صفحات العالم

ولادة «الشبكة العالمية لليهود المعادين للصهيونية»

نهلة الشهال
أرى وجوهاً ترتسم عليها علامات الضجر أو الضيق: فإما أن هؤلاء اليهود ظاهرة شاذة غير ذات مغزى، وإما أنهم يقاتلون في أعماقهم دفاعاً عن – أو حفاظاً على – صورة سامية عن النفس، مما يلاقي في نهاية المطاف مصالح إسرائيل. والأكثر تشككاً من القراء سيذهب إلى نظرية المؤامرة واليقين بأن أصابع صهيونية مخابراتية تقف وراء الظاهرة، من باب التجسس أو الاختراق… إلى آخر الظنون المألوفة.
هذا في جانب. وفي أحسن الأحوال، تتبرم هذه المواقف من قلة فاعلية تلك المجموعات اليهودية المعادية للصهيونية، وتستند – لمن يعرف – على تجارب مماثلة ظهرت سابقاً وبقيت محصورة في حيز ضيق لبضعة مثقفين، انتهى المطاف بأكثرهم إلى العزلة اليائسة. فأي أهمية لمثل هؤلاء بينما إسرائيل قوية مستبدة، وهم عاجزون عن التأثير في ما تفعل وفي المواقف العالمية…
دعونا إذاً لا نتلهى، يقول أصحاب هذا الرأي، ممن يميزون أنفسهم عن أصحاب المواقف البدائية في عدائها لليهود، ويرون أن موقفهم يتوخى التقييم البراغماتي فحسب للفعالية. ثم، يضيف هؤلاء، حذار من الاضطراب الذي يتسبب به إدخال هذه الشقوق والتمييزات على فكرة مناهضة إسرائيل، سيما وأننا على تلك الدرجة من الوهن، فيصبح مرهقاً كل تعقيد في الرؤية… خصوصاً أن مصدر التعقيد لا يستحق العناء، كما يعودون للتأكيد، مستعيدين منطقهم عند نقطة بدايته، في ما يمكن تسميته تماسكاً يستند إلى إتباعهم منهج «إغلاق الدائرة» توخياً للوضوح.
تستند كافة ردود الفعل هذه على موقف «كلي» وتبسيطي في آن. وهو، من حيث لا يدري ربما، يتبنى ركيزة الفكرة الصهيونية التي تطابق بين اليهودي والصهيوني، ولا ترى الأول ممكناً، تعريفاً وكـ»هوية»، من دون الثاني. وهو كذلك يعتبر اليهود «شعباً» واحدا – كما تقول الصهيونية – بالمعنى العنصري للكلمة الذي يرى تجانساً أو ترابطاً جينياً لا فكاك منه بين أناس ظاهرهم التنوع. وعلى هذا، يصبح أفراد يهود، كنعوم تشومسكي أو نورمان فنكلشتين، غير مرحّب بهم في محاضرات أو زيارات في العالم العربي، مثلما حدث منذ سنوات (كالحملة في بيروت ضد دعوة تشومسكي)، حيث لا ينبغي نسيان الواقعة بحجة أنه جرى التراجع عن تلك المواقف أو تجاوزها، وأن الرجلين عادا فزارا بيروت وسواها محاطين بالتكريم. ذلك أن المنع الأول يستحق وقفة تقييمية واضحة، لم تجر. والترحيب الثاني يستحق هو الأخر تفحصاً لمكوناته، والتنبه إلى مقدار «القطع» الممارس هنا بين الشخص المعني مأخوذا كمثال، وما يقوله فعلاً، ودلالات هذا القول. فحين أجيز هؤلاء، حدث ذلك على أساس أنهم غادروا ما ينتمون إليه و»جاؤوا إلينا»، تماما كما حالة «الدخيل» في العشائر، الفرد المغادر عشيرته والملتجئ لسواها، أو لعدوتها من العشائر!
ولكن هل التعقيد ترف أم ضرورة؟ هذا السؤال جوهري وينبغي له أن يطرح بخصوص كافة المسائل التي تتحدى اليوم علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. ليس حباً ثقافياً بالتعقيد، ولكن تجنباً للعيب الجوهري الذي تعاني منه المقاربات التبسيطية، وهو عيب مركّب، مبدئي وبراغماتي في آن. وعلى سبيل المثال، وفي ما يخص المسألة الفلسطينية التي نحن بصددها هنا، لا يمكن فهمها ببعد واحد، بل ينبغي الاعتراف بأنها بدايةً المسألة الفلسطينية/اليهودية، وأن هذه الخاصية الثانية اللصيقة بها ليست وهماً أو اختراعاً، بل تمتلك وجوداً تاريخياً حقيقياً. وينبغي الى ذلك إضافة الخاصية الثالثة المتعلقة بالاستعمار، والخاصية الرابعة المتعلقة بالعجز العربي عن تحقيق الذات، ما يمكن تسميته بعناصر وأسباب فشل المشروع العربي الحضاري الحديث. ويمكن إضافة خاصيات أخرى، لكن هذه الحدود تكفي للدفاع عن ضرورة المقاربة المعقدة، المتشابكة، المتعددة المستويات والميادين… وتكفي للقول إن ظاهرة مثل اليهود المعادين للصهيونية لا يمكن أن يصفّى الحساب معها بتلك السهولة.
نشأت إذاً «الشبكة العالمية لليهود المعادين للصهيونية» – تصغيرها بالأجنبية «إيجان». لم تولد من فراغ، بل هي في آن تبلور متجدد لمحاولات سابقة، و»تشبيك» لجماعات قائمة. اختير كموعد للإعلان الرسمي عن ولادتها تاريخ 29 أيلول (سبتمبر) الفائت، في الذكرى التاسعة للانتفاضة الفلسطينية. وتوالت الاجتماعات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والهند والمغرب… وهي اختارت ميادين الجامعات لعملها في الوقت الحاضر، ما يضم إليها أساتذة وطلاباً ناشطين، ويستهدف أيضا العناية بتعزيز الإنتاج التحليلي والفكري لنظرتها. وقد كان الاحتشاد الكبير في لقاء الإعلان في جامعة بركلي – كاليفورنيا لافتاً للنظر. وفي لندن، في مطلع تشرين الأول (أكتوبر)، جرى الإعلان التالي، وكان من أبرز الوجوه على المنصة البروفسور موشي ماخوفر، أستاذ الفلسفة في جامعة كينكز كوليج، والاهم أنه أحد الآباء التاريخيين لحركة «ماتزبن» المناهضة للصهيونية التي أسست عام 1962. تعرّف الشبكة الجديدة نفسها انطلاقا من ميثاق يعود بموقف الإدانة إلى 1948، حين تم «تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم». وتدعم الوثيقة بعد ذلك «بكل وضوح، حق العودة للاجئين الفلسطينيين»، وهو الموقف المفْصلي كما يعرف الجميع، بل هي تطالب بـ»إلغاء حق العودة الإسرائيلي» لأنه «عنصري». وترى الوثيقة أن الصهيونية فكر عنصري – ما تراجعت عنه كتعريف الأمم المتحدة، ربما تحت تأثير سنوات نهوض النيوليبرالية/المحافظة الجديدة – وأنها عنصرية بيضاء وذكورية، تؤدي إلى اضطهاد «المزراحي» أو اليهود العرب، وهم الأفقر. كما يناهض الإعلان فكرتي أن إسرائيل دولة ديموقراطية وأن «معاناة اليهود فريدة في تاريخ الإنسانية»، ما تعتبره «فصلا لهم عن تاريخ البشرية الحقيقي المليء بالمحارق، من سكان أميركا الأصليين إلى أرمينيا ورواندا». وأخيراً تلتفت الوثيقة إلى فبركة الصهيونية المتحالفة مع التعصب المسيحي لـ»الإسلاموفوبيا»، ووظيفته الاستعمارية. وتشير في موضع آخر إلى «المنظمات التي تدعي اليهودية وتدفع للحرب على إيران وتروّج لها»، كمؤشر على التحالف القائم مع طموحات الهيمنة الاستعمارية الأميركية.
«إيجان» تجديد للولادة و»تشبيك» عالمي: تحدٍ بوجه الفعاليتين، الفكرية والعملية في آن. يا له من عبء!

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى