الإسلام والحداثة
سلامة كيلة
ما العلاقة بين الإسلام والحداثة؟ هل يستطيع الإسلام تمثّل الحداثة، وبالتالي أن يكون حداثياً؟ هذه أسئلة كانت ومازالت تشغل بال الكثيرين، خصوصاً في الغرب. ولقد شغلت بال حداثيين عرب حاولوا تكييف الإسلام مع الحداثة، أو حدثنة الإسلام. وإذا كان سؤال ما الحداثة؟ يحتاج أصلاً إلى اجابة، فإنّ ممكنات الإسلام على أن يتحدثن تفرض معرفة طبيعة الإسلام ذاته.
مع تنامي الحركات الأصولية الإسلامية بدا وكأننا لم نفعل شيئاً طيلة قرنين ونصف من تحقيق الحداثة، حيث عادت الأيديولوجية التقليدية التي تتلفّح بالدين للإنتشار، وربما السيطرة. كما بدت أنها هي التي تقاوم “الغرب الإمبريالي”، وترفض سيطرته. رغم أنها تحمل مشروعاً مناقضاً للحداثة. وبالتالي أعيد طرح السؤال حول ممكنات الإسلام على دخول الحداثة، التي تعني في أحد وجوهها: العلمنة. أو تجاوز الدولة الدينية، وتقبّل منجزات “الغرب”، الفكرية والسياسية، كما الاقتصادية والمجتمعية.
كيف يمكن معالجة ذلك؟
نحن إزاء إشكالين:
الأوّل: أنّ الإسلام «دين ودنيا»، وبالتالي فهو عقيدة وتشريع (نظام سياسيّ/ اقتصاديّ واجتماعيّ) نشأ قبل خمسة عشر قرناً، وعبّر عن واقع قائم آنئذ، وإذا كانت العقيدة هي «عنصر خاص» لكلّ فرد، فإنّ التشريع يتعلّق بتكوين اقتصاديّ اجتماعيّ سياسيّ واقعيّ. ولقد مثّل الإسلام تبلور واقع محدّد، وهو ما أسمذيه «النمط الزراعيّ». حيث عبّر عن وعي هذا النمط ومشكلاته، وحدّد القوانين التي تحكمه. وفي الإطار التاريخيّ مثّل تطوّراً وتبلوراً في عديد المسائل الأساسية لهذا النمط (الموقف من النظام العبوديّ، قانون الفتح والموقف من وراثة الأرض والبشر، القوانين الاقتصادية والاجتماعية ـ الزواج، الإرث…) بمعنى أنّ التشريع صاغ القوانين الضرورية لتطوّر النمط.
لكنّ التطور ذاته فرض تجاوز النمط وتأسيس نمط جديد، لهذا أصبح مستحيلاً أن يحكم التشريع المتعلق بالنمط السابق النمط الراهن، وأيّ ميل إلى ذلك يعني «تكلسّ» الواقع، وتكسير كلّ ممكنات تطوّره. لهذا نلحظ أنّ دور الحركات الدينية محدّد في الأطر المتخلفة التي لم تصبح الصناعة وسيلة إنتاج مسيطرة فيها.
إننا، هنا إزاء تنافر بين تشريع تقادم وواقع جديد.
الثاني: أنّ الفكر الديني شهد انحطاطاً منذ القرن الحادي عشر نتيجة الأزمات الواقعية، والغزوات الخارجية، وسيطرة قبائل متخلّفة آنئذ (السلاجقة ثم المماليك ثم العثمانيين) على السلطة. ولقد كان الغزالي نقطة تحوّل حينها، حيث أسّس لتدمير العقل. فقد أفضى التطوّر الفكريّ، الذي تمثل في توسّع دور الفلسفة، إلى تبلور «لحظة الشكّ» بالدين، مما دفع الإمام إلى الحكم على العقل «بالإعدام»، سوى لأقلية تلعب دور الطبيب. وهذا الفكر المضادّ للعقل هو الذي تعمّم وأصبح سمة الفكر الإسلاميّ (فكر لا عقليّ، نصيّ/ يقينيّ، يقوم على الحكم على الوقائع عبر التقيّد الحرفيّ/الصوريّ باللغة التي تحكم النصّ). بمعنى أنه تخلّف (انحطّ) عن العقلانية العربية الإسلامية، بل كان نقيضها، سلبها (إضافة إلى تغلغل الفكر الأسطوري السابق للدين فيه) لأنه نفى التجريد الذي هو أساس اشتغال العقل، وأحلّ محلّه منطقاً صورياً شكلانياً يلتمس الحقائق من الألفاظ كما يقول الغزالي..
لهذا، مع بدء الاصطدام بأوروبا كان الوعي الديني وعياً «عامياً» (غير فكري)، بسيطاً ومحافظاً، ومحصوراً في العقيدة (العبادات)، وبعض المسائل المتعلقة بالإرث. وكان التعليم الدينيّ محدّداً في حفظ القرآن, معرفة بعض الحساب واللغة العربية، وهذا هو العلم وفق الإمام الغزالي، هذه هي علوم الدين، التي باتت هي علوم الدنيا. كما كان مغرقاً بالطابع الأسطوريّ (الطرق الصوفية، كما في التعليم الديني ذاته). لكنّ تجربة محمد علي باشا وبدء السعي لتحديث المجتمع، فرض تطوير الفكر واكتساب العلم الحديث. ولقد لعب الاتصال بأوروبا منذ غزوة نابليون لمصر دوراً مهماًّ في تغلغل فكر كان بدأ يتبلور، معبّراً عن مرحلة جديدة في الارتقاء البشريّ. لينشأ اتّجاه فكريّ جديد، بدأ مع رفاعة الطهطاوي (وهو رجل دين)، عمل على «حدثنة» الدين، بالإفادة من الفكر الأوروبيّ، ولكن، أيضاً، بالعودة إلى العقلانية العربية الإسلامية. وعبر ذلك تبلور تيار حديث ينطلق من منجزات الفكر الحديث (الوطنية، الديمقراطية، العلمانية والعقلانية…)، بدأ بالاستناد إلى الدين ذاته، أو أدخل كلّ ذلك تحت عباءة الدين ذاته. وهذا الاتجاه (على مبارك أيضاً) دفع إلى تحويل الدين من «وعي عامي» إلى فكر، بالدعوة إلى العودة إلى الأصول.
لكن هذا التحديث أوجد نقيضه، حيث بدلاً من أنه يكون الدين وعاء لفكر حديث، تأسس اتجاه يناقض «العقلانية الحديثة» بـ «العقلانية العربية الإسلامية»، بدءاً من عقلانية المعتزلة وابن رشد، مصاغتين في إطار أصوليّ (محمد عبده، رشيد رضا). وإذا كان مسار فكر الطهطاوي قد أفضى إلى تبلور مشروع حديث ينطلق من فصل الدين عن السياسة (الكواكبي، الزهراوي.. علي عبد الرزاق، وهم رجال دين أيضاً)، وانطلاقاً من النص ذاته، فإنّ السلب/النقيض تطوّر أيضاً نحو اللاعقلانية، تخلّى عن «عقلانية» محمد عبده، ورشيد رضا (الذي كان قد تخلّى هو ذاته عن عقلانية محمد عبده)، بإعادة صياغة المشروع الإسلاميّ في إطار أصوليّ، ينطلق من تحقيق توافق بين الواقع (الحديث، أو الذي ينزع إلى الحداثة) والتشريع القديم (تشريع النمط الزراعي).
لحظة الأفغاني/ محمد عبده
عمّا كانت تعبّر لحظة الأفغاني/محمد عبده إذن؟ عن ميل نهضويّ أم عن “إفاقة” لأيديولوجية كانت تسود لعقود في شكل رثّ عاميّ أسطوريّ؟
إنّ الربط بين القوانين العثمانية الصادرة سنة 1858، والتي هدفت إلى التكيّف مع الضغوط الأوروبية، واتجاه الأفغاني/ محمد عبده، يمكن أن يقدّم مدخلاً مفيداً في هذا المجال. حيث استندت الأولى إلى الفقه الحنفي (عادت إلى الفقه الحنفي)، ودعت الثانية إلى الإسلام الأوّل. ولا شكّ أنّ هاتين الخطوتين كان يمكن أن تكونا أساس تطوّر رأسماليّ (وأؤكّد هنا: بشكل غير مباشر)، لكن في ظرف مختلف. فهما تؤسّسان لسيادة العلاقات السلعية (المتضمّنة في الفقه الحنفي، وفي الإسلام بمجمله)، وبالتالي كان يمكن أن يكونا أساس حركة إصلاح دينيّ، لكن في سياق عالميّ آخر. فالبروتستانتية لم تفعل أكثر من ذلك. وحتى بدء التطوّر الرأسمالي ارتبط (في أوروبا، فيما عدا انكلترا) بالعودة إلى القوانين الرومانية.
بمعنى أنّ التطور في اتجاه رأسماليّ كان يفرض أن تكون العلاقات السلعية أساس التكوين «الإقطاعي» القائم، وهو ما كان غائباً في أوروبا القرون الوسطى، وفي الشرق زمن الدولة العثمانية. وكانت البروتستانتية ـ كما أشرت سابقاً ـ عودة المسيحية الأولى (مسيحية الشرق) التي كانت تنطلق من نمط يتضمن العلاقات السلعية. وهو ما عبّر عن ميل لتطوير التكوين الإقطاعيّ المفتت والقائم على الاقتصاد الطبيعيّ. ودعوتها تتحدّد في التعبير الموضوعيّ عن هذا المسعى، وهي دعوى سبقت بدء نشوء الرأسمالية بقرنين.
لكن تحقيق التطور الرأسمالي في الشرق، الذي كان يفترض مسبقاً «انتعاش» الاقتصاد السلعيّ، كان يصطدم بـ «تفوّق» أوروبا، وميلها لتعميم الاقتصاد السلعيّ في سياق لا يفضي إلى تحقيق التطوّر الرأسماليّ. وبالتالي فإنّ هاتين الخطوتين كان يمكن أن تلعبا نفس دور البروتستانتية لو بدأتا قبل تطوّر أوروبا رأسمالياً، حيث كان يمكن أن تفضيا إلى تطوّر الحرف لتكون محرّك مجمل الاقتصاد السلعيّ. أمّا وقد جاءتا بعد تطوّر الرأسمالية الأوروبية، فقد مهّدتا لتغلغل الرأسمال الأوروبي في الشرق، لأنّ الصناعة الأوروبية (المتفوّقة على الحرف)، كانت هي محرّك مجمل الاقتصاد السلعي عالمياً.
وبالتالي فإنّ لحظة الأفغاني/ محمد عبده أفادت، في تاريخيتها، في التأكيد على العقل، وإنطفت في لحظة تطور الفكر العقلاني، وانتشار التيارات الحديثة. لكنها كانت أساس تأسيس المشروع الأصولي، لأنّ جوهرها يقوم على «بعث الميت من قبره»، أي تطبيق أفكار (وتشريع) النمط الزراعي الذي «مات». وتطبيق ذلك (أو السعي لتطبيق ذلك) يعني موت المجتمع، كما لاحظنا سابقاً، تدمير المجتمع، تفتيته، وهذه العملية التي تنطلق من الرفض المطلق للرأسمالية (في المستوى النظري) تفضي حتماً (في المستوى العملي) إلى عكسها، أي إلى التكيّف والنمط الرأسمالي، وفق شروط هذا النمط، أي التكيّف من موقع طرفي. التكيف عبر تعميم العلاقات التجارية دون تطوير الصناعة، وهذا ما كان إسلام القرون الوسطى قد أصبح التعبير عنه، حيث باتت التجارة هي أساس النشاط الاقتصاديّ.
موقع الآوان