برهان غليون: “المعارضة داخل سوريا ليست ظرفية”
يرى الدكتور برهان عليون أن الانقلاب الذي حصل في سياسة إدارة بوش قد غيّـر الموازين داخل النظام لصالح التيار الراغب في المحافظة على الأوضاع القديمة
شهدت الساحة السورية مرة أخرى حالة اشتباك بين السلطة والمعارضة التي هي بصدد استئناف نشاطها وتنظيم صفوفها بعد الانتكاسة التي أصيبت بها قبل حوالي سنتين.
حول خلفية هذه التحركات، ودلالتها السياسية وآفاقها المستقبلية، أجرت سويس انفو حوارا مع الدكتور برهان غليون، المثقف السوري المهاجر، الذي يعتقد بأنه يمكن القول حاليا بأنه في سوريا معارضة واعدة، وإن كانت لا تزال ضعيفة.
سويس انفو: عقدت المعارضة السورية في الفترة الأخيرة بشقّـيها، الداخلي والخارجي، تجمُّـعين سياسيين منفصلين. كيف تقيِّـمون ما جرى، وهل يمكن أن يشكِّـل ذلك بداية جديدة لتغيير المشهد الراهن؟
برهان غليون: ما أعرفه هو أن أطراف المعارضة في الداخل، التي تشكِّـل ما يُـعرف بـ “إعلان دمشق”، قد عقدت مؤتمر المجلس الوطني، أما في الخارج، فقد نظمت “جبهة الخلاص الوطني” تجمعا، دون أن يكون بين الفئتين علاقة أو اتصال، إذ لكل منهما خطّـه المختلف عن الآخر. أعتقد بأن القوة الأكثر تواجدا وتأثيرا، هي تلك الموجودة بالداخل والمنضوية تحت “إعلان دمشق“.
فالمعارضة الداخلية، هي التي يجب أن نركِّـز عليها، لكونها تعمل على الأرض وتجمع قوى سياسية متنوعة، منها القومي واليساري والاشتراكي والليبرالي، ومن جميع التيارات تقريبا، أي أنها تعبِّـر عن مختلف تلوينات المعارضة السورية.
ما تم مؤخرا، هو محاولة لإعادة تأسيس “إعلان دمشق” من أجل توسيع دائرة الأعضاء، ولعل الجديد في هذا السياق، هو إعطاء مساحة أكبر للمستقلين داخل هذا التجمع، وقد حصل ما أعتبره حالة استثنائية في تاريخ العمل المشترك، وذلك حين تمّـت إضافة الشخصيات المستقلة المعارضة إلى جانب الأحزاب، ومعظم هؤلاء من المثقفين والفنانين (منهم سينمائيون)، المطالبين بالديمقراطية والإصلاح السياسي.
وقد كان الانتخاب في هذا المجلس الوطني حرّا ولم يكن مقتصرا على قادة الأحزاب، كما جرت العادة، ولهذا، اعتبرتها تجربة جديدة، وفعلا حصل أن اثنين من قادة الحزب الناصري الاشتراكي لم يجمّـعا العدد الكافي من الأصوات، وانتخب بدلا عنهما اثنان من الأعضاء المستقلين.
المهم، هو أنه قد بدأت تتشكّـل داخل سوريا معارضة ليست ظرفية، لا يمكن إسكاتها أو غضّ النظر عنها، صحيح أنها لا تزال ضعيفة، لكن مع ذلك، هي معارضة علنية سلمية وديمقراطية ومتنوعة، وأعتقد بأنه قد يأتي يوم، أتمنّـى أن يكون قريبا، يُـدرك فيه النظام السوري بأنه يجب أن يتخلى عن سياسة الانفراد بالسلطة ويعترف بمعارضة شرعية وممثلة.
سويس أنفو: ما الذي يمكن أن يكون به المجلس المنتخب؟
برهان غليون: أمام هذا المجلس، بل وأمام إعلان دمشق مشكلات كبيرة لا تزال بدون حل. عليه أولا أن يصوغ رؤية واضحة وعملية لمسألة التحول الديمقراطي في سوريا.
هناك توافق على جُـملة من المبادئ والشعارات، لكن “الإعلان” يفتقر لخطّـة أو ورقة طريق من أجل الدفع نحو تحول ديمقراطي ملموس. ومن خلال معرفتي للكثير من هؤلاء، أخشى أن يذهب بهم الظن أنه بمجرد التفاهم حول عدد من الأهداف والمبادئ، سيكون كافيا لبناء معارضة. يجب العمل على استقطاب الرأي العام والفئات الاجتماعية الحساسة لمشاكلها الخاصة.
المهمة الثانية المطروحة على “إعلان دمشق”، تتمثل في ضرورة بناء هوية لهذا التجمع، إذ لا يكفي تجميع الأطراف حول المطالبة بالديمقراطية لتأسيس هوية سياسية، ويتحقق ذلك من خلال رسم خطوط التمايز عن بقية الأطراف والفئات، مثل جبهة الخلاص وغيرها.
سويس أنفو : تقصد بالهوية، ضبط البرنامج السياسي؟
برهان غليون: أقصد بالهوية بناء قوة بديلة، ولو متعددة المكونات، لكنها تكون متميزة عن غيرها من القوى السياسية التي تعمل مع جهات أجنبية أو تراهن عليها أو تعمل مع أطراف غير مقبولة شعبيا، مثلما حصل مع جبهة الخلاص، حين تحالف الإخوان المسلمون مع مَـن له تاريخٌ ضمن مسيرة النظام الاستبدادي القائم، كما أن الهوية تعني تقديم إجابات على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يُـعاني منها المجتمع يوميا.
سويس أنفو: ألا ترى بأن غياب إسلاميين عن “إعلان دمشق” من شأنه أن يُـضعف هذا التحالف على الصعيدين، المرحلي والاستراتيجي؟
برهان غليون: لا يوجد غياب للإسلاميين. هناك حركات إسلامية موجودة ضمن مكونات “الإعلان”، طبعا ليسوا من الإخوان، ولكنهم أكثر قربا من أطروحات الإسلاميين الأتراك الحاكمين اليوم. هناك “حركة عدالة”، التي تؤمن بأن على الحركات الإسلامية تكييف مواقفها مع مفاهيم الديمقراطية والتعددية، وقد علمت بأن لهذا التيار عدد هام داخل “إعلان دمشق“.
سويس أنفو: بعد تولي الرئيس بشار الأسد السلطة، شهدت البلاد حالة سياسية سُـميت بـ “ربيع دمشق”. لماذا أغلق ذلك القوس بسرعة؟ هل تم ذلك برغبة من السلطة، أم نتيجة أخطاء ارتكبتها المعارضة؟
برهان غليون: قد يعود ذلك إلى ثلاث أسباب رئيسية. يعود السبب الأول إلى الانقلاب الذي حصل في سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة. فبعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، أعلنت واشنطن ما وصفته بالحرب على الإرهاب. هذه الحرب وفّـرت للحكومات العربية فرصة لمزيد التضييق على الحريات، يضاف إلى ذلك، فشل الإدارة الأمريكية في العراق الذي قدّمته مِـثالا لبقية الدول، وهو ما أثار مخاوف الأنظمة وجعلها تسُـد كل الأبواب والنوافذ في وجوه الديمقراطيين، وبذلك تلاشى الحديث عن الإصلاح السياسي.
أما العامل الثاني، فيتعلق بوعود الإصلاح، وفي رأيي أن الرئيس الجديد كانت له نية القيام بخطوات ذات طابع إصلاحي، على الأقل من أجل أن يُـحرر نفسه من شرعية الوراثة ويخلص لنفسه شرعية خاصة به، وأن يؤسس هذه الشرعية على الانفتاح على الطبقة الوسطى وتشريكها في السلطة، حتى لا تشعر بأنها مضطهدة، هذه النوايا لم تكن تتوافق مع ما سُـمي بالحرس القديم، أي تلك الطبقة البيروقراطية المستقرة منذ أربعين عاما وتريد أن تدافع على مواقعها ومراكزها بكل الوسائل. في البداية، خضعت هذه الطبقة لأنها لا تستطيع أن تضع العصي في العجلات، لكن على ضوء السياسة الأمريكية الجديدة، أصبح لديها ذريعة لكي تقول بأنه يجب غلق الباب حتى لا تدخل منه الرياح، وهكذا نلاحظ بأن الانقلاب الذي حصل في سياسة إدارة بوش قد غيّـر الموازين داخل النظام لصالح التيار الراغب في المحافظة على الأوضاع القديمة، خلافا للتوجهات الجديدة التي كشف عنها الرئيس بشار الأسد.
العنصر الثالث، تتحمله قوى المعارضة، لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى الداخلي الحقيقي. فهي قوة صغيرة لا تملك القدرة على مواجهة النظام، لكنها تأثرت إلى حد كبير بالظرف الدولي واعتقدت بأنه، بفضل الظروف الدولية الجديدة، تستطيع أن ترتفع بلهجتها ومطالبها بشكل تجاوز إمكاناتها الذاتية، فبدون أي تحالف، راهنت على الضغوط الخارجية التي يمكن أن تسمح لها بانتهاج سياسة هجومية، وهو ما أوقعها وأوقع الرأي العام السوري في رفع درجة التوقعات. وكان يفترض بعد أن تغيرت المعطيات والظروف، أن تأخذ المعارضة بعين الاعتبار ذلك وتخفض من سقف رهاناتها، لكن حسب اعتقادي، تأخرت المعارضة السورية في فهم المتغيرات العميقة التي حصلت في الوضع الإقليمي، وكذلك للظروف الخاصة بالنظام السوري. فقبل سنة ونصف، كان هذا النظام مستهدَفا من قِـبل أمريكا وفرنسا، لكن في الفترة الأخيرة، تغيّـر تحليل هذه الأطراف التي أصبحت تعمل من أجل فصل دمشق عن طهران، مقابل فتح الأبواب أمام النظام للعودة من جديد إلى أوروبا والساحة الدولية.
هذه العوامل الثلاثة، هي التي يمكن أن تفسِّـر لنا فشل الموجة الأولى من التحوّل الديمقراطي في سوريا أو يمكن أن نقول ضياع فرصة إحداث تغيير جزئي داخل بنية النظام.
سويس أنفو: حتى نستكمل المشهد، معروف أنه لكم موقف نقدي من التحالف الذي حصل بين حركة الإخوان في سوريا وعبد الحليم خدام، فهل تعتبرون ذلك خطأ استراتيجيا ارتكبته الحركة ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبلها السياسي؟
برهان غليون: نعم، أنا أعتقد بأن قيادة الإخوان ارتكبت خطأ استراتيجيا كبيرا بتحالفها مع النائب السابق لرئيس الجمهورية عبد الحليم خدام، وذلك لسببين، أولهما، عندما اعتقدت بأنها تتحالف مع شخصية سياسية قادرة على أن تجمع وراءها جزءً من كوادر النظام وتدفع الأمور نحو تغيير ما، وكانت هذه القيادة تحمل وهْـما، مثل الكثيرين يومها داخل سوريا، في أن الضغوط الغربية ستستمر، وهو ما سيسمح لها على الأقل بكسب جزء من معركة الانتقال الديمقراطي، وهو تقدير خاطئ، سواء لقُـدرة خدّام في أن يكون له تأثير داخل النظام أو الاستفادة من الضغوط الخارجية بحُـكم تحالفهم مع خدام.
أما الخطأ الثاني، فهم بالتحاقهم بجبهة الخلاص، تخلَّـوا عن جبهة “إعلان دمشق”، التي كان الإخوان من مؤسسيها، واعتُـقل أعضاء من داخل “الإعلان”، لأنهم دافعوا عنهم باعتبارهم طرفا في التحالف الوطني، وهم بالتأكيد قوة وطنية لا يمكن التخلي عنها في أي تحالف وطني، وبذلك، أجهض الإخوان “إعلان دمشق” أو أفقدوه الوَزن الذي كان يُـنتظر أن يكون له، بسبب انسحاب حركة كبيرة لها ماضٍ في التاريخ السياسي السوري. ويقدّر أنه بإمكانها أن تتحوّل إلى قوة سياسية مهمّـة في حصول انفتاح في البلاد، وبذلك وضعت إعلان دمشق في مأزق لم يستطع الخروج منه حتى الآن. فالإخوان ليسوا ممثلين داخل الإعلان، كما أن هذا الأخير لم يصدر عنه ما يفيد بأنه قد قام بطردهم من هذا التحالف، وهو ما يعكس حالة الأزمة التي خلقوها بسبب عدم الوفاء بالتزاماتهم.
أجرى الحوار في بيروت صلاح الدين الجورشي
المصدر :سويس انفو
7 كانُونُ الثَّانِي/يناير 2008