في نقد التصور القومي العربي للوطنية
ياسين الحاج صالح
يتبنى مثقفون سوريون وعرب تصورا قوميا عربيا للوطنية تعود أصوله إلى خمسينات القرن العشرين وستيناته.
شأن كل تصور قومي ينزع هذا إلى تعريف الوطنية بدلالة الموقف من «الخارج»، بصورة خاصة في حالتنا، أميركا وإسرائيل، لكن أيضا مع تشكك وامتعاض عميقين من الغرب ككل (تمتزج فيهما دوافع سياسية حديثة مع حساسيات ثقافية ودينية قديمة).
ومثل غيرها من النزعات القومية تعرض الوطنية القومية العربية، إن صحت النسبة، تمركزا حول الذات فاقمته إخفاقاتها السياسية ولم تخففه، وأسبغت عليه صفة فصامية. وإذ لم يجد هذا النزوع سندا إيجابيا له في العصر جنح إلى الارتكاز على الماضي، ما قد يفسر الجمع بين العربي والإسلامي في العقدين الأخيرين. ثم إنه كان لهزيمة الحركة القومية العربية عام 1967 أمام «العدو القومي» أن حولت التوجس من «الخارج» من الصعيد السياسي إلى الصعيد الفكري والقيمي والحقوقي، ما أفضى إلى تراجع العناصر الكونية والتحررية في الفكرة القومية، واشتداد ساعد نزعة المحافظة فيها، هذه التي وجدت سندها في الدين. ولعله من هذا الباب فرض شاغل الهوية نفسه في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فالهوية استمرار للقومية، لكن على مستوى الثقافة لا السياسة.
مثل غيرها أيضا تظهر الوطنية القومية العربية نزوعا انصهاريا مفرطا، اندفعت تحت تأثيره إلى إنكار تعدد المجتمعات العربية، واشتمال دول عربية كثيرة على سكان غير عرب مقيمين فيها منذ أزمنة بعيدة، وبعضهم أقدم من العرب أنفسهم. وفكرة التجانس الوطني أتاحت لأطقم الحكم في غير بلد عربي أن تسدل ستارا صفيقا من الصمت على وقائع التعدد الاجتماعي والثقافي في بلدانها. كما أن الفكرة ذاتها تكمن وراء ظاهرة «شخصنة السلطة»، بما قد يكون نوعا من التعويض الرمزي عن نقص التشكل والاندماج الوطني. وهي كذلك مصدر استسهال التخوين بوصفه تعكيرا لصفو «الوحدة الوطنية»، المفهومة دوما كتجانس لا كمساواة. وليست نظرية المؤامرة بعيدة من هنا. فالنزعات القومية في كل مكان ذات بنية بارانوئية، تتجاور فيها مشاعر العظمة مع مشاعر الاضطهاد. وتتغذى نظرية المؤامرة من التقاء مشاعر الاضطهاد مع الميل المتأصل في القومية إلى شخصنة العلاقات الدولية، أي اعتبار «الخارج» شخصا واعيا مغرضا مريدا… متآمرا.
كذلك تعرض الوطنية القومية العربية نزعة توسعية واسمة للمبدأ القومي عموما. وإن لم تتح الأوضاع التاريخية للقوميين العرب المعاصرين فرصة التوسع الجغرافي (بل أتاحت، ولم يعفوا…)، فإن التوسع الداخلي العمقي، أعني تعريب السكان جميعا، واعتبار عروبة بلداننا خاصية جوهرية لها، سابقة على كل أكثرية وأقلية وإرادة سياسية، ليست خارج نزعة التوسع القومية. هذا فضلا عن ضرب من التوسعية الخرائطية، إن صح التعبير، تتمثل في توسيع خريطة «الوطن العربي» بحيث تضم كل الدول العربية وما يعتبر محتلا من أرضيها وأقاليم لا تعتبر ذاتها عربية (أرتريا مثلا). إذ القومية جوهر سابق للدول وقراراتها والتفضيلات المحتملة لسكانها. ونجد ما يشبه ذلك عند القوميين الأكراد والقوميين الأتراك.
وهناك أخيرا نزوع مميز للقومية بما هي كذلك إلى المماهاة بين الأمة والدولة، وجعل هذه مقر الوطنية ومعيارها، فضلا عن كونها الفاعل السياسي الأكبر، إن لم يكن الوحيد. عبادة الدولة ليست غريبة على المذهب القومي.
يضاف إلى ما سبق أيضا التقليل من شأن المشكلات الاجتماعية والقانونية والسياسية المتصلة بإدارة الموارد الوطنية ونظم توزيع الدخل ومسائل الاضطهاد السياسي وأحوال الاستثناء المقررة بقوانين أو من دونها في أكثر البلدان العربية.
كان ياسين الحافظ انتقد في سبعينات القرن العشرين السمة الشعورية واللاعقلانية لتفكير القوميين العرب، وغربتهم عن مفهوم «موازين القوى» وافتقارهم إلى «وعي كوني»، لكن كتلة القوميين العرب سارت عكس اتجاه نقده: نحو المزيد من الانكفاء عن الكوني وإرساء حركتهم على أساس الهوية والدين، ونحو الانفعال بدل النقد، وتخوين الغير بدل مراجعة الذات، والجنوح نحو رفض الخارج بدل تحرير الداخل، ونحو مزيد من الانكفاء على الذات والمحافظة الاجتماعية والثقافية لا نحو مزيد من النقدية والانفتاح العقلي والسياسي.
وتجد نظم الحكم في بلداننا، وإن كانت لا تكن غير قليل من الود للمذهب القومي العربي، نفسها على وفاق مع مفهوم الوطنية هذا لأنها تجد في خصائصه الدولانية، ونزوعه التجانسي والتوسعي، وتفضيله تعريف الوطنية بدلالة الخارج، أي كل ما يضعه في تعارض مبدئي مع الديموقراطية، استراتيجيات مناسبة للحكم في الداخل. لذلك لم يفض تدهور وضع ونفوذ الفكرة القومية العربية إلى أي تراجع في هذا المفهوم القومي للوطنية، بحيث يسعنا الفصل دونما عناء بين هذا المفهوم للوطنية وبين مصائر الفكرة والدعوة القومية العربية. يستمر الأول بفعل تمفصله مع هياكل الدولة والسلطة في بلداننا، بينما يعيش الثاني حياته الخاصة التي ربما تنفرد عن الأفكار والدعوات القومية الأخرى بأنها تتحدد أكثر من غيرها بالخارج وتتوجه أكثر من غيرها نحو الماضي.
وما نريد ترتيبه على ذلك أن نقد الفكرة القومية العربية لا يكاد يمس مفهوم الوطنية السائد. وهذا صحيح حتى في سورية، وهي المثال الأبرز، ولعله الوحيد اليوم، لوطنية تربط نفسها بصورة صريحة بالمرجعية القومية العربية. فليست القومية العربية هي السر في استبداد نظم الحكم في بلداننا، بل إن الاستبداد هذا هو ما يستصلح التصور القومي للدولة والمجتمع لأنه مناسب لدوامه. هذا يعني أن نقد القومية، وهو ضروري دوما، لا يكون مجديا إلا بقدر ما يرتبط بنقد الوقائع والبنى والممارسات هذه، في البلدان التي ترفع راية القومية العربية كما في غيرها.
لماذا إذن ننسب تصور الوطنية الذي عزلنا بعض ملامحه فوق إلى القومية العربية لا إلى هياكل السلطة الاستبدادية؟ بكل بساطة لأن القومية، منسوبة إلى العروبة أو إلى دولنا القائمة، لا تتوفر على أية مناعة ضد الاستبداد، وحيثما تطورت أوضاع ديموقراطية في بلد ما فعبر تقييد النزعة القومية، مفهومة كطوبى سياسية أو كآليات مجانسة وتوحيد، وليس كتعبير عنها. ولطالما لعب المزج بين الطوبى السياسية (وهي عربية تفضيليا، في سورية بخاصة) وبين آليات المجانسة (التي تعمل لمصلحة الدول القائمة، أيا تكن) لمصلحة دعم الخصائص الاستبدادية في دولنا. هذا فضلا عن أن القومية العربية هي الشكل القياسي والشرعي لنزوع الدول إلى «قومنة» ذاتها، وانتزاع شرعيتها السياسية والكيانية. وحدهم القوميون العرب لا يتبيّنون ذلك.
خاص – صفحات سورية –