حازم صاغيّة أو غلطة الشاطر: هذا التشهير… فأين السجـال؟
بيار أبي صعب *
بوليغان ــ المكسيكبوليغان ــ المكسيكحين يُصاب المرء بضربة موجعة، لكي لا نقول ضربات متتالية، من الطبيعي أن يصرخ. والصراخ نادراً ما يأتي هادئاً أو موزوناً. ليس هذا دفاعاً عن أسعد أبو خليل، وهو يعرف كيف يدافع عن نفسه ومتى، ولا وقفة تضامنيّة معه ولعلّه في غنى عن أي تضامن! كل ما في الأمر أننا من الذين يتابعون هذا الصوت «العربي الغاضب»، ويرصدون بفضول واهتمام الإقبال الواسع على مقالاته في «الأخبار»، من قِبل قرّاء لا تنطبق عليهم صورة المتطرّف الخطير أو الإرهابي الدموي… وكذلك الأمر بالنسبة إلى زوّار مدوّنته التي صارت ملتقى خاصاً وفريداً من نوعه لأفراد من آفاق فكريّة وجغرافيّة مختلفة، يجمع بينهم الهمّ القومي والهاجس التغييري والخطاب النقدي، أو يهتمّون بالعالم العربي من هذه الزاوية.
أما نبرة أسعد العالية والصاخبة غالباً، وإن فشّت خلق كثيرين بيننا في زمن قائم على التسلّط والطغيان والاستبداد والفجور، وما يوازيها في المقابل من قهر سياسي واجتماعي وحضاري وفردي، إنّما تطرح على البعض منّا علامات استفهام أيضاً. إذ لا يخفى على أحد أن بين مشاغلنا الأساسيّة في «الأخبار»، الدفاع عن منطق مدني، وبلوغ درجة ممكنة من الموضوعيّة والمهنيّة والإصغاء إلى الآخر، وإرساء قواعد ديموقراطيّة تفترض نبرة هادئة للنقاش والحوار والاختلاف. لذا طُرِحَتْ علينا منذ البداية، وتعود إلى بساط البحث بين حين وآخر في مجلس التحرير (بعلم زميلنا البعيد ـــ القريب، حيث هو في جامعته الأميركيّة «الثانويّة»)، مسألة الحدّة التي يلوّن بها أسعد مقالاته السجاليّة. وآخر نقاش أثير كان حول طريقة تعرّضه للشاعر أدونيس.
السؤال ما زال قائماً إذاً بيننا، وبين كتّاب الجريدة وقرّائها: كيف السبيل إلى التوفيق بين غضب محقّ ومبرّر هو خبزنا اليومي، ومعايير أخلاقيّة يهمّنا أن نبقى في طليعة القائلين بها والمدافعين عنها، لأنها من صلب مشروعنا أساساً، وأيضاً لأنّها تحفظ اللعبة وترسّخ الحوار وتحمي الجميع؟ وهنا لدينا ربّما ما نتعلّمه من الأصدقاء والخصوم، وأحياناً الأصدقاء ـــ الخصوم. وقد يكون حازم صاغيّة في طليعة هؤلاء، ليس فقط بحكم الأواصر العاطفيّة التي تربطه بالجريدة عبر مؤسسها (نتحدث عن الإصدار الثاني لـ«الأخبار»)، بل أيضاً كونه من المراجع الأخلاقيّة والعقلانيّة التي يُركَن إليها عندما تفتقد الأصوات الشجاعة، وتلف ليلة ليلاء شرق ـــ أوسطيّة أهل التنوير ورافعي لوائه.
ولشِدّ ما كانت خيبتنا كبيرة، حين قرأنا مقالة حازم «… عن مزحة سمجة اسمها أسعد أبو خليل» («الأخبار»، الخميس ٦ ت2 / نوفمبر ٢٠٠٨). كنا نتوقّع منه نموذجاً للسجال الهادئ، القائم على الحجة والبرهان واحترام الآخر، لكي يلقّن أسعد درساً لن ينساه في آداب الحوار وأصوله، فإذا به قد انزلق إلى أحطّ دركات اللغة المتوتّرة والجارحة، متجاوزاً خصمه بأشواط، في كل ما يتّهمه به من عشوائيّة وتهوّر وتجنّ ومجّانيّة وضرب تحت الزنّار.
انتظرنا حازم صاغيّة عند محطّة العقلانيّة الباردة، مفككاً ـــ بأدواته النقديّة ـــ خطاب أبو خليل، ومفنّداً حججه، وداحضاً اتهاماته، فأطلّ علينا من باب التقذيع والتعيير والتشهير. لقد صبّ جام «غضبه» على هذا الولد الأرعن، الفاشل، السوقي، العديم التربية، ذي القيمة الأكاديميّة المشكوك فيها، الذي يحتاج إلى طبيب نفسي (التحقير هنا لعلم النفس التحليلي على الأرجح)، والذي يفجّر مواهبه في فيلكا ـــ ديبلوماتيك عربيّة فيعتبره العربان المتخلفون مفكراً (عجباً، بأيّة فوقيّة وأي احتقار يتعامل هذا المثقف البارز مع «الناس الكتير»!)، فيما كتاباته ليست سوى «حكي نسوان على الفرن»! وكالعادة في الشعر الجاهلي (ليبرالي ـــ عشائري يا حازم؟) لا يكفي التهجّم على الشخص موضوع الهجاء، بل لا بدّ من التعرّض لأهله وقبيلته.
يبدأ الطعن بالعائلة التي لم تحسن تربيته، مروراً بـ«الأخبار» التي تبدو أرضاً قاحلة لا تطلع منها الأفكار، وبؤرة للحاقدين والمتعصّبين والغوغائيّين وعديمي الأخلاق والموهبة، وصولاً إلى اليسار العربي المنحطّ الذي يقبل بأمثال أسعد أبو خليل بين أصواته ورموزه، وبالأمّة البليدة جمعاء إذ ينطلي عليها هراؤه مثلما انطلى عليها «النصر الإلهي».
كل هذا في مقالة واحدة!
إذا كان يشفع لكتابات أبو خليل أنّه يقف في موقع العربي المقهور الذي يواجه ظلماً كونياً مزدوجاً بين انحطاط الداخل وتسلّط الخارج، فما هي أعذار صاغيّة الذي يتسلّى بانحطاط الداخل بعد أن وجد الذرائع لاستبداد الخارج (الاستعمار الجديد يبقى أفضل من الهمج والمتخلّفين الذين يتصدّون له)، وبعد أن تصالح مع منطق السوق، وقام بتسوياته (المركّبة طبعاً والتي تستحق نقاشاً رصيناً وطويل النفس) مع القوى المهيمنة، وحل مشاكله مع معسكر المنتصر منذ زمن بعيد؟
لن نتوقّف بطبيعة الحال عند ذائقة حازم الموسيقيّة (انحسار موهبة زياد الرحباني!)، بل نلفت نظره إلى أن «الأخبار» هي التي نشرت رد الفنّان أنور إبراهم على كلام نُسِب إلى زياد، ولا أحد يعرف متى قاله وكيف وفي أيّة ظروف، عن «يهودية» إبراهم المفترضة، و«صهيونيّته» المزعومة. إن جريدتنا حريصة على تفادي مطبّات اللاساميّة والعنصريّات على أنواعها، بما فيها تلك التي يمارسها حازم في مقالته، بحقّ النساء. وندافع عن التجارب الطليعيّة التي غالباً ما نكون السبّاقين إلى تلقّفها وتقديمها للقارئ بأساليب مغايرة، كما ندافع عن حقوق الفرد بشكل عام.
أما صفحات الثقافة والميديا فمفتوحة لكل الأصوات والتجارب والتيارات، من دون تمييز أو تفضيل. لكن ليسمح لنا أيضاً أستاذنا وصديقنا الذي تعلّمنا منه احترام حق الاختلاف، ليسمح لنا أن ندافع عن خياراتنا أيضاً بين حين وآخر، في جريدتنا، ضمن مشروعنا الأخلاقي والسياسي والوطني. لم نفهم بالضبط ما الذي يعيبه علينا في هذا المجال؟ هل أسأنا لأحد؟ هل روجّنا أخباراً كاذبة؟ هل أهملنا حدثاً ثقافيّاً مهمّاً لأنّه لا يتناسب مع مواقفنا؟
أما مواجهة التطبيع، فليست إساءة للديموقراطيّة… وممارسة النقد ليست إرهاباً ولا تسلّطاً على الرأي العام… والدفاع عن «المقاومة» حق مشروع لا جريمة بحق حريّة التعبير! الآلة الإعلاميّة المهيمنة عربيّاً، من الصحافة المكتوبة إلى الفضائيّات، معادية ـــ بسوادها الأعظم ـــ لخيار الممانعة، حين لا تكون مروّجة للنعرات المذهبيّة، وملطّفة ما أمكن لصورة الجلاد… فلماذا تستكثرون علينا التعبير عن الرأي الآخر فوق هذه الفسحة المتواضعة؟
إذا كنّا نقف، بكل ثقة وقوّة، دفاعاً عن «المثليّين والهامشيّين والمهمّشين»، ودفاعاً عن حريّة المواطن العربي بما فيها حقّه في الإلحاد، ودفاعاً عن قيم العدالة الاجتماعيّة والعلمانيّة والتعدّديّة، وتضامناً مع إخواننا المعتقلين في السجون العربيّة بدءاً بميشيل كيلو، فنحن نفعل في ظل بندقيّة المقاومة. فيما يواجه كثير من شركائنا في منابر أخرى ـــ أكثر نظافة وليبراليّة وعصريّة (وشياكة) لأنّها «دازنت لايك مكاومة» ـــ صعوبة عظمى في خوض المعارك إيّاها، والدفاع عن القضايا نفسها، إذا افترضنا أنّها تشغلهم حقّاً. هؤلاء الزملاء لا يتجرّأون بسبب مصالح مؤسساتهم، ورجعيّتها أو انتهازيّتها أو الاثنين معاً، على تناول المحظور والمسكوت عنه، بشكل مباشر وواضح وعلني وصريح، بما في ذلك المجالات الدينية والأخلاقيّة. فالمشكلة ليست بالضرورة في النفط يا أصدقاء ـــ أهم منابر الإعلام المكتوب في فرنسا تملكه شركات أسلحة ـــ بل في هامش الحريّة التي يتيحها هذا المنبر الإعلامي أو ذاك، في الأسس الفكريّة والأخلاقيّة التي يقوم عليها أي مشروع إعلامي بطبيعته.
صحيح، لقد عمل كاتب هذه السطور في «دار الحياة» 15 عاماً، عاش فيها لحظات جميلة ولحظات أقل جمالاً، قد يأتي وقت الكتابة عنها يوماً، وعندما توافرت له فرصة الاقتراب من نفسه أكثر، لم يتردّد. ولعلّه ليس نادماً على شيء، بل بالعكس. إنما يحمل في القلب، من تلك التجربة،غصّة واحدة: هل يأتي يوم يستطيع فيه أن ينشر هو في «الحياة» مقالة نقديّة عنها، مثلما فعل حازم صاغيّة أخيراً في «الأخبار» (من دون أن يحذو حذوه في التجريح والتجنّي طبعاً)؟ لم نكن نتوقّع من صديقنا أن يستغلّ سجالاً مع أحد كتّاب «الأخبار»، في «الأخبار» التي تفتح صفحاتها لمنتقديها، لتحقير جريدة بأسرها، وتشويهها والتجنّي عليها والحط من قدرها إلى هذا الحدّ، والإساءة إلى كتّابها وقرّائها في آن معاً. هل يمكنه بعد ذلك أن يعطي دروساً، لأسعد أو سواه، في أصول السجال؟
لن نرتكب خطأ حازم ونعامله بالمثل، يكفينا أن نساجله هو بمعزل عن أي مؤسسة أو حزب أو تيّار. لن ننصحه بالتوجّه إلى عيادة نفسيّة كي يحاول أن يفهم سرّ هذا الحقد الدفين على «الأخبار» (على العموم الخضوع للتحليل النفسي ليس عيباً أو قصاصاً، بل مبادرة صحيّة وحيويّة ومفيدة). لن ننجرّ إلى القول، مثل آخرين، إنّه كاره نفسه والمكان الذي جاء منه. لكن ماذا لو كان ما يزعج حازماً هنا هو أهم العناصر الجدليّة الجميلة التي تأسست عليها تجربتنا مع جوزف سماحة؟ لعلّه لا يستطيع أن يتصوّر أن المشاغل الطليعيّة والتقدّميّة والليبراليّة والعصريّة والتغييريّة، يمكن أن تعيش (لا أن تتعايش) بشكل صحّي وطبيعي ومنطقي مع خيارات المعارضة واليسار، الممانعة والمقاومة؟ يبدو أن احتقار حزب الله، وزم الشفة السفلى بقرف عند الحديث عنه (طبعاً… لأننا «لاييك»، و«سكسي»، ومع الحريات، وقلبنا على دولة المؤسسات، وليس لأسباب أخرى)، شرط لا بدّ منه في بعض الدوائر المهيمنة للحصول على براءة ذمّة، وللارتقاء إلى طور الحداثة والطليعيّة والمعاصرة و… الشياكة!
كنّا نتوقّع من حازم صاغيّة القريب من الوجع والتجربة، أن يكون أكثر إنصافاً، وأن تكون نظرته إلى الأمور أكثر تعقيداً والتباساً وتسامحاً وديناميّة، وأن يحاول أن يرانا كما نحن ـــ لا أكثر ولا أقلّ! ـــ بسيّئاتنا الكثيرة ربّما، وحسناتنا القليلة… وأن ينتقدنا على أساس قيم تجمعنا به، يرى أننا أسأنا إليها، وأرضيّة مشتركة يهمّنا الحفاظ عليها وتطويرها. أما الآن، فلم يعد أمامنا سوى حلّ واحد، إذا شئنا الحفاظ على حازم الآخر الذي نحبّ، والذي يشكّل بالنسبة إلى بعضنا على الأقلّ، قدوة وقيمة فكريّة: علينا بسرعة أن ننسى غلطة الشاطر… نمحو مقالته الأخيرة في «الأخبار» من ذاكرتنا… نرميها في الثقب الأسود مع مقالات أخرى قديمة له، لم يعد هو يريد أن يتذكّرها، أيام كان يفوق الجميع شتماً وتقذيعاً.
* من أسرة الأخبار