صفحات الحوار

نوري الجراح:هنـاك شـعراء رغبتهـم فـي امتـداح حضورهـم مدخـل لإهانـة قصائدهـم نفسـها

null
عناية جابر
نوري الجراح: أفهم أن يهمل كاتب ذاته لكني لا أفهم أن يهمله بسبب ذلك الآخرون
نوري الجراح مجنون شعر. انه يعيش من الشعر وللشعر وربما يحسب حياته قصيدة فيغامر من بلد الى بلد، ومن مشروع الى مشروع يهرب من الشعر الى الرحلات فيسقط مجدداً فيه، ينتقل من شغف الى شغف، يظهر ويختفي كالضوء، وفي واحد من ظهوراته كان لنا معه هذا الحديث.
÷ غالباً ما يترافق حضورك في مهرجانات الشعر، وهو حضور نادر نسبياً، مع إثارة أسئلة، وإذا شئت علامات استفهام تطرحها، ونزاعات إذا شئت تثيرها. لماذا حضورك القليل في المهرجانات أولاً؟ ولماذا يترافق مع إثارة أسئلة ثانياً؟ هل أنت مشاكس بطبعك؟
﴿ حضور قليل، لو صح فلأنني بطبعي انتقائي، ومشغول ليس لدي وقت . أما اثارة الأسئلة فمن شأن الشاعر ان يثير الأسئلة، قلقه يدفعه إلى ذلك بصرف النظر عما اذا كانت هذه الأسئلة موفقة أم لا. وفي مرات تتحول أسئلتنا الى شغب بلا طائل، وقليل من المرات أمكننا أن نثير سؤالاً دقيقاً او مناسباً او جارحاً او ذا قيمة استثنائية.
لو ذهبت أبعد في الإجابة عن سؤالك، أجد ان الوقت العربي والموضوعات العربية في الثقافة وفي الاجتماع عموماً، تحتاج الى اثارة أسئلة، إلى جرحها بالأسئلة. فالأشياء المهملة والمسكوت عنها أكثر من الأشياء المفصح عنها في ثقافتنا العربية. وبالتالي، عنايتنا بطرح السؤال يجب أن تكون أكبر من كل رغبة لدينا في الإجابة. والسؤال بداهة هو المفتاح لمزيد من الأسئلة، لسلسلة منها، لن يستقيم وجودنا من دون طرحها، ولا يكون هناك مسوّغ حقيقي لما نتداول في الثقافة من دون طرحها. وفي نظري أن اللحظة العربية الراهنة لحظة فاسدة في الاجتماع، وفاسدة في السياسة، وفاسدة في الاحوال ومُفْسَدة في الثقافة.
هناك من بيننا كشعراء، من يتوهم أدواراً باهظة للشعر، ويعطي الشاعر بالتالي مكانة وحجماً وحضوراً أكبر مما تحتمله لحظتنا العربية. أنا لا أقلل من قيمة الشعر وهيبته وإنسانيته الكبرى.. بل وحتى دوره الروحي الكبير في حياة أمتنا. ولا أتحدث عن مكانة الشعر والشاعر بين الفنون الأخرى، وإنما أتحدّث عن ذلك الوهم الباهظ الذي روّج له طراز من الشعراء العرب في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وتلك النظرة الفكاهية القائلة بأن الشاعر هو إله صغير، او إله من نوع ما، ومن حقه بالتالي أن يكون مرموقاً ومُطاعاً من جانب لفيف من الشعراء المحيطين والنقاد المحيطين به فهو كوكب، وان يشغل موقعاً دائماً تحت الضوء، مهما كان ثمن هذا الموقع، وأياً كانت التنازلات الاخلاقية لتحقيق ذلك.
أتحدث عن جيلي
الطريف أنني أتحدث الآن عن مجايليّ من الشعراء الجدد بالمعنى الجمالي للجيل، بعضهم وليس كلهم ممن ظنوا ان هناك إمكاناً لتأبيد مصطلح »الشاعر الكبير«، »الشاعر النجم« الذي يطوف من حوله الأنصار والمريدون وحاملو الصور على حساب القصيدة نفسها. أتحدث عن الشاعر الذي يجعل من رغبته في امتداح حضوره وتزيين هذا الحضور مدخلاً لإهانة قصيدته نفسها. يُمتدح الحضور، ويُهان الشعر. لأن مثل هذا الطلب (الامتداح) يجعل من القصيدة خادماً عند الشاعر، فهي وسيلة لتكريس حضور اجتماعي وانتزاع مكانة في المجتمع أوسع مما تحتمله فكرة الشعر برمّتها.
وحال كهذه تجعل مناخ الشعر والشعراء مسموماً تسوده المناورات والمؤامرات الصغيرة والألاعيب من تحت الطاولة، والحسابات الغريبة على الخَلق والخُلق وهو ما ينفّر الشعراء من بعضه، وهم أسرة، ويصرف عنهم متذوقي الشعر، بل وحتى الحلقة القريبة منهم التي طالما شكلت وسيطاً ضرورياً من الغواية بين الشعر وقارئه الأوسع قليلاً، وأعني بهذه الطبقة نقاد الشعر، الصحافيين، والأكاديميين، وأحياناً بعض الناشرين المغامرين.
إذن هي مصالحة مع الذات والشعر الخالص وليست مشاكسة؟
﴿ بالتأكيد، فلطالما غابت عنا تلك الجملة الرائعة لوليم بتلرييتس، في مذكراته »من صراعنا مع الآخرين نبتكر البلاغة او نضعها، من صراعنا مع أنفسنا نخلق الشعر«. التفاتة رائعة من خلدون الشمعة التذكير بهذه الحقيقة الفكرية التي لخصها قول ييتس في مذكراته. فليس للشاعر أي شأن مع الآخرين في ما يتعلق بكتابة الشعر، الشعر صراع دامٍ مع الذات، أما الصراع مع الآخرين أو في حضرتهم فهو شأن صغير. انه على الأرجح، وغالبا ما يكون دعويا او ضربا من النزف الاجتماعي او تعبيرا عن نفاد صبر او ضيق خلق.. وهي كلها مما يتخلّق به صغار النفوس من البشر في الاجتماع.
لكن حتى التخبط، تبقى له مسوغاته بالنسبة الينا نحن الشعراء، لأننا بعد كتابة الشعر تبدأ حيرتنا في ماذا نفعل بهذا الشعر: ندافع عنه؟ نهمله؟ ننشره، نؤمن به؟ نشكك بجدواه؟، هذه الحيرة جزء من الاشتباك مع الخارج، والسبب ربما أننا تورّطنا في مسألة نشر شعرنا وبتنا متورطين في الدفاع عنه كصنيع ظنناه مختلفاً عن صنيع الآخرين وتخيلنا له قدراً او مصيراً خاصاً في المصير العام، ومحلاً ما في الذائقة.
هذا ليس كل شيء فهناك الاشتباك مع الذات من خلال الاشتباك مع الآخر. ولعل ما يجعلنا غاضبين هو إحساسنا بأن خللاً ما أصاب القيم التي نؤمن بها كشعراء ونتوقع أن تكون مرجعاً لنا ولأعمالنا. مثلا: أنا أفهم ان يهمل الشاعر ذاته (لا أقصد الحديث هنا عن نفسي حصراً)، ولكن كيف أفهم ان يهمل الآخرون هذا الشاعر، بل وأن يضربوا على صنيعه الفني ومنجزه المتواصل ستاراً من الصمت، هم الذين ينكشون أظافرهم بحثاً عن مواضيع يكتبونها لصحفهم التي لا تُقرأ، وهم الذين طالما اعتبروا تجربة هذا الشاعر المهمَل أو ذاك مؤثرة وأساسية وتستحق الاهتمام. هذه مفارقة.
خلل فادح
÷ ألمح في الإجابة الصادقة هنا، ظلال كلام عن مؤامرة ما، او ما يقولونه حالياً عن كوبينات شعرية وشلل وعصابات؟
﴿ بصرف النظر عن المصطلح الذي يجب أن نعتمده في وصف الحال، وما إذا كان يصح أن نستعمل هنا مصطلح »المؤامرة« كما تقولين. نعم، هناك خلل فادح بالمعنى الاخلاقي، اذا شئت، يسود علاقات الثقافة العربية وليس مجتمع الشعراء فحسب. وهذا الخلل وُصف مراراً هنا وهناك، في مشافهات الأدباء والمثقفين العرب مشرقا ومغربا، ولكن من دون ان يأخذ النقاش حوله طريقه الى المنبر وإلى العلن، وبالتالي لم تتمكن الثقافة العربية من تطهير نفسها بشيء من الاعتراف. لأن الاعتراف يتيح فرصة للتطهر وفرصة لتجاوز المطبات والخلل وربما يردم الاعتراف او محاولة الاعتراف الفجوة او الفجوات بين تجربة وأخرى وشخص وآخر بحيث يتفكك الاشتباك العنيف ويتبدّد فائض الغضب.
هذا العتب
÷ هناك مثالية أيضاً في هذه الملاحظات او هذا »العتب« في كلامك، فأنت على ما بدأنا الحديث، غير حنون إذا صحّ التعبير على نصك في إحاطته وإنهاضه من عزلته وبمعنى آخر التسويق له فكيف بالآخرين المأخوذين بنصوصهم ونرجسيتهم العالية شأن كل المبدعين؟
﴿ سؤالك يحرضني والوقت ضيق. هناك أكثر من نقطة يثيرها السؤال تحتاج إلى تفكيك او ملامسة. دعيني أولاً أقف عند مفردة العتب التي استعملتها في مكانها. أولاً نحن نعتب على أناس نحب او من علاقتنا بهم فيها شيء من الحميمية. ولكن حتى لا ينحصر كلامي في شأن شخصي، وهو ليس مقصدي من ملاحظاتي، ولست ممن يتأسّون على عزلتهم أو بسببها، ولا ممن يعتبرون تجاربهم مهملة (ولكنني أعتبر الشعرية العربية بأسرها مُهملة إن على مستوى الذائقة العامة وإن على مستوى الذائقة الخاصة). حديثي حقيقة قصدت منه الاشارة الى اللحظة الراهنة في علاقات الشعر والشعراء. وما لا يرضيني فيها ليس بالضرورة ما هو محصور في تجربتي الشعرية. ولو كان الأمر على هذا المستوى الصغير، لكانت ملاحظتي يسيرة وغير مهمة.
÷ لكن تجربتك ليست على مستوى صغير؟
﴿ دعينا نتحدث في المستوى الذي قصدته. بطبيعة الحال لست ميالاً إلى إنكار ذاتي الشعرية، لكن الاهتمام لا يكون عادة موضوع تسوّل، ومن منا يعرف قرّاءه، أو مكانته عند القراء، وفي عموم الذائقة، في ظل الفوضى العربية العارمة على كل صعيد. هل هناك من استفتاء يمكن الركون له في العالم العربي؟ وهل التناول النقدي، الصحفي اليومي يمكن أن يعكس المقروئية الفعلية؟ أم انه يعكس العلاقات التي تتيح تسليط الضوء على نص او تجربة وتحجبها عن نص آخر وتجربة أخرى؟ من يعرف. ليس هذا ما قصدت حقا. دعيني أتحدث عن القسوة على الذات. انها أحد تعبيرات الصراع مع الذات الذي تحدث عنه ييتس. ففي ظل الغيبوبة النقدية التي تسود الثقافة العربية لا يستطيع الشاعر ان يكون متراخياً، لا يستطيع ان يغفل عينه الناقدة عن تجربته وهو ما يجعله قاسياً بإزاء تجربته.
أما موضوع العزلة التي يثيرها سؤالك، فأنا فعلاً في شيء من العزلة، وأعتبرها ضرورية لكل شاعر. إنها الحاضنة التي تمكن الشاعر من ترتيب عالمه وأشيائه وترتيب علاقته مع نصه وإعادة النظر الضرورية مراراً في علاقته بالكلمات والأفكار والموضوعات والمواقف والرؤى، التي أَخذ بها، وأُخذ بها.
÷هل يستطيع الشاعر كتابة قصيدته ويرعاها في الضجيج؟
عن نفسي، لا استطيع. أما المبالغة في العزلة فهي مرات مفروضة علينا. لا أقول بها لكنها صورة من صور المصير بالنسبة لتجربة ما. لست أدري ما إن كانت تنطبق عليّ هذه المبالغة فأنا أتحدّث في المبدأ، مرات يكون انسحابنا من المشهد هو نأي بأنفسنا عن المباذل وتمييز لتجاربنا، وتنزيه لمواقفنا. قد نكون موهومين بكل المسألة، لكن عذرنا أو عزاءنا يتحققان في إيماننا بما نفعل.
حديثنا هنا يجعل موضوع العزلة كما لو كانت منزعاً يُمكن أن يُختلق. الأمر مختلف قليلاً بالنسبة لي، وهو أكثر إيلاماً من العزلة. فأنا أعيش في عالم، وأكتب قصيدتي في عالم آخر. أعيش في مدينة تتكلم لغة، وأكتب قصيدتي بلغة أخرى. هذا في ذاته انقطاع من نوع ما، ألم من نوع خاص، مصير من نوع مختلف؛ مدينة تتكلم الانكليزية وشاعر يكتب بالعربية آية شيزوفرانيا؟ وما يضاعف من ألم هذه التجربة أنني أعيش حقاً في تلك المدينة، بمعنى أنني منخرط في تلك المدينة ولست مترفعاً عليها او خائفاً منها. أكتب قصيدتي بلغة لن يقرأها أهل تلك المدينة. هي ليست منبري ولا قارئ لي فيها. علاقة قصيدتي بذلك المكان محسومة على المستوى التبادلي. بحيث ان قصيدتي تعرف المكان، فقد تنفسته وعاشته ورأته ووصفته. وبالتالي فقد عرفته، ولكن من دون أن يعرف عنها شيئاً، فأية مجهولية هي هذه المجهولية؟ وأية عزلة هي هذه العزلة.
فلأجرب الآن أن أشير إلى الوجه الأكثر حقيقية في هذا الموضوع : لو كانت هذه القصيدة ستنكشف لقارئها العربي وتحتل مكانها في ذائقته ويتعرف من خلالها على العالم الذي ولدت فيه القصيدة، ربما كان تحقق شيء لهذه التجربة. لكن للأسف، فإن قصيدتي غير متحققة. هي الى الآن قصيدة مجهولة، بدءاً من قارئها العربي المفقود، وحديثي هنا يقصد أولاً المستوى الفني، والجمالي والتعبيري، أتحدّث عما تتكوّن منه قصيدتي وليس عن حقها في الوصول إلى قارئ (وملاحظتي هذه لا تقتصر على شعري وحده، وإنما ينسحب كلامي أيضاً على قلة ممن كتبوا شعرهم في بيئات غير عربية، لكنني أبدأ من خبرتي الشخصية مع شعري، وأحصر حديثي بتجربتي، لتكون لكلامي مصداقيته.
دعيني أسألك، الآن، سؤالا بسيطا، وقد يكون ساذجاً: هل الشمس في قصيدة كتبت في لندن هي الشمس في قصيدة كتبت في بيروت؟ او القاهرة؟ او دمشق حتى لا أقول الشمس في مكة؟
هل المطر في القصيدة هنا كالمطر في قصيدة هناك؟ هل اللون في قصيدة مثله في قصيدة أخرى؟ فكيف يكون الأمر بالنسبة الى لا وعي بأكمله لشاعر صرف عشرين سنة في مدينة لا تتكلم لغة قصيدته؟ الموضوع معقد، وأحيانا نرغب بتخفيفه فنقول: نحن اذن، مغتربون. ولكن مكر اللغة ومكر الثقافة والقدرة المذهلة للشعر والشعري على الزوغان يضاعف من التركيب. فها هو التوحيدي يهدم فكرتي او وصفي هذا بجملته المعروفة عن الغريب في وطنه بصفته أغرب الغرباء. حتى هنا، نكون قد بدأنا في ملامسة التعقيد. تعقيد لا تنفع فيه الملامسات الأولى بل يحتاج الى غوص عميق، وتعوزه الأسئلة أكثر مما تنفع فيه الأجوبة. لكنني أحس بشكل جارح أن قصيدتي كائن يتيم يفتش عن قاريء مفقود.
بين لغتين
÷ الترجمة الى الانكليزية، لغة المكان الذي تعيش فيه وتكتب فيه قصيدتك، وتحمل اثراً منه، ألا يمكن أن تشكل متنفساً لقصيدتك؟
﴿ بالتأكيد، يمكن للترجمة في حال تشبه حال قصيدتي، ان تكون متنفسا. لكنها لا يمكن ان تعوض ذرة من الشعور بالنقص الذي أحمله نحو علاقة هذه القصيدة بقارئها العربي. لأن عبور هذه القصيدة الى اللغة الانكليزية سيتيح فرصة ليجد فيها قارئ الشعر الانكليزي أثراً شعرياً غريباً على ثقافته مقدوداً من عوالم وأمكنة ومناخات يعرفها، إذن ما سيتاح لهذه القصيدة هو حياة أخرى ليست حياتها في لغتها، لكن الجديد في الأمر يكون قصيدة أو شعراً منحوتاً من عالمين، او متشكلاً في عالمين شرقي وغربي معا. أهواء شرقية، روح شرقية، بأنفاس ورؤى لا تخلو من الانساني ومما شغفتُ به من أشياء المكان البريطاني، من مناخات وعناصر والوان ذات صلة بالمكان البريطاني. يُتم قصيدتي في لغتها العربية ينبع من هذا التكوين. لا أريد ان أدعي انني أملك شعراً متفوقاً على شعر عربي آخر، على الاطلاق لا يتبادر هذا الى ذهني ولا أريده ان يتبادر الى ذهن أحد. لكنني مؤمن انني أكتب شعرا مختلفا كل الاختلاف حتى عن أقرب الشعراء الذين اقتسم معهم أفكاري عن الشعر، ببساطة لأن موضوعات شعري ومناخاته وميوله وأشياءه مختلفة.
لكن الترجمة هي أمر آخر وهي تحتاج الى شخص لديه مشروع مع الآخرين، مع العالم، مع العالمي ربما، ولديه ربما، في مرات، وهم يرى ان العبور الى الآخر والحضور لديه يمكنان من انتزاع مكانة أهم او أبرز داخل الثقافة الشعرية العربية. بحق او من دون حق، وباقتدار ومن دون اقتدار. لكن هذا وهم ليس الا، فما من ثقافة تستضيف شاعرا عندها، يمكنها ان تفرضه على »بيت« أهله بقوة »الاستعلاء«، والرواج لدى »الآخر« ومركزيته الخارقة، خصوصا اذا ما عرفنا ان الشعر جمهوره محدود في كل الثقافات. والطريف أن ما نعتبره أحيانا حضورا مميزا لشاعر عربي في باريس او لندن او برلين، في هذه الاحتفالية الجهوية او تلك، وهذه الندوة او تلك، ليس الا حضورا في ندوة او احتفالية تقام في »ناحية« او اخرى، مثله حدث شبيه في ناحية أو أخرى نواحي بيروت. ينطبق هذا على حضور شعرائنا العرب في كولومبيا او لوديف، الأمر نفسه. أنا لا أبخس تلك المهرجانات حقها، ولا الشعراء حظوظهم ولا حظوظ مستضيفيهم بهم. بالعكس جميل ان يسافر الشعراء (والشاعرات بطبيعة الحال)، وان يمتعوا أبصارهم بمرأى العالم، بالمختلف من طبيعة الأمكنة وطبائع الناس، بالجمال الذي وزعته الأرض على أنحائها، وان تكون لهم صداقات بلغات متعددة ومعارف يبادلونهم الافكار والموضوعات والآراء والرؤى والمواقف والمشاعر. فالشعراء في كل العالم قبيلة واحدة. ولكن من دون أوهام، ومن دون إيهام..
نستطيع أن نُشبع رغبتنا بالسفر والسياحة في الأرض فالشاعر يحتاج إلى ان ينزه عينه في الوجود، انما من دون اعطاء أنفسنا أدواراً ليست موجودة، ومن دون أن نجعل الصحف العربية تتناقلها كما لو كانت بطولات شعرية.
السفر
÷ هل فعلاً ينطبق فعل التنزيه (من نزهة) على كل شاعر مسافر، ما رأيك أنت بالسفر، هل يضيف فعلاً الى قصيدتك؟ هل المكان الآخر هو شطر آخر في القصيدة؟
﴿ قبل أن أقول رأيي البسيط في السفر، أقول إن ما يؤسف له حقاً ان هناك شعراء يسافرون في الأمكنة فيصلونها ويغادرونها من دون ان يتعرفوا عليها. السبب معروف أنهم جاؤوا في دعوة إلى مهرجان أو ندوة وصرفوا أوقاتهم في الغرف والقاعات والمقاهي، وهذه لا يمكن ان تعطي فكرة كبيرة عن المكان. الأمكنة تحتاج إلى وقت أطول من وقت »الدعوة«. أستغرب أحياناً ما يكتبه البعض عن زياراتهم، وأستغرب أكثر القصائد التي تكتب عن أمكنة لمجرد أننا زرناها أسبوعاً او أسبوعين.
÷ هل الزمن، طوله او قصره عنصر حاسم لميلاد قصيدة؟
﴿ ليس الزمن في ذاته، وانما ما يجري داخل الزمن. الأمر متصل بالمعرفة الروحية او الفكرية التي نحصّلها من ارتطامنا بالمكان، وبالشعور الذي يتركه فينا ضوء ذلك الارتطام، أي أنه مرتبط بتحقق نوع استثنائي من الخبرة التي (نحصّلها) من علاقتنا بالمكان الذي نزوره. وهذه أيضا تحتاج الى وقت أطول من وقت زيارة عابرة. هذا شيء مختلف عما يمكن ان تواجهيني به من مثال شاعر يكتب قصيدة عن مدينة لم يزرها. البرتغالي فرناندو بيسوا مثلاً كتب قصيدة اسمها »لندن« وهو لم يزر لندن في حياته. أتحدث عن الشعر الذي خال أنه غرف من روح المكان او قدّ نفسه من لحظة في المكان او صوّر ذاته في وقائع المكان.. في حين أن كل ما فعله في سفره السريع هو انزلاقه العابر على سطح المكان.
نأتي إلى السفر والشعر. مؤخراً أهدتني شاعرة انكليزية هي روث بادل Ruth Padel كتاباً عنوانه: »القصيدة والرحلة« The Poem and the Journey دونت فيه صوراً وأفكاراً وملاحظات وانطباعات شخصية وعامة عن العلاقة بين الشعر والسفر.
أظن ان تاريخ الشعر مرتبط بالسفر. الشعر العربي مثلاً منذ ما قبل الإسلام قامت معلقة امرؤ القيس على السفر (بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه…) من هذه القصيدة وحتى آخر طبعة من الجمال الشعري العربي الحديث، قدر اللغة الشعرية أن تمتحن ألقها وإمكاناتها عن طريق خبرة السفر. ناهيك عن ان كل قصيدة هي سفر في المخيلة واقتحام لأفق ما يسبره ويقتحمه خيال الشاعر وتروده مخيلته. مغامرة القصيدة في الأساس سفر. وأنا أستغرب حقيقة قعود الذائقة النقدية العربية عن السفر في النصوص، فلا وصول إلى جوهر الشعر إلا عبر مغامرة السفر إن في لغة الشعر أو في رؤاه، وإن في موضوعاته أو في مطالبه، بل فيها كلها.
÷ ثمة ما تريد قوله هنا في حال النقد الآن؟
ـ هذا يحتاج إلى تنهيدة طويلة لا أظنك تريدين أن نبدأ هذا الحديث من جديد.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى