صفحات العالمما يحدث في لبنان

خرافات الحسم العسكري أو اللادروس من التجارب

ميشال أبو نجم
وراء السجال الدائر والأجواء العامة في لبنان المثقلة بهواجس الفتنة والإقتتال الداخلي، تقبع الفكاهة السوداء المرتبطة تاريخياً بالصراعات اللبنانية المتناسلة. فلعلَّ أخطر ما يطفو على السطح، هو تكرار استسهال الذهاب نحو المواجهة والحسم، والإعتقاد بأنَّ الحرب ستحمل معها انتصاراً على الخصوم أو على الأقل الصمود أمامهم وردِّ “اعتدائهم”. وبطبيعة الحال، فإنَّ لكلٍ من “حزب الله” وتيار “المستقبل”، اللذين يقودان ما يسمى تجاوزاً 14 آذار و8 آذار، روايته لـ”الظلامة” التي يعتبر أنها تُلحق به وتضعه في موقع الدفاع المشروع عن النفس.
لا تتّعظ الجماعات والقوى اللبنانية من الدروس الأليمة والمكلفة والموجعة للحروب التي تركت آثارها على الإجتماع اللبناني والدولة والكيان بحدِّ ذاته. ذلك أنها برفض التنازلات واعتبار بعض الخطوات المطلوبة من أجل الحفاظ على السلم الأهلي خطوطاً حمراً لا يمكن القبول بها، تعلن وبوضوحٍ تام أنَّ كلفة المواجهة هي أقلّ من التكلفة الباهظة للسلم والإستقرار، وأنه من الأفضل أن يشتعل لبنان على تجرّع “سمّ” التسوية المؤلمة، وأن الفرصة متاحة لإنهاك الخصم وتقليص قوته وحجمه.
وفي وقت ليست قوة “حزب الله” العسكرية وقدراته على الإمساك بالوضع موضع جدال، فإن بعض الأجواء السياسية والشعبية في فريق الرابع عشر من آذار تذهب إلى التأكيد على ضرورة خلق “توازن الرعب” مع “حزب الله”، وأنَّ المواجهة إن حصلت لن تكون على غرار السابع من أيار 2008، خاصة أن المواجهة في الشارع لا تحتاج إلى بنيات عسكرية ضخمة بل إلى مجرّد أسلحة فردية وتدريبات بسيطة، والعدّة الباقية تتكفل بها العصبية المذهبية والدعم الأمني والاستخباري لبعض الدول العربية وخاصةً مصر والأردن، ولربما بعض القوى المتطرفة الطامحة إلى هزيمة “الروافض”.
إن تجارب الحروب الأهلية ومنها الحرب اللبنانية، تظهر بوضوح أن الشعارات و”القضايا” البراقة والجاذبة التي تخاض تحت لوائها المواجهات والتي تُستخدم لتعبئة الجماهير، تصبح أثراً بعد عين في ظلِّ تنامي لعبة العنف والصراع على السلطة وتوسع دائرة المشاركين الخارجيين الذين يكونون كالعادة في صفِّ المستفيدين من هذه النزاعات وحاصدي الجوائز من النظام العالمي لمساهمتهم في إعادة الإستقرار والإمساك بـ”الساحة” اللبنانية. قد ينسى المتحمسون لتغييرات تقلب قواعد اللعبة وإيجاد قواعد جديدة لمصلحتهم أنَّ الحرب اللبنانية أظهرت أن أطراف النزاع وأهدافه عرضة للتبدل المستمر(1)، وأنَّ هذه الحرب تطورت لتنتقل إلى صراعاتٍ دامية ومُمزِّقة داخل الطوائف والمذاهب وأنَّ ما اصطلح على تسميته بالقضية بات عنواناً لتكريس تسلط القوى المتحاربة ومنحها الشرعية الكافية للدفاع عن مصالح “الطائفة” أو “المذهب” أو “الحزب”، وأنَّ الشبّاك الذي قد يُفتح أمام الفتنة المذهبية الكبرى ستتسللُ منه منظماتٌ جُهنمية ترعاها الدوائر الاستخبارية وتجد بيئة خصبة لتفريخ الإرهاب، على غرار ما شهدناه من “مآثر” لـ”فتح الإسلام” في نهر البارد.
وإذا كان من المفترض أن تقود الصورة الفظيعة والمرعبة لأشباح الحرب إلى تفاديها وابتداع أساليب تسووية، يقود ذلك إلى السؤال عن أي قوى تحمل هذه التقاليد في السعي لإيجاد مخارج سلمية للنزاعات والإبتعاد عن آداب الإستعانة بالخارج وبناء أرضية صالحة للتفاهمات والإقلاع عن استغلال العصبيات وإثارة الشارع حتى الحدِّ الأقصى. لقد نشأت معظم القوى المنخرطة في آليات الصراع الحالي من رحم تفكك الدولة في الحرب وترييف المجتمع وتصديعه وحافظت على تعسكرها حتى بالرموز والشعارات ووجدانها المتطلع إلى “الخلاص”، وبنت أمجادها على توحيد “الطائفة” وإقفالها أمام تداول السلطة وبروز نُخب تدرك كيمياء لبنان وقادرة على الإستماع إلى الآخر. وإذا تجرأ أحدهم وفكّر بابتداع وسائل للتفاهم وسحب الصواعق التفجيرية يصبح في مرمى التصويب والإستهداف والتشنيع والتخوين، خاصةً أن البروز بمظهر الصقر والمدافع عن “الطائفة” أو “المذهب” له من الأرباح الشعبية ما يكفي لتنطّح رؤوس عديدة لهذه المهمة.
في هذا الإطار تُفتقد قماشةٌ من القادة والنخبة التي حكمت وأدارت السياسة اللبنانية في ما يسمى الجمهورية الأولى في عهود الإستقلال، وخاصةً النخبة الشهابية التي تشرَّبت مفاهيمَ الإعتدالِ والتوازن والتسوية والإنخراط وتجنبِ الإنجراف في مشاريع إقليمية مغامِرة ومُكلفة. من جهةٍ أخرى، يمكن النظر إلى بعض السياسات والتحالفات العابرة للطوائف كإحدى الوسائل في إدارة وتضييق هامش الخلافات اللبنانية، ومنها “وثيقة التفاهم” التي توصل إليها فريقان أساسيان في اللعبة الداخلية هما التيار الوطني الحر و”حزب الله”، والتي من الواجب تقويمها بعيداً من الإنتماءات السياسية والفكرية. إذ تشكل الوثيقة إحدى التعبيرات العقلانية والمكتوبة وغير المسبوقة في محاولة إقفال خطوط التماس والبناء على أسسٍ جديدة، وعلى الرغم من أنَّ هذه الوثيقة وتعبيرها السياسي في التحالف والتنسيق الوثيقَين لا يمكن أن يُعزلا عن المحفِّزات السياسية المحضة لكلٍ من الفريقين اللذين كانا يتعرضان للتهميش في سلطة ما بعد الإنسحاب السوري، فإنها كانت ثمرةً لتفهم متبادل ولمسيرةٍ طويلة من التواصل المعمّق وغير العلني بين قوتين مختلفتين إيديولوجياً وسياسياً على عناوين كثيرة.
في أيِّ مواجهة مقبلة لا سمح الله، لن يكون بإمكان اللبنانيين هذه المرة الإستعانة بنظرية “حروب الآخرين على أرضنا”، وإن كانت أطراف خارجية تسعى لاستغلال النزاع من ضمن الصراع المذهبي الإقليمي في المنطقة. ففي هذا الواقع الصراعي، تتفوق الآليات الداخلية للصراع على الآليات الخارجية، ويملك تيار المستقبل وتحديداً رئيسه وكذلك “حزب الله” الخيار في عدم تفجير الوضع أو التشدد وإيصاد الأبواب أمام الحلول. وفي الوضع الخارجي، تراجعت حدة الصراع الدولي الإقليمي في بعض جوانبه المؤثرة جداً على لبنان، وتحديداً في ما يختص بانخفاض التوتر لا بل التواصل بين الولايات المتحدة وسوريا وبين السعودية ودمشق، في وقت يبقى التجاذب الغربي والعربي مع إيران عامل اضطراب وتوتر.
وكما في كلِّ التغييرات المؤلمة والكبيرة، من البديهي التوقع بأنَّ الصراع الحالي، ولو بقي ضمن دائرة التهدئة الهشَّة، سيقود إلى بروز معادلات جديدة في لعبة السلطة وتالياً تكريس موقع الشيعة في النظام كشريكٍ في القرار، ولو بتسمياتٍ مختلفة وتورياتٍ دستورية أو من خلال اتفاقات الضرورة، وما أكثرها في لبنان! الثلث المعطل أو حق الفيتو هو العنوان الحالي للموقع الشيعي في النظام وأحد أوجه النزاع منذ العام 2005، ولن تحمل معها المرحلة المقبلة إلا الحفاظ على هذه “المكتسبات” الشيعية وربما تكريسها. ومن سخريات القدر أن نتائج المواجهة ستؤدي إلى دخول الحامي السوري سياسياً من باب الرعاية السعودية والتطلع السني و”الآذاري” إلى دورٍ سوري حامٍ من “حزب الله” وتوفيقي.
ستُطرح على اللبنانيين أيضاً، وكما في كل أزماتهم الحادة، معادلة إيجاد صيغة داخلية لإدارة التنوع وحل التناقضات من ضمن البناء الدستوري الوطني، أو تكريس الرعاية الخارجية في نوع من مجلس إدارة بات لاعبوه معروفين، كعاملٍ إيجابي في الحفاظ على السلم والإستقرار. على أنَّ الأمثلة اللبنانية ليست مشجعة على الأحلام بالرشد الداخلي، على الأقل مع وجود هذه الكوابيس الكثيرة في ظهرانينا…
(1) فريد الخازن، “تفكك أوصال الدولة في لبنان”، مقدمة الكتاب ص 20، “دار النهار”، الطبعة الثانية نيسان 2002.
ناشط في “التيار الوطني الحر”
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى