المعارضة السورية والثقافة النقدية
غسان المفلح
تواجه المعارضة السورية منذ ما يقارب الأربعة عقود, حملة منظمة وممنهجة, لمنع تحولها إلى مؤسسات قادرة على وضع حد لهذا العنف السياسي والجسدي الممارس ضدها. هذا الأمر مفهوم في سياق تعاطي السلطة في دمشق مع فكر المعارضة من أساسها. لكن الأمر في الجهة المقابلة,
يتعلق بالعنف الرمزي الذي تمارسه أطياف المعارضة مع بعضها بعضا. يقال في الأمثال الشعبية, لكل زمان دولة ورجال, ونحن في سورية, مازالت نفس الدولة ونفس الرجال في السلطة وفي المعارضة. مع تغيرات طفيفة لا تكاد تذكر, وإن ذكرت فهي موضع خلاف ليس مجاله الآن. المشهد كما أزعم في ذهن المواطن السوري: أن السلطة لم تتغير أبدا مازالت هي هي, سواء كان هذا المواطن من أتباع السلطة أو من الذين هم في الهامش وهم الأكثرية, أو كان يميل بنفسه للمعارضة. السلطة لم تتغير بالنسبة له, مازالت كما هي برجالها وعلاقاتها. هذا الأمر ينطبق أيضا على المعارضة السورية. صحيح أن المواطن لا يوجد في ذهنه معارضة متنوعة, ولكن يوجد في ذهنه أن التنظيم الوحيد الذي خاض صراعا مسلحا ضد السلطة هو تنظيم جماعة الأخوان المسلمين السورية. وما تبقى من رجالات المعارضة لم يسمع بهم هذا المواطن إلا عبر ثقافة التلفزيون, بشكل أساسي. فالمواطن لم تكن تصله المنشورات السرية, في المحصلة المعارضة بدأت تعرف لدى الشارع السوري من خلال القنوات الفضائية العربية, وبمعزل عن الطريقة والهدف التي قدمت فيها شخصيات المعارضة السورية داخل هذه القنوات الفضائية مشكورة على كل حال. عندما جاء الانترنت, أيضا ساهم بشكل ما في توضيح الصورة أكثر لدى المواطن السوري. الذي وضعته السلطة في صورة تصور واحد: أن المعارضة هي في موقع الخيانة والارتهان للأجنبي. كما يمكننا القول أن المعارضة استفادت من الهامش النسبي غير المقونن الذي أتيح أثناء الفترة الانتقالية بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد. مستجدان فكريان دخلا على أنساق المعارضة, أو بشكل أدق مفهومان: الأول هو الليبرالية, والثاني هو العلمانية. هذان المفهومان كانا ملحقين أو ذيلا في أيديولوجيات أكبر. الآن احتل المفهوم الأول خانة الخيانة واحتل المفهوم الثاني خانة الوطنية والخيانة معا حسب الموقع! وهذا الدخول أحدث انقساما في صفوف المعارضة. وحده التيار القومي وخاصة الناصري منه لم يجر أية مراجعة لفكره, بعد رحيل مؤسسه في سورية المناضل الديمقراطي الدكتور جمال الأتاسي الذي يمكن اعتباره محطة تجديد مهمة في الفكر الناصري. أما ما تبقى من أطياف المعارضة وتياراتها فكلها قاطبة تتبنى أفكارا وتعديلات سواء كانت جوهرية أو ثانوية على أنساقها, ولكن بقي نفس الرجال.فكان من الضروري والحالة هذه أن تنبثق ثقافة نقدية من خارج كل هذه الأطر, ومن خارج رمزيات رجالها سواء منهم من دفع ثمنا باهظا في الاعتقالات أو من بقي في منأى عن هذا الأمر وهم قلة في الحقيقة. فكان الفضل للإعلام العربي المكتوب, الذي أتاح الفرصة لظهور أسماء مهمة في الثقافة النقدية, كياسين الحاج صالح ورضوان زيادة وبكر صدقي وعمر قدور و لؤي حسين, أسماء كثيرة بات لها مساهمة جدية في نقد الثقافة السائدة لدى السلطة والمعارضة والمجتمع. وكلها من خارج الأطر المعارضة أقله تنظيميا وسياسيا. ولكن من الملاحظ أن هذه الثقافة النقدية لم تستطع حتى اللحظة أن تجد مرجعية ما داخل صفوف المعارضة السورية, خاصة أننا مازلنا أمام نفس النسق من رجال الصف الأول من الأطر المعارضة ورمزياتهم. بدأت هذه الثقافة النقدية تسلط الضوء على المرجعيات الأيديولوجية والفكرية والفلسفية لهذه الثقافة السائدة وعلى تفكيك معاييرها. الغريب في الأمر أن هذه الأطر المعارضة بدأت تتعامل مع هذه الثقافة النقدية الناشئة بشيء من الحذر من جهة, وأحيانا بشيء من الإقصاء والمعيارية الثنائية. هذا عدا عن انقسامات داخل هذه الثقافة النقدية, وهذا أمر صحي, ما لم يدخل عالم الاعتراض السياسي السفلي, والذي تقدم فيه الاصطفاف اللاعقلاني والشخصي على حوارات الفكر والثقافة من أجل الوصول إلى أن تكون هذه الثقافة النقدية الوعاء الثقافي الذي يشكل غطاء مدنيا وحضاريا للفعل السياسي في المعارضة السورية. الأهم من كل ذلك هو حاجة المعارضة لهذه الثقافة النقدية من أجل تجديد بناها والأهم تجديد رجالاتها, وتجديد ثقافة أحزابها نحو مزيد من الثقافة الديمقراطية. مع ذلك نستطيع القول أنه رغم الاعتقال, بات هنالك صوتا للمعارضة السورية, وتجلى هذا الأمر بعد الاعتقالات الأخيرة لإعلان دمشق, عبر مطالبات دولية بالإفراج عن المعتقلين وأشكال تضامن متعددة. رغم ذلك أيضا, مازال الفعل المعارض في الداخل السوري والخارج يرتبط بنفس النسق تقريبا من الرجال- مع تقديرنا العميق لتضحيات هؤلاء الرجال. وبقيت العلاقة بين المعارضة والثقافة النقدية علاقة يغلب عليها الطابع الارتجالي, وذلك لغياب العامل المؤسسي. فلا ثقافتنا النقدية استطاعت أن تجد حاضنا مؤسسيا ومدنيا, ولا المعارضة السورية أيضا بالمقابل استطاعت أن تنتج مثل هذه المؤسسات التي لا تتوقف على أشخاص, ولا على المساحات القليلة في الإعلام العربي المشكور والمخصصة لهؤلاء المثقفين. وهذا المنع لا يخفى على أحد أن سببه الأساس هو القمع. وأسبابه الأخرى ضعف الدعم الدولي وميزانه المتحرك, تبعا للأجندات السياسية. لكن مع ذلك لا بد لنا من القول أن التحولات التي جرت وتجري داخل صفوف المعارضة في هذه الظروف السيئة التي تعيشها تحتاج إلى زمن ووقت, لكي يتم التفاعل داخل أطر مؤسسية تجمع ولا تفرق, رب قائل, لكن الزمن ليس في مصلحة المعارضة! ولا جواب لدينا غير أنه ما العمل إزاء هذا الوضع غير أن نبقى في المحاولة ذاتها, من أجل تفاعل أكبر بين الثقافة النقدية وأطر المعارضة, تفاعل لا يلغي استقلالية المثقف النسبية عن هذه الأطر ولا يجعل هذه الأطر ذات تبعية لهذه الثقافة?
* كاتب سوري