لماذا الخوف من غزو ديني؟
نضال نعيسة
يحاول البعض، مهولاً، أن يوهم آخرين، أن الغزو الديني لمجتمع ديني سيؤثر فيه كثيراً، أو سيغير من طبيعته النوعية سلباً كان أم إيجاباً. وفي الحقيقة لا فرق كبيراً بين أي فكر ديني وآخر، والخوف فعلاً، ومن وجهة نظر هؤلاء المتخوفين، هو أن تتعرض المجتمعات الدينية إلى غزو لا ديني تنويري، ولا سمح الله وقدر. فالفكر الديني الغيبي يصب كله في نفس البوتقة من حيث النتيجة، ومنطلقه الإيديولوجي واحد من حيث الأساس. ولا يمكن التمييز والتفاضل بين فكر ديني وآخر. فلا يختلف أي منهم في الركون إلى الأسطوري والغيبي غير العلمي لتفسير الحياة وحقائق الوجود، وظواهر الكون المختلفة، ونزوع جل المعتقدات الدينية للتسليم بالكثير من المسلمات من غير جدال ولا نقاش، وتحريم الفلسفة والسؤال. ( حتى المسيحية “المتنورة” كما يرطن البعض، حاربت الفلسفة بلا هوادة، في زمن ما وكانوا يطلقون على الفلاسفة والمفكرين وصف الهراطقة Heretics). وهناك الكثير من المشتركات بين مختلف الفرقاء الدينيين والذي لا يختلف عليهما لا العامة ولا الفقهاء، والمشترك الأول بين الجميع هو الأنانوية والذاتوية المفرطة والمريضة، والتعصب واحتكار الحق والحقيقة والحياة بعد الممات، وادعاء والاعتقاد بالنجاة والخلاص، وكراهية الآخر حد التطرف العداء. وكل المجتمعات التي يستوطن بها الفكر الديني، لها نفس الخصائص الحياتية والسلوكية والمعيشية ولا تكاد نفرق بين بيئة وأخرى. فمثلاً هناك الكثير من المشتركات المتطابقة بين الشيعة والسنة، الخصمان التاريخيان الأبرز في المحيط العربي والإسلامي، من حيث الموقف من بعض القضايا العامة. فهما يتفقان في النظرة للمرأة والميراث وحقوق الإنسان. وموقفهما تقريباً شبه موحد من منظومة المحرمات المختلفة كالاختلاط والفن والموسيقى والإبداع، ونزوعهما العلني نحو التمسك بأنماط وأزياء وقيم وسلوكيات مستوحاة جملة وتفصيلاً من بطون التاريخ وحقبه الآفلة. وموقفهما من العصرنة والحداثة واحد، ومحاربتهما علنية وعداؤهما مبرم وقاطع وبات لكل قيم وأشكال التحديث والتطوير. ولا ميزة لفكر ديني على آخر من حيث نظرته للقيم الحضارية والعصرية وتطور المفاهيم والسلوكيات، وتمسكه بالقيم السلفية التي أنتجها رجال ومجتمعات عاشوا في سالف الزمان. ولننظر، مثلاً، إلى ما حدث لمصر الخمسينات والستينات، وإيران الشاه، وألف رحمة تنزل على مثواه، لوجدنا أن المصير الكارثي للبلدين هو واحد من حيث المعيار الحضاري السلوكي والمعرفي، حتى وإن اختلفت التسميات بين هنا وهناك. فطالما أن نتيجة غزو أو استيطان أي فكر ديني في أي مجتمع واحدة، فلماذا التفريق بين هذا وذاك؟ ولماذا الخوف من هذا دون سواه؟ وفي أوروبا ذاتها، وقبل أن تنفض عن كاهلها عباءات الدجل والخرافات، لم تكن تختلف كثيراً عن كشمير، وقندهار، وجاكرتا، والقاهرة اليوم، رغم الاختلاف الواضح في بعض أوجه البنية الغيبية بين هنا وهناك.
ومن هنا لن يـُحدث الغزو الشيعي لمجتمع سني، أو العكس، كما تخوف أحد كبار شيوخ الإسلام، أي تغيير في البنية المعرفية والإيديولوجية والمنظومة السلوكية لهذا المجتمع، مع الإقرار بأنه ربما كان هناك تغيير شكلي فقط في البنية الطقوسية وهذا أمر لا يجب أن يخيف سماحته على الإطلاق. ولن يتحول السني إلى سوبرمان فوري ومرعب لمجرد تشيعه، والعكس صحيح. فالنتيجة واحدة وهي تغييب المجتمع في كلتا الحالتين وشل قدراته ووأد إدارته وتلكؤه الحضاري والإنساني التام. ومن يعرف دول الخليج جيداً لا يكاد يفرق بين بيئة ومجتمع سني وآخر شيعي على الإطلاق. وحقيقة الخوف، في النهاية، إذا كان هناك ثمة خوف، فهو أنه خوف على امتيازات الشيوخ والفقهاء، وخوف على الزعامات الشخصية والمصالح الدنيوية والمكاسب المادية. فالله يقول (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر 9 . فهو، وحده، وحسب كتابه، من يتولى هذه المسؤولية ولا ينتظر على رجال دين، ووعاظ سلاطين، وفقهاء آدميين، لمساعدته في الحفاظ على دينه الحنيف. فالفقهاء، وخلال تاريخ طويل، لم يعملوا إلا على إضعاف الدين وتفكيكه وشرذمته، واختلاق الإشكاليات، وتغذية الانشقاقات والخلافات السياسية وتنازع المصالح والأهواء الدنيوية، وكله لا يتفق مع مشيئة الله. وكل ما نراه من خلافات وانشقاقات وانقسامات دينية، سببه البشر، وليس الله الذي يفترض أنه أرسل منظومة فكرية وإيديولوجية وسلوكية متكاملة تعرضت للتفتيت، والتشويه وحمى التفسير من قبل بشر نصبوا أنفسهم وصاة ومرشدين وعلماء على الناس. ( إلى اليوم يتميز أبناء رجال الدين ” معظم الأديان وليس الإسلام حصراً”، ماديا ومعنوياً عن أبناء “العوام” والدهماء والمساكين الفقراء، وكانت تتمركز الثروات والأملاك، تاريخياً، بأيديهم دوناً عن سائر الناس والخلق العاديين البسطاء).
والقضية لا تقف هنا، بل تمتد حتى إلى قلب أوروبا التي “غزتها” المجاميع المتدينة المهاجرة والهاربة من استبداد دينوسياسي شرق أوسطي عمقه وعمره أربعة عشر قرناً في بطن الزمان، لتقيم فيها مستوطنات بدوية متزمتة ومغلقة على النمط الشرق اوسطي الرث وتحيله إلى يباب وخراب وإلى غيتوهات منكوبة فكرياً. وآلت على نفسها أن تأخذ بمظاهر التدين والإيمان فقط ( اللحى، النقاب، الحجاب، الدشاديش، الزبيبة، بناء المساجد، والحوزات، إقامة المناسبات والطقوس الدينية المختلفة) وترك الجوهر والأساس. وقد تركت هذه المجاميع المتدينة بصمتها الواضحة في قلب أوروبا، وعمقها الحضاري والمدني، فلا تكاد تميز، أحياناً، بين حي في قلب لندن، أو أي حي آخر في قلب القاهرة والجزائر، أو حتى كربلاء، وطهران.
والخوف من الغزو الديني يتجلى في الدرجة الأولى في رفض أي فكر ديني لأية عملية تغيير في بناه المعرفية والإيديولوجية أو في مواكبة المسيرة البشرية الحضارية والقائمة جوهرياً وأساساً على عملية التجديد الدائم للإرث الفكري البشري تتميز بشكل جوهري ومبدئي بعملية إحلال منظومات فكرية ومعرفية جديدة مكان القديمة، وهذا ما يرفضه الفكر الديني بشكل عام، جملة وتفصيلاً، ولا يقبل بديلاً عن منظوماته الأزلية التي لا تتغير ولا تتبدل .
ومن هنا لا نجد أي تبرير لأي تخوف من غزو ديني لمجتمعات متدينة أخرى، فلن يكون الأثر والتأثير كبيراً. بل الخوف، كل الخوف الحقيقي هو في غزو الفكر الديني لمجتمعات متحضرة فكرياً وسلوكياً، فسيعمل الفكر الغيبي والديني على تدميرها وإعادتها للعصور الديناصورية، وهنا فقط كنا سنخاف، فعلاً، مع كافة المتخوفين، ونخص بالذكر منهم، عالمنا، الإخواني الجليل الكبير. والخوف الحقيقي الآخر والأهم، ليس من فكر ديني إزاء فكر ديني آخر بينهما الكثير من المشتركات، بل من فكر علمي أمام فكر غيبي. فهنا يصبح الخوف على الفكر الديني كبيراً وجدياً وحقيقياً. لأن الفكر الغيبي سيهوي ويتداعى، وينهزم، أمام أي فكر تنويري، وعقلاني، ومنطقي، وسيختفي، وتنتهي كل مبررات وجوده.
والخوف الجوهري أولاً وأخيراً، على الفكر الغيبي، والديني وبشكل عام، هو في هذا الغزو العولمي الفكري التنويري الأممي المبارك، وبجانبه الحضاري والإنساني الإيجابي، لتلك المجتمعات، والغيتوهات، التي أطبق عليها الفكر الغيبي ومنعها من التطور والارتقاء، وبدأ – الفكر الجديد- يغير في تركيبتها المعرفية ومحتواها الإيديولوجية وبنيتها السلوكية، وشرع يحطم منهجياً من طواطمهاوأصنامها المقدسة، ليمكنها لاحقاً، وحتماً، من بناء حضارة كونية متكاملة والمشاركة الفعلية في إنتاج وإثراء الفكر الإنساني التنويري والعقلاني العظيم وإغناء تجاربه بكل ما هو جميل ومبدع وأصيل وخلاق.