير موظفيه في البيت الابيض، رام ايمانويل، بسبب تصريح عنصري أدلى به والده الطبيب الذي انتسب الى عصابات «ايرغون»، الى صحيفة اسرائيلية، حيث رأى مبتهجاً ان تعيين ابنه الذي خدم متطوعاً في الجيش الاسرائيلي عام 1991، يعني ان اسرائيل اصبحت في قلب البيت الابيض. فهل هو عربي؟ وهل سيكون هناك للكناسة والتنظيف، بل هو هناك للتأثير، بحسب عبارات الطبيب الأب. لن نطلب منه ذلك، فهو لم يتسلم عمله بعد. على أن المبدأ يقتضي ان نطالبه في وقت قريب بذلك ليس حباً بالعرب، بل بالمبدأ الذي أوصله الى الرئاسة.
الحياة – 16/11/08