مرجعية المواطنة وثقافة الديمقراطية
حسين العودات
لاشك بأهمية انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وهو الرجل الأسود من أصول أفريقية ومن أقلية عرقية، والذي أمضى شطراً من حياته خارج البلاد وعاش في طبقة فقيرة ومن والد مسلم في مرحلة ألصق فيها الإسلام بالإرهاب. واعتبرا كلاً لا يتجزأ، كما لم ينفع التخويف من وجود حربين تشنهما الإدارة الأميركية في وقت واحد ومحاولة الحزب الجمهوري تعميق مخاوف الأميركيين الأمنية وتذكيرهم أن أمنهم يمكن أن يكون في خطر إذا لم يناصروا الحزب الجمهوري، إضافة لظروف أخرى محلية وعالمية ليست مساعدة تقليدياً لمثل هذا الاختيار. عند تسليط الضوء على الظروف التاريخية والحالية في المجتمع الأميركي التي ساعدت على مثل هذا الانتخاب، نجد على رأسها الثقافة الديمقراطية التي تكرست في عمق ثقافة كل فرد أميركي خلال ثلاثة قرون من الاستقلال، وأصبحت الناظم لتفكير الأفراد والمجتمع والضابط للسلوك، وتغلبت على التفرقة العنصرية في نهاية المطاف. وأكدت على إيمان الناس بالحوار والاعتراف بالآخر والتعددية والحرية وحقوق الإنسان، ولعل هذه الثقافة كرست في أذهان الناس أن للمجتمع الأميركي مرجعية وحيدة هي مرجعية المواطنة وما من مرجعية أخرى غيرها حيث يتساوى من خلالها الناس جميعاً وتحترم تمايزاتهم وتبايناتهم في إطارها، وحقوق كل منهم بموجبها، وقد تعمق ذلك كله مع الزمن حتى صار ثقافة للشعب الأميركي داخل بلاده شكلت وعيه وأثرت في سلوكه وأصبحت مثالاً يفلح من يستفيد منه.
كانت نظرة الشعوب الأخرى لشعب الولايات المتحدة إيجابية حتى بداية القرن الماضي حيث اعتبرت عاداته وتقاليده وقيمه ونمط عيشه وممارساته السياسية مثالاً يحتذى من شعوب العالم كافة.
وذلك قبل ممارسة الإدارات الأميركية المتتالية السياسات الاستعمارية والإمبريالية وتدخلها في شؤون أميركا اللاتينية منذ عام 1904 واعتبارها أن (أميركا للأميركيين) ومنح نفسها الحق بالهيمنة على القارة الأميركية ثم بدء تطلعاتها الاستعمارية خارج أميركا التي تطورت مع مشاركة الولايات المتحدة بالحرب العالمية الأولى والحرب الثانية.
وتوسعت مع رغبة الاحتكارات الأميركية والإدارات التي تأتمر بأمرها في الحلول محل الاستعمار القديم (البريطاني والفرنسي) في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، واكتملت بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة وانتصار الولايات المتحدة الكاسح في نهاية القرن. وترافق مع هذه النوايا الاستعمارية توسيع مناطق النفوذ وممارسات همجية وعنف واستغلال ونهب لخيرات الشعوب والهيمنة عليها واحتقار قيمها وتقاليدها وتاريخها مما أدى في النهاية إلى تعمق كره الولايات المتحدة في نفوس أبناء شعوب الأرض جميعاً والخوف منها ونسيان تجاربها الإيجابية خاصة في مجال احترام الحريات وتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وهذه جميعها كانت محترمة داخل الولايات المتحدة لكنها لم تحترم قط خارجها، حتى نسيت شعوب الأرض المآثر الأخرى العظيمة للتجربة الأميركية والممارسات التي يعتز بها الشعب الأميركي، ولم تعد ترى من الولايات المتحدة سوى الهيمنة والويل والإذلال لشعوب الأرض وهذا ما جعلنا نندهش من انتخاب الولايات المتحدة باراك أوباما رئيساً وربما نفرح أيضاً.
اعتمد الشعب الأميركي المواطنة كمرجعية أساسية وجوهرية منذ إعلان استقلاله مع ما تقتضيه من مساواة وتكافؤ وحرية وديمقراطية وثقافة وسلوك على اعتبار أن المواطنة هي السبيل الوحيد الذي يمكّن المجتمعات من التحلي بثقافة الديمقراطية وتحقيق السلم الاجتماعي واحترام التنوعات في المجتمع التي تغني الديمقراطية وتسد الطريق على أن تتحول إلى مرجعيات مستقلة متناحرة متخلفة تعيق التطور وتفتت المجتمع وتعمق خلافاته وتجعل الثانوي رئيسياً.
في الوقت نفسه نعرف كم هي معقدة الانتخابات الأميركية لكثرة العوامل التي تشارك في صنعها كالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والفقراء والأغنياء، والشركات والاحتكارات، ووسائل الإعلام وجماعات الضغط، وأصحاب النوايا الحسنة والنوايا السيئة، والظروف والأحداث المحلية في الولايات المتحدة والظروف الدولية، والإثنيات والطوائف والأصول القومية والجغرافية والمؤسسات المدنية والعسكرية وغيرها، فلكل من هذه نصيب ودور مؤثر صغير أو كبير في نتائج الانتخابات.
ولما كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن يأخذ الرئيس المنتخب مصالح ورغبات وضغوط وتأثيرات كل من هذه العوامل بعين الاعتبار عند وضع سياسته الداخلية والخارجية، وبالتالي فمن غير الحكمة أن ننتظر منه أن يكون مستقلاً عن هذه العناصر ولا يأخذ آراءها كمحددات لسياسته، لأنه من المتعذر على أي رئيس أميركي أن يطبق السياسة التي يرغبها أو المقتنع بها تلقائياً.
ولذلك نرى الرؤساء الأميركيين يرددون في خطاب (النصر) انهم رؤساء للجميع وسيأخذون مصلحة الجميع بعين الاعتبار، والجميع عندهم الموالون والمعارضون، الاحتكارات المنتصرة والأخرى المهزومة. وما الرئيس المنتخب سوى الممثل لهذه القوى لا العامل على تنفيذ سياساته الخاصة أو قناعاته الخاصة أو سياسة حزبه فقط، وعندما يخيب أملنا برئيس منتخب بعد أن يبدأ ممارسة مهماته فإن الخطأ فينا وليس فيه، لأننا اعتقدنا أنه يملك (أن يريد أولا يريد) والأمر بالواقع ليس كذلك فهو ينفذ ما يريدون، مع الاعتراف بوجود هامش شخصي له يستطيع أن يوسعه أحياناً إذا امتلك الإرادة والقدرة والخبرة وحسن التصرف لكنه ليس أكثر من هامش فقط.
نتمنى أن تكون القيم التقليدية الأميركية هادياً للإدارة الجديدة في الخارج كما في الداخل بدلاً من الفوضى الخلاقة التي تبنتها إدارة الرئيس بوش والاحتكارات وقوى الضغط والهيمنة طوال ثماني سنوات وكانت شراً على الإنسانية كلها.
عن جريدة السفير