النهار تحاور المفكر والمؤرخ تزفيتان تودوروف: الآخرون ليسوا دائماً السبب الوحيد لآفاتنا
وحدها الإرادة السياسية والأخلاقية تضمن لنا الحياة الكريمة والعادلة
حل تزفيتان تودوروف في باريس عام 1963 وهو في الرابعة والعشرين من عمره لتمضية عام دراسي في الجامعة الفرنسية، لكنه بدل العودة إلى بلغاريا، بلده الأم، فضل أن يحط الرحال في باريس، طالبا حق اللجوء السياسي. التحق بالجامعة ليحصل عام 1970 على دكتوراه دولة في الآداب. كانت المدينة، بل فرنسا في تلك الحقبة “مفرخة” للفكر والإبداع. تتقاطع فيها، وأحيانا في تناحر مرير، السارترية باللاكانية، البارتية بالنقد الكلاسيكي، الرواية الجديدة بدعاة السرد الخطي، فلسفة الهدم وفلسفة العقل… الخ. اعتلى كل من سارتر، فوكو، جان جينيه الحلبات الجامعية أو العمومية للدعوة إلى فكر جديد أو لمساندة العمال المهاجرين والتنديد بوحشية الرأسمال. تدخل دولوز وفيليكس غاتاري في رحاب مستشفيات الأمراض العقلية للدعوة إلى تسريح المرضى والإقفال على الأطباء العقليين. دعت حركات تحرير المرأة إلى منع المنع والرقابة المفروضة على جسد المرأة. آنذاك، كانت ثورة أيا ، قد هزّت أركان المجتمع الفرنسي المنغلق على يقينياته السياسية والفكرية وعلى قيمه المحافظة. وصل تزفيتان تودوروف تاركا وراءه بلغاريا، ترزح تحت الهيبة العتيقة والخرافية للشيوعية، بزعامة الرئيس تيتو، وتحت النعال المصفحة للنظام السوفياتي. انخرط تودوروف في زخم التيار من بوابة النقد الأدبي، وبخاصة تقديمه، ترجمته، وتحليله للشكلانيين الروس، الذين لعبت نظرياتهم في مجال التنظير الأدبي، سواء منه الشكلاني، الوظيفي، الإستيتيقي، دورا إشعاعيا بامتياز. جاءت دراساته عن ميخائيل باختين، التي تضمنها مؤلفه “ميخائيل باختين، المبدأ التحاوري” الصادر عام 1981 ، مؤسِّسة لأبعاد نظرية جديدة في ميدان اللسانيات وخطاب اللغة. وقد انتقل، في ما يشبه التماس المغناطيسي، تأثير هذه التحليلات إلى حقل العلوم الإنسانية برمتها: أنثروبولوجيا، تحليل نفسي، دراسات نقدية أدبية، ودراسات شعرية. وكان تودوروف وراء انبثاق “الشعرية” وشيوعها في مجال الخطاب الأدبي. ساهم كتابه “الأدب والدلالة”، في إعادة إحياء البلاغة. ولقد تربى جيل بكامله على النصوص النقدية والنظرية لتودوروف مثل “شعرية السرد”، “ما البنيوية؟”، “نظرية الرمز”، “أجناس الخطاب”، كما أنه كان وراء تأسيس مجلة “بويتيك”، رفقة جيرار جينيت. وكانت المجلة حلقة ثقافية أساسية للحوار والمعرفة المتداخلة والمتعددة الفرع والتخصص.
بعد تلك الحقبة الجامعية التي يمكن أن نطلق عليها تجاوزا المرحلة البنيوية، انتقل تودوروف إلى دراسة الآليات التي يبتكر ويقصى بموجبها الآخر من لدن الغرب الاستعماري. شكلت الثمانينات منعطفا حاسما في مسار البحث العلمي والنظري في إنتاجه الخصيب، إذ انكب على دراسة الظاهرة الاستعمارية، الاستشراقية وموقع الآخر في التصور الغربي لحظة اكتشاف أميركا أو إنشاء المستعمرات الأوروبية. في كتاب “نحن والآخرون”، يعكف تودروف على دراسة هذه الميكانيزمات التي قام عليها التاريخ الحديث. والشاغل الذي ما فتئ يتكرر في مشغوله النظري هذا هو شاغل الذاكرة. الذاكرة بما هي أداة إنعاش للتاريخ وقد شمله المحو بفعل عنف الاستعمار وآلياته الشاطبة. في هذا الصدد يشير: “خسرت الحياة ضد الموت، لكن الذاكرة تفوز دائما ضد العدم”.
ارتكز المشروع الأنثروبو-سياسي لتودوروف على تفكيك المخيّل الذي اتكأ عليه خطاب نبذ الآخر واقصائه. في هذا الشق من مشواره، عمّق تودوروف منحى الفلسفة الإنسانية حيث تزاوجت أبحاثه مع مسلسلات التاريخ بما هي حقب جدلية بين العنف ورغبة الإنسان في إقامة مجتمع أكثر إنسانية. “كان القرن العشرون قرن حروب عاتية بين الديموقراطية والتوتاليتارية. بين النازية والشيوعية”، على ما يشير تودوروف في مؤلفه “ذاكرة الشر، غواية الخير”. تخترق هذا النص المسحة المتشائلة لألبر كامو. لكن أعمال مفكرين آخرين في حقول متباينة ومتكاملة كانت نبراسا لتأمله، أمثال: فاسيلي غروسمان، بريمو ليفي، رومان غاري… يبقى الوجهان الفكريان اللذان حظيا بتقديره النقدي والفكري هما جيرمان تييون وإدوارد سعيد. ساعدته أشغال الأولى على تفكيك الخطاب الاستعماري، فيما وفرت له دراسات الثاني حقلا سياسيا وأنثروبولوجيا لتعميق المقاربة لمسألة الآخر بصفته صورة مبتكرة تنهل منها بسخاء الأيديولوجيا الاستعمارية-الإكزوتيكية. وليس بالغريب أن يقدم تودوروف إدوارد سعيد إلى قراء الفرنسية وذلك بتصديره لكتاب “الاستشراق” بالفرنسية. علاقة تودوروف بهاتين الشخصيتين ليست علاقة أكاديمية، بل قرابة فكرية يتصاهر فيها العلمي بالسياسي، الفكري بالأخلاقي. رافق تودوروف جيرمان تييون في مشوارها الإثنولوجي الملتزم، بإشرافه على إنتاجها المعرفي والعلمي وتقديمه وتسييره لـ”جمعية أصدقاء جيرمان تييون”. كما وقف مناصرا للقضية الفلسطينية لشعبها ولمثقفيها. كان حاضرا في آخر حفل شعري أحياه محمود درويش في آرل جنوب فرنسا. ترجمت أعمال تودوروف إلى أكثر من 25 لغة أجنبية وتوِّجت بأكثر من جائزة كانت آخرها جائزة “أمير استوريا” في إسبانيا للعلوم الإنسانية وذلك في الثامن عشر من حزيران من هذه السنة، وهي أكبر جائزة إسبانية. أثنت المؤسسة على الباحث، الفيلسوف، المؤرخ، وعلى أشغاله في مجال تعميق الفكر الديموقراطي والتفاهم بين الثقافات وتبيان أثر العنف على الذاكرة الجماعية. في مناسبة صدور كتابه الأخير “الخوف من البرابرة” (منشورات روبير لافون. 320 صفحة)، كانت لنا معه هذه المقابلة.
• وصلت إلى فرنسا وأنت في الرابعة والعشرين من عمرك. تركت بلدك، بلغاريا، يرزح تحت سياج النظام الشيوعي. لماذا اخترت فرنسا بلدا للإقامة؟
– بلى، يتعلق الأمر باختيار. سنحت لي الفرصة لتمضية عام “ما وراء الجدار الحديدي”. في بلغاريا، كان لهذه العبارة معنى دقيق، إذ تدل على أن من الصعب جدا عبور الجدار. من بين المدن الكبرى، التي كنت أحلم بها، لم أتردد في اختيار باريس. السبب في ذلك شهرتها كعاصمة للفنون والآداب، وهو ما كان يناسب طموحاتي. حتى وإن لم يكن حلمي أن أصبح كاتبا، فكرت أن الأدب سيشكل أحد مراكز اهتماماتي. وأنا أستعيد تلك الحقبة، أظن أن سكان صوفيا، مدينتي الأصل، لم يكونوا على علم بما كان يجري في العالم آنذاك. لكنني لا اندم على الاختيار الذي أصبحت بموجبه فرنسيا.
• كنت شاهدا على العديد من الوثبات الجيو-سياسية. أي حوادث أثرت فيك بشكل خاص؟
– بما أنني نشأت في بلد شيوعي، ثمة حوادث مرتبطة بهذه الايديولوجيا، كان لها وقع خاص على إدراكي . كان عام 1956 في غاية الأهمية بالنسبة اليَّ. كنت آنذاك في السابعة عشرة، وهي السنة التي غادرت فيها قسم الثانوي، وكانت أيضا السنة التي أدينت فيها بشكل علني الجرائم الستالينية. وفي الخريف، اجتاحت الدبابات الروسية مدينة بودابست في المجر. كان هذا الاجتياح بالنسبة الينا دليلا على أن الشيوعية لا تقبل الإصلاح من الداخل. الحدث الثاني المهم، والذي يتلاقى مع الأول، هو عام 1989، الذي تزامن مع انهيار جدار برلين ومع التفكيك التدريجي للأنظمة الشيوعية. للمرة الأولى، ينتمي بلدي الأصل وبلدي بالتبني الى المجموعة نفسها. أخيرا يمكنني أن أقول إن عام 1999، مع حرب كوسوفو، كان بدوره ذا أهمية: سلكت حينها الديموقراطيات الغربية موقفا مختلفا وذلك بشن حرب باسم ايديولوجياتها ضد بلد آخر، وليس للدفاع عن أنفسها ضد خطر ما. كانت حرب العراق إعادة للسلوك نفسه.
• أهديت كتابك الأخير، “الخوف من البرابرة” إلى جيرمان تييون وإدوارد سعيد، تخليدا لذاكرتهما. ماذا تمثل هاتين الشخصيتين بالنسبة اليك؟
– كنت قريبا من هاتين الشخصيتين اللتين اختفتا، وجذبني في الوقت نفسه فكرهما. في البداية، كانت جيرمان تييون عالمة اثنولوجيا. عاشت ما بين 1934 و1940 لدى قبائل شاوية الأوراس (الجزائر). انخرطت في ما بعد في المقاومة الفرنسية، قبل أن تعتقل في معسكر رافينزبروك. بعد عودتها من المعسكر، أرّخت لما عاشته في المعسكر. عادت عام 1954 إلى الجزائر. حاولت خلال فترة الحرب، التخفيف من العنف المستشري آنذاك بمقاومتها لأساليب التعذيب والتصفيات وكذلك بمناهضتها العمليات الإرهابية العشوائية. ساعدني تحليلها لما سمته “الأعداء المتكاملين” في تأليف هذا الكتاب. أما إدوارد سعيد، فتعرفت اليه في جامعة كولومبيا في نيويورك، التي كنت أستاذا فيها أيضا. ربطتنا في تلك الفترة علاقة صداقة. التصور الذي أقدمه عن الثقافة والهوية في مؤلف “الخوف من البرابرة”، قريب من أطروحته.
• كنت حاضرا في أمسية تكريم محمود درويش في آرل ( جنوب فرنسا). كانت هذه الأمسية المرة الأخيرة يظهر فيها أمام الجمهور. ماذا يمثل الشاعر بالنسبة اليك؟
– شاء الحظ أن ألتقي درويش وأن أتحدث إليه أسابيع قبل وفاته، خلال حفل القراءات الشعرية في آرل. يمكنني القول إن الأمسية كانت مفعمة بكثافة خاصة: غروب الشمس على المسرح العتيق، تردد صوت درويش، الهادئ والرخيم، في الأعالي، الممثل ديدييه ساندر يقرأ بعمق الترجمات الراقية التي قام بها إلياس صنبر لأشعار درويش. الأخوان جبران يؤديان تقاسيم على العود، يتدخلان بشكل هارموني ضمن التسلسل. كان الجمهور الذي قارب 1500 شخص يستمع وهو في حالة انبهار: شباب وشيوخ، فرنسيون وأجانب. ولا أحد تحرك. الكل انجذب بالشعر.
• كتابك الأخير “الخوف من البرابرة”، جزء من بيبليوغرافيا تتألف من أربعين كتابا تقريبا. فيه تتزاوج الفلسفة بالأنثروبولوجيا، الأخلاق بالجيو-سياسة، لخدمة فكر مستقبلي. ماذا تعنيه كلمة “بربري”؟ أليست هناك مخاطرة أن تكون دلالتها الإثنوغرافية والإثنولوجية، محط سوء فهم؟
– لكلمة “بربري” بشكل عام دلالتان: الأولى نسبية لا غير. تشير إلى الأجنبي الذي لا نفهم لغته. كل منا في هذا المعنى بربري بالنسبة الى شخص آخر. الدلالة الثانية، دلالة مطلقة: تنطبق على وجه التقريب على الشخص القاسي أو المتوحش، اللّاإنساني.
أردت ابقاء الدلالة الثانية، مع تعريفها بشكل دقيق. بالنسبة اليَّ البربري هو الشخص الذي لا يعرف الإنسانية الكاملة للآخر. ذاك الذي يرفض أن تمنح الحقوق نفسها والكرامة نفسها التي يطالب بها لمصلحته. لكنني أوضح على الفور أن ثمة أفعالا ومواقف بربرية، لكن لا أحد من الناس وحشيا في طبيعته.
• يتموقع مسعاك النظري ما وراء “صدام الحضارات”، حيث يهدف إلى التفكير في التكوين الأنثروبولوجي والسياسي للأزمنة الحديثة. ما هي التهديدات المحدقة بمستقبل هذه الأزمنة؟
– أتوقف في هذا الكتاب عند خطرين إثنين يهمان قطاعين للعالم الحديث. يدرس القسم الأكبر من الكتاب مسألة الخوف الذي يبدو أنه في تزايد مستمر في الغرب (أوروبا وأميركا الشمالية). على المستوى الخارجي، تؤدي هذه الحرب إلى حروب داخل هذه المجتمعات. النتيجة هي مواقف نابذة للآخر الأجنبي، أو تجاه الذين، هم بشكل أو آخر، مختلفون عن الغربيين. لهذا السبب، وصلت بنا الحال إلى الوضع الأقصى الذي يجسده التعذيب الذي تتبناه بعض الدول بشكل رسمي. أخصص كذلك قسما من الكتاب إلى حماسة سياسية أخرى، موجودة بشكل عام في الدول ذات الغالبية الإسلامية وكذلك في بعض المستعمرات السابقة: إنه الغيظ الناشئ عن الإذلال الذي عانته شعوب هذه المستعمرات. رجائي أن يتحرر الجميع من هذه الحماسة الوخيمة وأن يكفوا عن رؤية الآخرين على أنهم دوما السبب الوحيد لكل آفاتهم.
• في الكتاب، تشير إلى الخطاب الذي ألقاه البابا في جامعة راتيسبون، كما تشير إلى الرسوم الكاريكاتورية ضد النبي محمد، مشددا على ضرورة عدم خلط الدين بالسياسة. بأي طريقة يمكننا مواجهة هذا الخلط؟
– على النقيض مما نسمعه يوميا، لا نعثر على أصول الخلاف في الدين. ثمة أسباب اجتماعية، اقتصادية، سياسية لهذا الخلاف. لا داعي للبحث في الكتب المقدسة لفهم هذا السلوك أو ذاك الذي غالبا ما يتأتى من مشاعر الخوف أو التحقير التي يشعر بها الأفراد اليوم. على مستوى آخر، أناصر العلمانية في معناها الحصري كدعوة الى التفرقة بين الدنيوي والديني، بين الدولة والدين. بلدان، مثل إيران والسعودية، ترفض هذه التفرقة وتحدّ بشكل تعسفي من حقوق الأفراد.
كيف يمكن مناصرة حرية التعبير من دون السقوط في الإسلاموفوبيا (معاداة الإسلام) بخسّة؟ إنه الرهان الأخلاقي الذي لم تستوعبه بعد بعض وسائل الإعلام الغربية. كيف يمكن تصحيح هذا الوضع؟
لا يمكن حرية التعبير أن تكون المبدأ السامي لكل دولة. تتمفصل هذه الحرية دائما مع متطلبات أخرى، مثل حماية الأفراد أو الدفاع عن السلم والعدالة العامة. علينا إذاً أن نعثر على توازن بين الدفاع عن الحريات الفردية وحريات المصلحة العامة. معاداة الإسلام مثلها مثل معاداة الأجانب، سلوك ممقوت. لكن يجب أن نضيف أن ما هو ممقوت أيضا هي ردود الأفعال العنيفة لأولئك الذين يشعرون أنهم مستهدفون والذين يدعون إلى القتل، حرق السفارات، أو الدعوة إلى اللاتسامح. ليس القيام بعملية إرهابية أفضل طريقة للتنديد بالتصور الذي مفاده أن المسلمين إرهابيون.
• الإعلام هو اليوم أحد المحصلات الهائلة للتكنولوجيا. هل يجب النظر إليه كأداة حرب أم كوسيلة للمعرفة؟
– خاصية العالم الحديث اليوم هي فعلا تعزيز سبل المواصلات في كل أصنافها، هي نشر المعلومات وكذلك تسهيل تنقل الأشخاص. يمكن الإعلام أن ينتج المزيد من التفاهم المتبادل كما يمكنه أن يولد المزيد من الخوف والتحقير. يمكن الإعلام أن يخدم الحرب والسلم على حد سواء. علينا أن لا ننتظر النجدة من تكنولوجيا أفضل. وحدها الإرادة السياسية والأخلاقية قادرة، إن لم توفر لنا السلام، أن تضمن لنا، على الأقل، حياة أكثر كرامة وأكثر عدلا.
باريس – من نجيب الكهرماني