حـوار السـياسـة مـن بـاب الأديـان
سليمان تقي الدين
الذين اجتمعوا في نيويورك تحت عنوان ثقافة السلام وحوار الأديان ليسوا مؤهلين علمياً (فقهياً ولاهوتياً) لإجراء هذا الحوار ولا يمثلون المؤسسة الشرعية الرسمية التي تتولى هذه المهمات. ولا يشكل لقاء نيويورك من حيث المكان والزمان الإطار المناسب لذلك. لقد استغرقت بضع جمل مفيدة في المجمع الفاتيكاني (الكاثوليكي) مئات السنين حتى قاربت العلاقة مع المسلمين من زاوية المشاركة في عبادة الله. كذلك الأمر في العلاقة بين المسيحيين واليهود، التي تمت المسامحة فيها في عهد البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته إلى المشرق. لكن البابا الحالي (بنديكتس) أثار عاصفة من الاحتجاج عندما استعاد مقولة أن الإسلام انتشر بواسطة السيف موحياً أنه دين عنف. العلاقات بين الأديان أعقد بكثير من أن يحلها لقاء أو مؤتمر ولو شارك فيه كل رؤساء العالم. لكن المسألة ليست هنا. طبعاً لا أحد ينكر أن جزءاً أساسياً من الصراعات السياسية قد اتخذ أبعاداً دينية.
هناك من ينظّر في العالم لصراع الأديان والحضارات ومن يعتبر الإسلام إيديولوجيا لا تتفق ومعايير العصر والتقدم وحقوق الإنسان. وهناك من يعتبر من العرب أن له مشكلة دينية مع اليهود كجماعة دينية. غير أن السياق التاريخي لأزمة العلاقات العربية (الإسلامية ـ المسيحية) مع اليهود يؤكد على أن الصراع كان بين حركتين سياسيتين قوميتين شبه علمانيتين. حركة القومية العربية وحركة الصهيونية (القومية اليهودية العبرية).
إن حال التردي العربي الراهن هي التي قاد إلى صعود الأصوليات الدينية كردة فعل على إخفاقات الخيارات الأخرى. لكن هذه الأصوليات هي في صدام أساسي مع مجتمعاتها أكثر مما هي في صدام مع الخارج. المحور الأساسي للفكر الأصولي أنه يريد إعادة بناء المجتمعات العربية والإسلامية وفقاً للأصول وقواعد السلف الصالح تمهيداً لمواجهة الآخر. مركز الثقل في التحديات التي تشيعها الثقافة الدينية الآن هي المجتمعات الإسلامية التي تنتمي إلى دين واحد. والقضية الأساس هنا هي عدم وجود ثقافة التسامح والتقاليد التنافسية السلمية، وعلى حركات التصحيح أن تتجه بصورة مباشرة إلى هذه القضية.
على أي حال لا بأس بأن تبادر المملكة العربية السعودية في الدعوة إلى ثقافة التسامح والسلام وحوار الأديان ولو كانت الوظيفة هنا هي تأكيد الانفتاح على ثقافة الغرب وعلى اليهود. نحن هنا أمام دولة تعتنق الفكر الأصولي الخاص (الوهابية) وهي متهمة بأنها ساهمت في أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١ لأن ثقافتها أفرزت مجموعات إرهابية. السؤال هنا يبقى على مدى جدية ومصداقية هذه الدعوة وانعكاساتها على الثقافة الوطنية للمملكة وعلى مناخ الحريات داخلها وعلى تعاملها مع مكوناتها المذهبية ومحيطها القريب وعلى مستوى الحريات العامة.
في واقع الأمر ما جرى في نيويورك هو حوار سياسي أرادته المملكة من باب الأديان تداركاً لردود الفعل على هذا التقارب السعودي الإسرائيلي. وقد كان من الأجدى خوض هذا الموضوع من زاوية المبادرة العربية للسلام التي أطلقتها المملكة أصلاً. كان يمكن تبرير ذلك بقوة لأن السلام هنا يحتاج إلى مشاركة من أطرافه المختلفين. غير أن المدخل الديني يبدو وكأنه تنازل مسبق عن المطالب العربية والقبول بشكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل من غير إلزامها بأي موقف من الحقوق العربية. عملياً، فإن مشكلة السلام في المنطقة كانت وما زالت إسرائيلية لأن العرب قدموا كل ما يمكن أن يقدموه في سبيل تسوية هذا النزاع التاريخي انطلاقاً من الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والأمن والتعايش.
في المحصّلة النهائية، هل يشكّل لقاء ثقافة السلام وحوار الأديان خطوة على طريق حل المشكلات السياسية أم هو مجرد هروب إلى الأمام بإثارة مشكلات لاهوتية تغطية للتسليم بالأمر الواقع السياسي في ظل الهيمنة الأميركية الإسرائيلية على المنطقة؟!
لقد اقترح رئيس الجمهورية اللبنانية أن يكون لبنان مركزاً لهذا الحوار بالنظر إلى دوره التاريخي ومكوّناته وتجربته، فإذا كانت هناك جدية في استشعار الحاجة إلى هذا الحوار بين الثقافات الكبرى والفرعية فإن لبنان مختبرها الحقيقي الواقعي الذي يجب أن تثبت الدول والقوى الكبرى والتيارات الدينية والفكرية مصداقيتها في تحقيق التعايش فيما بينها. حتى هذه اللحظة السياق السياسي الذي تورطت به دول المنطقة في الأزمة اللبنانية لا يوحي بأنها جادة في هذا الحوار. فلا قيمة أصلاً لأي حوار من أي مدخل أتى ما لم تكن نتائجه متجهة إلى بناء تجربة حقيقية في التسامح والتعايش الحر خارج أي هيمنة أو قهر. فهل نحن على مسافة قريبة من هذا الاحتمال؟!
السفير