صفحات مختارة

الطائفية في معناها ومبناها

فالح عبد الجبار
لعل «الطائفية» اليوم اكثر الكلمات شيوعاً في الخطاب السياسي للقادة، والحديث اليومي لرجل الشارع، وثرثرات ربات البيوت. وبذا يتفوق العراق على جاره لبنان في الشأن الطائفي والطوائفية. فلبنان بقي، لجهة الطائفة، بمثابة الخروف الاسود. اما العراق فاندلاع الطائفية فيه استشرى في المنطقة بصيغ شتى، ابرزها انتقال البذرة الى العلاقات الاقليمية، وما يزال هذا الاثر قوياً.
وعلى حالنا في استخدام الاشياء والكلمات، لا نكترث كثيراً لمعنى الطائفية. فكل ما يدخل حقل اللغة يبدو لنا بدهياً، قائماً بذاته، برهانه هو وجوده وما دامت كلمة الطائفية موجودة فهي بالبداهة مفهومة. كما ان علة الطائفية ليست موضع تفكير. فلا حاجة بك لأن تهرش رأسك كثيراً لتحليل الطائفية، او القومية او غيرها، واحالتها الى مصدر محدد، خارجي على الارجح، بل الى تحديد وقت النشوء القريب لهذا المصدر. وغالباً ما تكون «نظريات» التفسير هذه منقّاة من منغصات الواقع، وهي تنفي تاريخ «الملل والنحل» الحقيقي، وتستبدله بتاريخ مزيف للوحدة والتآلف.
ولعل هذا ينطبق بدرجة اكبر على الطائفية في العراق. فالفوارق بين الاديان والمذاهب ثقافية، ذات بُعد لاهوتي، وهي تتجلى في طراز العيش والقيم والشعائر والطقوس، وكلها قديمة قدم الاديان والمذاهب. بل ان الانقسام الشيعي- السني، يمتد بجذوره اكثر من اربعة عشر قرناً هي عمر الدين الحنيف نفسه وحضارته.
ويعرف المؤرخون خيرا من المؤدلجين، ان المسلمين انقسموا في الرأي بين أوس وخزرج، ومهاجرين (اهل مكة) وانصار (اهل يثرب)، ثم امويين وعلويين وخوارج فعباسيين، وان هذه الانقسامات كانت سياسية قبلية ولم تتحول مذاهب فقهية الا بعد بضعة قرون، وانها معنا مذّاك.
والمشكلة ليست مع هذه الاختلافات بل طرق التعامل معها.
لم يخترع احد غير المسلمين انفسهم هذه المذاهب، ولم يحدد سبل التعاطي بين المدارس المختلفة سوى اصحابها.
مشكلتنا الطائفية، اي الاختلاف في المذاهب والتأويلات، اكتسبت معنى جديدا بالانتقال من الدولة الدينية الى الدولة الحديثة المدنية، التي تقوم زعماً على مبدأ المواطنة، حيث كل مواطن حبة قمح، وكل حبة تساوي اية حبة اخرى، وعلى مبدا الانتماء القومي، باعتبار ان لكل امة دولة. هذان هما المبدآن الاساسيان لمعمار الدولة الحديثة. ويفترض نموذجها المثالي ان يشارك الكل في الحقل السياسي، وفي الاقتصاد، والادارة، والثقافة، دون عائق او تمييز، على قاعدة التمتع بحق الحياة، وحق التملك، وحق حرية الضمير (المعتقد، الرأي).
لكن بقايا الدولة الدينية، بمللها ونحلها المتنافرة، بقيت في الدولة المدنية وافسدتها. هنا مسؤولية الاجيال التي اسست الدولة الحديثة، والتي قادتها بعد التأسيس، والتي غيرت معالم هذه الدولة بالانقلابات العسكرية، والثورات المزعومة، والاجيال التي صفقت لكل هذه البهلوانيات المدمرة.
ادى احتكار السلطة والاقتصاد والثقافة بالتدريج الى تعميق خطوط الانقسام الطائفية، وتسييسها المتصل، ما بلغ نقطة تحول حاسمة مع الثورة الايرانية في 1979، وصعود الاسلام السياسي. فالطائفية، في الدولة المدنية الحديثة، بناء ثقافي-فقهي، يتحول، بعد تسييسه، تعبيراً عن الاقصاء ورفضاً له. ولا فرق أكانت «الطائفة» منظمة اجتماعيا في عشائر ريفية وبيوتات حضرية، ام في قرى تابعة لرؤساء نظام مقاطعجي.
وعليه فانتقال «الطائفة» في اطار الدولة الحديثة من الاختلاف الثقافي الى الاحتجاج السياسي، اي تسييس الاختلاف، يحمل في جوهره عنصراً محدداً هو النزوع الى المشاركة في السلطة والثروة والثقافة، أما الاختلال في توزيع الموارد الاساسية هذه فمنبع الاحتراب المناطقي، او الطبقي، او الطائفي، او الاثني. وبالطبع لم يتوقف خط الانتقال من الاختلاف الثقافي الى التصادم السياسي عند هذا الحد لا في العراق ولا لبنان، بل انتقل الى عسكرة التسييس. وهكذا صرنا نمضي، من تسييس الطائفية، الى عسكرتها. ولعل رحلة العودة من العسكرة الى التسييس السلمي، ثم من التسييس الى اللاطائفية، ستستغرق قرنا او قروناً لكن مثل هذه العودة ممكنة من الجماعة الدينية- المسيسة-المسلحة، الى الجماعة الدينية-المسيسة، الى الجماعة المسيسة، في حقل مفتوح ومتساو للجميع.
وعليه فمعنى الطائفية ومبناها ينبغي ان يحصر في الحقول التالية:
الحقل الثقافي الممتد لاكثر من اربعة عشر قرناً، بما فيه من خصوصيات في القيم وطراز العيش والعبادات والطقوس الخ،
ولعل الحقل الاخر المهم، هو الفقهي، الذي تنتجه المؤسسة الدينية، ويحدد تخوم الاختلاف، ويعيد انتاجه معرفياً، وينقله عبر المدارس الدينية والكتاب، الى الاجيال،
وهناك الحقل السياسي، المتمثل في الدولة الريعية، التي تحطم التوازن بين الجماعات والمناطق، بفعل احتكارها للحقل هذا،
وهناك الحقل الاقتصادي، أي التحكم بتوزيع الموارد في ظل الاقتصاد الممركز، او اقتصاد السوق، نظرا لدور الدولة كمالك أبرز للثروة الاجتماعية،
وهناك الحقل الايديولوجي الناشئ عن صعود الاسلام السياسي، وهو يترجم الاختلافات في الثقافة والفقه الى افعال احتجاج باتجاه تغيير السلطة،
– وهناك الحقل التعليمي-التربوي الذي يكرس رسميا مذاهب معينة، ويقصي اخرى، عن المناهج المدرسية والاعلام (الآذان الرسمي في الاذاعة والتلفزيون).
وفوق هذا وذلك تشكل حقل جديد، هو العلاقات الاقليمية، المتوتر منذ قيام الجمهورية الاسلامية في ايران.
الطائفية اليوم مؤدلجة، مسيسة، ومسلحة، بسبب الاختلال الداخلي في توزيع الموارد السياسية والاقتصادية والثقافية. والطائفية اليوم اقليمية بسبب تمحور الصراع بين ايران وبقية الدول العربية. خرجت الطائفية من بنيتها الثقافية القديمة، كما من بنية التنظيم الاجتماعي السابق، لتتحول الى حركات اجتماعية حضرية، حديثة، مسلحة.
وهاتان القضيتان، الاختلال الداخلي والعلائق الاقليمية المتوترة، ليستا بجديدتين. لعلهما جديدتان علينا، لكن لهما سوابق في اوروبا، التي مرت بحروب دينية دامت قرابة مائتي عام. وقد توصلت اوروبا الى حل المشكلة الاقليمية اولاً عن طريق ما يعرف بـ «صلح ويستفاليا» في ستينات القرن السابع عشر، يوم قرر ملوك وامراء اوروبا الاعتراف بالدولة الحديثة باعتبارها المالك الحصري للاقليم الذي تحكمه، وسكان هذا الاقليم. ادى هذا الى منع الطائفية (البروتستانت او الكاثوليك)، وارساء احتكار الدولة للاقليم وسكانه على قاعدة احترام حق الحياة والملكية والضمير، وتوقف دعم الحكام لطوائفهم خارج الحدود.
وبعد هذا الصلح الشهير توصلت الدولة الحديثة الى العقد الاجتماعي، لارساء الحرية والمساواة داخلها.
ولعلنا اليوم اشد حاجة من اوروبا الامس الى «صلح ويستفاليا» جديد، والى «عقد اجتماعي» جديد.
الحياة     – 21/12/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى