… إنه مواطن زمن العولمة
صالح بشير
أنتجت العولمة اقتصادها، وسائلها التقنية، ثقافتها (وإن ببعض تحفظ على ما كان من تلك الثقافة استهلاكيا منمّطا)، سياساتها (وإن بتحفظ أشدّ حيال بعض مظاهر تلك السياسات أو جلّها)، جمهورها المقبل عليها المستفيد منها، أعداءها ممن ينبذونها إلى درجة المقت والعنف، وها أنها، ولأول مرة، تنتج مواطنها، برز على مسرح التاريخ، بمناسبة الانتخابات الأميركية الأخيرة، فاعلا مختارا، بل سيّدا في المقام الأول، يملي التاريخ ويحدد وجهته، يتخذ من بطاقة الاقتراع أداة خارقة المفعول والفاعلية، تبزّ، على بساطتها المذهلة، كل «آلة» أخرى ابتدعها الإنسان…
مواطن زمن العولمة هو إذاً ذلك الذي كان بطل الحدث الأميركي الأخير، دشن وجوده في التاريخ بأن انتخب الإفريقي-الأميركي باراك أوباما رئيسا للدولة التي لا تزال، بالرغم مما أصابها من انتكاس، القوة العظمى الوحيدة، بل ربما عوضت بعض ما افتقدته من عناصر العظمة، في عهد جورج بوش وعلى يديْه، باقتراعها الأخير هذا الذي بوّأها، بين الأمم، منزلة أخلاقية رفيعة ومكّنها من استعادة مَلكة كانت من نصيبها ومن سماتها الفارقة طوال معظم تاريخها، تلك المتمثلة في القدرة على اقتراح صيغ المستقبل واجتراحها.
وجد مواطن زمن العولمة ذاك في أوباما التجسيد الناجز، تتكثف فيه عناصر ومكوّنات نظرته إلى بلاده وإلى العالم، كما يراهما أو يتوق إلى رؤيتهما. تحقق ذلك على نحو لا يكاد يتحقق عادة في الواقع ولا يتسنى إلا عبر «تجارب ذهنية»، تبتدع، من باب تقريب صورة أو فكرة، «شخوصا افتراضيين»، على ما فعل ديكارت مثلا حين تصور، في معرض وصف شكّه المطبق، «ماردا شريرا» كلي المعرفة، يقوم بخداعه ويدأب على إيقاعه في الخطأ، أو على ما فعل الفيلسوف الأميركي جون راولس حينما تخيّل، في إطار نظريته حول العدالة، فاعلا اجتماعيا، اشترط فيه «ستارا من جهل» يحجب عنه الحالات الخاصة (وكل الحالات خاصة)، فيضمن بذلك حياده السياسي-الأخلاقي في التعاطي مع سواه. أما مواطن زمن العولمة، أما الناخب الأميركي، فوجد مثل ذلك الشخص المجسد لنظرته للعالم المستجدّ في الواقع، في رجل ملوّن، ذي سيرة كوسموبوليتية أضحت معلومة لدى القاصي والداني بما يغني عن إعادة سردها.
غير أن الناخب ذاك لم يكن براءً تمام البراءة من «اختراع» أوباما. صحيح أن ترشح أوباما كان تلقائيا غير موعز به على الأرجح، لكن الترشح ذاك ما كان له، في ذاته، أن يمكّن صاحبه مما بلغ وحقق. فالرجل شاب، قليل التجربة غض العود في عالم السياسة، كان غُفلا أو في حكم الغفل قبل سنتين خلتا، فضلا عن تأتّيه من الهامش الاجتماعي والعرقي الذي نعلم. وصحيح أنه رفع شعارات سخيّة، ودافع عنها بحرارة وبموهبة، من دعوة إلى التغيير ومن تبشير بمجتمع ما بعد عرقي، ولكن لم يكن في كل ذلك، مبدئيا، ما من شأنه أن ينأى به عن منزلة «صغار المرشحين»، أن يجعل منه رالف نادر جديدا، مثلا لا حصرا. ما جعل من أوباما الرئيسَ أوباما، ما أكسبه مصداقية ووزنا، إنما هي تلك الاستجابة له وذلك الالتفاف من حوله، من قبل جمهور الحزب الديموقراطي أثناء الانتخابات التمهيدية، ثم الناخب الأميركي، في الاقتراع الرئاسي الأخير.
قبيْل ذلك الاقتراع بأيام معدودات، كتبت بيغي نونان، وهي من عتاة الريغانيين، في صحيفة «وول ستريت جورنال» تقول: «شيء جديد يحصل في أميركا. إنه الحلول الوشيك للحظة ليبرالية جديدة» (و»الليبرالية» في قاموس الأميركان تعني ما يعنيه «اليسار» لدى سواهم). والكاتبة محقة في ذلك بالتأكيد، ما دامت الرئاسة قد آلت إلى الحزب الديموقراطي، بأغلبية مريحة لم تتحقق له منذ ثلاثينات القرن الماضي، وما دام الناخب الأميركي قد نبذ النيو-ليبرالية المغالية التي يأخذ بها الجمهوريون، وبات يتوق إلى شيء من عدالة اجتماعية وإلى قدر من حس تضامني. لكن الملاحظة تلك تظل مع ذلك قاصرة. إذ لم يكن انتخاب أوباما مجرد تفضيل لتيار «إيديولوجي» أو لمقاربة سياسية ولم ينحصر في ذلك، بل هو، بمعنى من المعاني، خروج نحو الأعلى من الثنائية الحزبية، كما استقرت تقليدا مديدا في الحياة السياسية الأميركية، حيث تنكب الناخب الاقتراع الأخير وسيلة وأداة لإعلان هويته المستجدّة بوصفه مواطن زمن العولمة.
إذ لو طلب ذلك الناخب مجرد الحد من صلف النيو-ليبرالية لوجده عند هيلاري كلينتون، ولو نشد مجرد التماهي، في زمن البؤس البوشي وإخفاقاته الكثيرة والمذلّة أحيانا، مع بطلٍ أميركي لعثر على ضالته في جون ماكين، وهو الذي يعكس تلك الصورة إلى درجة الكاريكاتور ربما. لكن الناخب ذاك أراد سخاءً من غير ذلك الضرب (اليساري التقليدي) وبطولة من غير تلك الطينة. أراد مرشحا يشبهه في ما آل إليه، كائنا لا ينحصر في فضاء الدولة-الأمة (وإن كان كذلك من الناحية القانونية)، مختلط الأنساب ملتبس الهوية متعدد مستويات الانتماء ومراتبه، ضالعا في ثقافات شتى، خلاسيا شاملا إن جازت العبارة، وواقعيا فوق ذلك إلى أبعد حدود الواقعية، لأنه، من وجهٍ، يعي بأنه لم يعد هناك من مشاكل، من تحديات، تتعلق بالاقتصاد أو بالبيئة أو سواهما، محلية يُحسم أمرها بقرار محلي، ومن وجهٍ آخر، لأنه لا «يطلب كل شيء فورا»، ولا يُقبل على التغيير إقبالا ثوريا، انقلابيا، بل يحسن استخدام بطاقة الاقتراع وصناديقه، فينجز بواسطتها أعمق الثورات وأبعدها غورا.
والمواطن ذاك، بهذا المعنى، سليل جيل الستينات، جيل ذلك الاندفاع الشبابي الذي خاض معركة الحقوق المدنية في الولايات، وبذل بالغ السخاء في مناصرة الشعوب المقهورة، ودك أسوار المحافظة والتزمت الأخلاقيين والاجتماعيين اللذين كانا مطبقين في قلب مجتمعات الحداثة. جيل الانفتاح على الآخر في أقصى مظاهره، ذلك الذي كان أوباما، وهو ابن طالبة بيضاء وطالب ملوّن وفد من كينيا، ثمرة من ثمراته، أسوة بالكثير من أبناء ذلك الجيل…
فهل تكون الانتخابات الأميركية الأخيرة ثأرا لذلك الجيل، عبر أبنائه، من تلك «الثورة المحافظة» التي بدأت في أواخر سبعينات القرن الماضي وبدايات ثمانيناته، وأجهضت أحلامه، منذ عهد ثاتشر-ريغان حتى بلغت أوجها، أو دركها الأسفل، في عهد جورج بوش الابن؟
الحياة – 16/11/08