مناقشة مع الشيخ القرضاوي
بشير عيسى
في كلام له من على منبر “الجزيرة”، استنكر الشيخ القرضاوي ما يحدث في العراق من عمليات قتل وتدمير وخطف وصولاً إلى التطهير العرقي والديني في كثير من المناطق، محملاً الاحتلال مسؤولية ما يحصل في هذا البلد، مطالباً الحكومة والأجهزة الأمنية القيام بدورها الوطني الذي يمليه عليها واجبها في حماية الشعب والمؤسسات دون تمييز.
كما حمّل الميليشيات المسلحة التي تستخدم الدين ستاراً لها، والدين منها براء، مسؤولية في عمليات القتل والتهجير التي تستهدف المدنيين العزل، كما اعتبر التهجير بمثابة القتل كما جاء في كتاب الله.
كلام جميل نتضامن به مع القرضاوي في تحميل الاحتلال مسؤولية معظم ما يجري في العراق، لكن علينا ان نسأل: لماذا لم يكن الشعب العراقي محصناً ضد الاحتلال، ولماذا هذه الحرب الأهلية؟ أليس ما يجري في العراق هو نتيجة تاريخ طويل من ثقافة الاستبداد المهيمنة إن على صعيد السلطة أو على صعيد الخطاب الديني الذي لم يفرز حتى يومنا هذا مرحلة تحترم التنوع والاختلاف؟
هناك مشكلة بنيوية في تقبل الآخر واحترام حق الاختلاف والاعتقاد، علينا ان نكون جريئين أمام أنفسنا وامام التاريخ لنعترف، ولو بشكل جزئي، أننا في حالة احتضار معرفي طويل لأننا نتعامل مع خطابنا التاريخي والديني كمسلمة غير قابلة للنقاش.
لن نستطيع أن نؤسس لخطاب معاصر ما لم ننظر نظرة نقدية إلى ذاتنا تعيد إنتاج مرحلة جديدة نشارك فيها العالم نتاجه الحضاري، ونعمل لتجاوز ثقافة التبرير التي تعطل العقل عن إنتاج إبداع معرفي حقيقي.
سؤال يطرح باستمرار وليس له جواب: مشكلة الأقليات التي تجابه دائماً إما بالتخوين أو التكفير.
واليوم في مشكلة مسيحيي العراق يتكلم شيخنا عن كونهم مواطنين أصيلين متساوين في الحقوق والواجبات كحال المسلمين، ولكن إلى جانب أهمية هذا الكلام لا بد من ان نتساءل آملين ألا يكون كلامه لحظوياً وانفعالياً يزول بزوال الظرف الذي أدى اليه، مؤكدين على أهمية صدوره عن شخصية تمثل ثقلاً دينياً فقهياً في العالم الإسلامي. وما نطلبه هو ان يترجم هذا القول إلى ورشة عمل تطول كل المؤسسات والمرجعيات الدينية، وان يؤسس لخطاب أكثر عقلانية وإنسانية من الخطاب الرسمي المشبع بالتاريخية الأصولية التي تعتبر في أحسن حالاتها ان حماية المسيحي هي من باب المستجير الضعيف وعلى المسلم إعطاؤه الأمان وهو موقف لا يبتعد كثيراً عن مفهوم الذمّي، الذي يقدم الجزية “صاغراً”.
نطالب شيخنا بترجمة الأقوال إلى سلوك، لان الثقافة سلوك، مبادراً إلى طرح فكر إسلامي مستنير منفتح على الآخر، وخطاب نهضوي تشترك فيه كل التيارات والمشارب الفكرية المتنوعة، خطاب يتناغم مع الحضارة ويساهم في إنتاجها بدل الصدام معها، مقراً بحقوق الإنسان كما جاء في شرعة الأمم المتحدة كوننا جزءاً لا يتجزأ من تلك الأمم التي تسكن هذا الكوكب.
عود على بدء
لنثنِ على كلام الشيخ باعتبار المسيحيين مواطنين، وهذا طرح جديد في الخطاب الإسلامي ينطلق فيه من مفهوم الأمة والرعية إلى مفهوم المواطنة والوطن، متعاملاً مع الإنسان كونه إنساناً بغض النظر عن لونه أو عرقه أو معتقده، وليس في هذا منّة من احد.
إن ثقافة المواطنة تؤسس لثقافة الاختلاف والتنوع وقبول الآخر، والتي تؤدي إلى إغناء المجتمع بعد تحرره من ثقافة الاستبداد التي تقيد العقل، فتجعله عقلاً مستهلكاً بدل ان يكون حراً ومنتجاً خلاقاً.
يتحضرني المفكر الراحل ياسين الحافظ بقوله: “إن تطور العرب مرهون بتطور الطائفة السنية كونها تشكل السواد الأعظم”، كي يزول هاجس الخوف عند الأقليات على مختلف أنواعها، إذ يخف عندها التعصب والانغلاق على الذات، لتدخل في حالة تفاعل وإغناء مع باقي مكونات المجتمع.
لا يكفي ان نؤكد على عراقة المسيحيين وقدمهم وأصالتهم في مجتمعاتهم واعتبارهم من أهل البيت وليسوا ضيوفاً عليه، ما يعكس حقيقة وجود رأي عام يصور عكس ذلك، لقد اقترب الشيخ القرضاوي من الحق وإن كان مجتزءاً وذلك لعلمنا بأقدمية المسيحيين إنصافاً للتاريخ ولوضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحق.
وإذا كان الإنسان مواطناً يلتزم بالقوانين ويعمل لخدمة وطنه، بغض النظر عن قدمه التاريخي كعرق أو طائفة طالما انه تحت سقف القانون، فأين تكمن المشكلة وهل يكون خروج البعض على القانون مبرراً بحيث يعطيهم الحق باعتبارهم مواطنين أصيلين، أما الآخرون فهم خارج نطاق تلك المواطنة والأصالة؟ إن كل إنسان يرفض مثل هذا الطرح الذي يعيد إنتاج ثقافة العنف والتمييز المؤدية بدورها إلى صراع الحضارات.
يبقى لنا عتب صغير على الشيخ القرضاوي حول ما جاء في كلامه عن “ديار الإسلام”، وهي جملة تناقض مفهوم المواطنة وتكرس ثقافة الخوف وتجعل كل مقيم في ديار الإسلام من غير المسلمين ضيفاً.
علينا أن نقف مطولاً عند الكثير من الكلام الذي اعتدنا قوله دون الوقوف عنده ملياً، من قبيل: هداية الناس، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ديار المسيحيين وديار المسلمين، ولا نعرف أين ستكون ديار اليهود؟…
إن مثل هذا الكلام يكرس ثقافة التمييز وليس التمايز، كما ان فرز البشر حسب المعتقد أو العرق ينتقص من إنسانية البشر. لقد وجدت الأديان والأفكار لخدمة الإنسان وليس العكس، لذا وجب الابتعاد عن الغلو والتعصب لنعيد للعقل اعتباره وللتنوع دوره، فنكرم الإنسان الذي كرمه الخالق.
ارفعوا أيديكم عن هذا الإنسان ولا تنصبوا أنفسكم وسطاء بينه وبين الخالق الذي جاء في كتابه: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
أما بالنسبة الى الحساب فاتركوا قانون الحساب للسماء، ألم يقل الله لرسوله: “إنك لا تهدي من أحببت إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء”.
إن فكرة تأسيس فكر أصولي معاصر يريد اسلمة العالم كله ولو بالقوة يحرض الآخرين على إنتاج فكر أصولي مضاد يمهد الطريق لدمار جديد وحروب أشد فتكاً وخراب يضاف إلى خرابنا الراهن.
ألا يؤسس قتل المسيحي لكونه مسيحياً لأصولية مسيحية عند البعض؟ ألم يكن تدمير تماثيل بوذا من قبل “حركة طالبان” فعلاً يعكس حقيقة الاعتقاد لدى هؤلاء من دون خبث، فقط لأن الفن والجمال والإبداع مصطلحات غريبة على قاموسهم الفقهي والعملي، إنها المفارقة ان تُهدم الأوثان والأصنام والتماثيل من قبل من يحمل هو نفسه عقلاً صنمياً، واستطراداً، لا بد من الوقوف عند حكمة ورجاحة عقل المرجعيات البوذية التي لولاها لاندلعت أصولية بوذية ربما اقتلعت المسلمين من ديارهم باعتبارهم أقليات بين أكثرية بوذية، وهنا نستعيد كلمة “ديار” بشكل مختلف (…).
(كاتب سوري)