صفحات الحوار

صادق جلال العظم: الأصولية ملأت الفراغ الناشئ عن فشل المشروع النهضوي العربي

null
قضى حياته بين بيروت ودمشق، ولا يزال ماركسياً
صادق جلال العظم: الأصولية ملأت الفراغ الناشئ عن فشل المشروع النهضوي العربي
بيروت – الرأي: لا يحتاج المفكر صادق جلال العظم إلى تعريف، فسيرته الفكرية ومعاركه المستمرة في قضايا التنوير والعقلانية والنقد هي بمثابة علامات فارقة في الثقافة العربية. البداية كانت مع “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، ثم “نقد الفكر الديني”.. الكتاب الذي حوكم وسُجن بسببه قبل أن يُيرَّئ.
الروح النقدية رافقت العظم في كل مفاصل عمله وشغله الفكري. طُرد من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1968 بسبب كتاباته وتوقيعه عريضة تطالب بانسحاب الجيش الأميركي من فيتنام. ثم طرد من الجامعة الأردنية في العام التالي بسبب عمله مع المقاومة الفلسطينية. وحيت جاء ليعمل في “مركز الأبحاث” التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، تمّ طرده بأمر من أبو عمار، بعد أن نشر كتابه “دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية”، إلا أن أنيس صايغ، رئيس المركز، تدبّر أمر استمراره في الكتابة – باسم مستعار – لمجلة “شؤون فلسطينية” التي كان المركز يصدرها حينذاك.
شارك العظم في السجالات التي دارت حول كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد. ونشر كتاب “في الحب والحب العذري”. ثم مرت سنوات، قبل أن تُجدَّد رواية “الآيات الشيطانية” لسلمان رشدي نبرته السجالية والمشاكسة، فأصدر كتاب “ذهنية التحريم” وأتبعه بـ “ما بعد ذهنية التحريم”….
“الرأي” التقت العظم الذي يحاضر حالياً في جامعة برنستون، وكان هذا الحوار حول تجربته وسيرته والمشهد الفكري العربي:
* بدايةً، هناك تصور لدى العامة وحتى لدى المثقفين أن الأرستقراطي أو ذو النشأة الأرستقراطية والخلفية العائلية العريقة، يصعب عليه أن يصير ماركسياً. هذا التصور يقول إن الطبقة الأرستقراطية محافظة جداً ومتدينة غالباً وتهمهم مصالحهم. بالنسبة لك يبدو أن الأمر كان سهلاً. درست الفلسفة وصرت ماركسياً ومفكراً تنويرياً؟
– يمكن ردّ ذلك إلى عدة عوامل. أولاً، الخلفية العائلية. بيت العظم لم يكن لديهم تزمت ديني. طبعاً يعتبرون أنفسهم مسلمين ومتدينين. وقسم منهم، وخصوصاً أبي وأمي وآخرين، عاشوا وتربوا في اسطنبول، كانوا كماليين. وحتى اليوم هناك فرع تركي من العائلة ما زال كمالياً ويعارضون حكومة أردوغان. ثانياً، بالنسبة لي، بدأ وعيي واهتمامي بالشأن العام مع حرب السويس عام 1956. كان ذلك نوعاً من التحول أو الاستفاقة، ونوعاً من بدايات ربط الثقافة التي كنت أكتسبها والعلم الذي أتابعه مع الشأن العام. أي لم أعد أركز فقط على دراستي ومهنتي. تم ربط كل ذلك بقضايا التحرر الوطني والتحديث. كما أن الثقافة بحد ذاتها لها دور في التحول باتجاه القضايا الأهم والأوسع، خاصة وأن خلفيتي لم تكن قائمة على ثقافة تقليدية أو إسلامانية. من البداية، كانت ثقافة حديثة. حدث ذلك بسبب قرار ذاتي وليس بسبب تربية عائلية. بعد ذلك، تطورت اهتماماتي. كأي مثقف ومفكر كان عندي فضول فكري. التراث كان واحداً من مسائل عديدة. لم يكن في استطاعتي تقبله كما هو ولا الاعتقاد به كما فعل جدي وأسلافي. في أواسط الخمسينات. كان رأيي أن بإمكاننا إعادة صياغة التراث، بطريقة تجعله ذا مغزى وأهمية بالنسبة للعصر الذي نعيشه والأفكار السائدة فيه والآمال التي نطمح إلى تحقيقها. من هنا جاءت دراستي عن “مأساة إبليس” المنشورة في كتاب “نقد الفكر الديني”. في المحاكمة التي تعرّض لها الكتاب كان التركيز الأكبر على هذه الدراسة. وأيضاً في كتاب “الحب والحب العذري” كان هناك إعادة نظر بمسلمات مكرورة. أحببت أن أطرق موضوعات مطروقة ولكن من زاوية شخصية خاصة، مهملة وغير منتبه لها، فضلاً عن التركيز على الروح النقدية. هزيمة 67 كانت لحظة مفصلية بالنسبة للعقل النقدي والمقاربة النقدية للعالم والحياة. كان هناك قرار ذاتي مبكر بالبقاء هنا، وعدم التحول إلى مثقف عربي في المنفى. اتخذتُ هذا القرار رغم أنه كان بالإمكان في أي لحظة أن أكون أستاذاً في جامعة أوروبية أو أميركية.
* لماذا لم تنتسب إلى تنظيم سياسي أو حزب شيوعي؟ كان ذلك سائداً بين المثقفين ذوي الميول اليسارية والماركسية.
– لم أفعل. لأني كنت أشعر بأن كل حزب لديه شيئ يمكن أن أنسجم أو أتفق معه فيه. وفي الوقت نفسه، كان لديها أشياء ما كان في مقدوري تقبلها. مثلاً، بالنسبة للجزب القومي السوري، كان مهماً أنه الحزب الوحيد الذي نادى بفصل الدين عن الدولة. كذلك هناك كتاب أنطون سعادة “نشوء الأمم” الذي هو أول كتاب على الأرجح يفسر التاريخ بالاعتماد على عوامل طبيعية ودنيوية واقتصادية. أما بخصوص اليسارية، فهي التي كانت تحدد النقاش العام في العالم العربي، وكان لا بد من التعامل والتعاطي معها. ولكن كنت أشعر أن انتمائي سيقيّد سلوكي وشخصيتي وأسلوبي في الحياة والتفكير. انتماء من هذا النوع لم يكن يتفق أيضاً مع حسي النقدي. إضافة إلى ذلك، كان زملائي المنضوون في تلك الأحزاب ينصحونني بعدم الانتساب. وكانوا يقولون إن من الأفضل لهم الاستفادة من أطروحاتي وأنا خارج التنظيمات، لكي لا أحرج أحداً في الداخل.
* على أي حال، يُلاحظ أنك في كل مرة كان عملك يفترض أن تكون قريباً من جهة أو تنظيم أو سلطة ما، كنت تتعرض لمشكلات بسبب مواقفك وكتاباتك…مثال على ذلك، ما حدث في فترة عملك مع الفلسطينيين، في “مركز الأبحاث” التابع للمنظمة، ومجلة “شؤون فلسطينية”… كنت دوماً مشاكساً يصعب تحمّل جرأته.
– نعم .. ولكني لم أكن منتمياً بالمعني التنظيمي لأي جهة. مثلاً، بعد هزيمة 67 كنت إلى جانب الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة، ولكن من دون انتماء. نايف نفسه لم يكن يريد أن أنتمي أصلاً. قبلها، كانت لدي علاقات طيبة مع مجلة “الحرية” والقوميين العرب، وحتى مع القوميين السوريين منذ دراستي في المدرسة الإنجيلية في صيدا.
* هل لا تزال ماركسياً اليوم؟
– ما زلت أطلق على نفسي هذه الصفة، وخاصة بمعنى المقترب المنهجي من أجل فهم ظواهر المجتمع والثقافة أو السياسة. ثمة مفكرون ومثقفون “بطّلوا” ماركسيين. أنا لست من تلك المجموعة. ما زلت أجد أن التحليل الماركسي هو المنهج الأكثر إقناعاً. ولا تزال الماركسية هي مفتاحي الأساسي لقراءة أي ظاهرة، بدون أن تكون هذه الماركسية دوغمائية وتبسيطية ومنغلقة. أنا لم أكن دوغمائياً يوماً حتى في عز الماركسية.
* هل تحس أن انهيار الاتحاد السوفييتي، وأفول النماذج التبسيطية والدوغمائية، جعل شخصاً نقدياً مثلك أكثر حرية في “ماركسيته”؟
– ليس هناك شك في هذا. ما حدث أعطاني حرية بالتأكيد. وهناك أمر آخر، وهو أن كوني ماركسياً على طريقته جعلني غير مطالب بتبرير ما حدث. في كتابي “دفاعاً عن المادية والتاريخ” (1987). لم أتحدث – متعمداً – عن المادية التاريخية أو الجدلية، بل قدمت ما يمكن تسميته اجتهاداً فلسفياً حول الماركسية ودورها في الثقافة الأوروبية الحديثة عموماً، نشوؤها من عصر الأنوار والثورة العلمية. مآخذي على الشيوعيين العرب أن ثقافتهم كانت أدبية. كانوا مهتمين بالرواية والشعر. ويتحدثون عن الاشتراكية العلمية من دون أن يرِدَ العلم في خطاباتهم وأطروحاتهم. خاصة بالنسبة للعلوم الطبيعية. كانوا يشبهون المشايخ إلى حد ما. عندما يسمعون باختراع جديد، فإن أول ما يخطر في بالهم: هل هو حلال أم حرام؟. أغلب هؤلاء كانت علاقتهم بالفيزياء والعلوم تعود إلى المعلومات البسيطة التي عرفوها في المدرسة. ويريدون أن يعطوا شهادتهم حول آخر الإنجازات العلمية.
* من يقرأك جيداً، يُلاحظ أن أول شيئ تكتشفه لدى قراءتك لكتابٍ ما أو ظاهرة أو أطروحة هو نقاط ضعفها. عندما تلتقط عصب فكرة ما تبدو وكأن النقاط التي ستشتغل عليها نقداً واعتراضاً تلمع أمام عينيك وخيالك. أقصد أنك تصل بسهولة إلى الأماكن التي تتضمن ترهلاً أو ركاكة أو تهافتاً. يحس القارئ أنك راكمت نوعاً من الاختصاص في هذا السياق. كيف ربيّت هذا الحس النقدي. وسأسرّ لك بأمر: أحس أنك بدلاً من أن تستمتع بما تتناوله تسارع إلى معاينة المناطق التي ستنتقدها.
– (يضحك)… لا أنا أستمتع بالأمرين معاً بالتأكيد. إذا كان الكتاب جيداً فلا بد أن أستفيد منه وأستمتع به طبعاً. على مستوى الوعي واللاوعي. في الوقت نفسه، أشعر أن كثيراً من الكتابات والنصوص التي قرأتها تبين لي أن صرامة التفكير العلمي فيها ضعيفة. وأن الالتزام بالاتساق المنطقي هش. ما يهمني هو أن لا تمرّ هذه المسائل والنقاط على القارئ. وهناك أمر آخر. في الكثير مما أقرأه أجد تسليماً وتساهلاً بأوليات لا تُمحّص كفاية. لو أخذنا مثالاً على صعيد كتابات اليسار الذين غالباً ما كانوا يبدأون مقالاتهم بجملة “نحن نعيش الآن في عصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية” أو حديثهم المتواصل عن حتمية الاشتراكية كمعطى بديهي غير قابلة للنقاش. أنا أبحث عن الفرضيات والمسلّمات الأعمق في النص أو المشروع الفكري الذي أكون بصدده. هل هذه الفرضيات ممحّصة أو مدروسة بشكل كافٍ. وأمتحنها على أفكار أو وقائع أو أحداث. هناك الكثير من هذه المسلمات والفرضيات التي سادت وراجت في ثقافتنا ثم تجاوزناها أو اتضح أننا كنا مخطئين في تصوراتنا، بدون أن نتفحصها وبدون أن نعترف بالأخطاء التي ارتكبناها وقتها. من هنا، أعتبر أن ما أفعله هو تعمقٌ ضروري في النصوص.
* هل انشغالك الطويل بانتقاد ظواهر ومشاريع، شغلك عن أن يكون لديك مشروعك الفكري الخاص والمتكامل؟ هل تحس أن مشروعك هو النقد نفسه؟وهل تحول هذا النقد – بعد الممارسة الدؤوبة والمستمرة – إلى نوعٍ من مشروع خاص؟
– لا لم يشغلني عملي النقدي عن مشروع خاص بي. بالعكس. المشاريع الكبرى التي ظهرت في الستينات كانت تشعرني بـ “نقزة” واستغراب. لنأخذ، كمثال، مشروع طيب تيزيني الذي سمَّاه “من التراث إلى الثورة”، وقرر منذ البداية أنه سيكون في اثني عشر جزءاً. بالنسبة لي هذا مستحيل. أحياناً أكون بصدد كتابة مقال فيتحول إلى كتاب، وأحياناً أفكر بإنجاز كتاب فأخرج بمقال فقط. الأمر نفسه ينطبق على مشروع محمد عابد الجابري عن “العقل العربي”، ومشروع حسن حنفي: “من العقيدة إلى الثورة”. إذا كنت تقصد بسؤالك هذا النوع من المشاريع، فهذا خارج تفكيري وطموحي. لقد استفدت من هذه المشاريع، ولكن هذه مسألة أخرى. أعتقد أن رواج مشاريع من هذا النوع يمكن أن يؤدي إلى نشوء نوع جديد من الدوغمائية. وثمة أمر آخر، وهو أن المدارس الفلسفية التي تأثرت بها كانت تحتوي على نزعة تشكك ونقد وريبة بالأنظمة الفلسفية الشمولية، مثلما هي الحال عند هيغل مثلاً الذي يريد أن يحيط بكل الظواهر والأشياء. مشاريع كهذه تحتاج إلى تراكم معرفي كبير، وإلى تقدم علمي وفكري، وأظن أن من المبكر علينا تبني هذه الطروحات الكبرى، خاصة أن عالمنا العربي والإسلامي لا ينتج معرفةً بالعالم وليس لديه إضافات مهمة.
* رغم أنك مثقف عربي نقدي يحظى بإجماع على أهميته ودوره، إلا أن هناك إحساساً يوحي بأنك قادم إلينا من الغرب. هناك شيئ غير عربي في شغلك الفلسفي والفكري. هل ترى أن الفكر العربي هو حلقة للتفلسف المحض والتنظير السديمي. معظم الفلاسفة والمفكرين العرب تخلو نصوصهم مما يحدث في الحياة. ممارستك النقدية مختلفة. أنت كتبت عن ظواهر ومسائل ملموسة. الفلسفة في الغرب لم تعد تكتب بمفردات ومفاهيم كبرى.
– أنا لست ضد أن يختار أي مثقف أو مشتغل في حقل الفكر والفلسفة مشروعه ويعالجه ضمن إطار مصطلحاته ومرجعياته. أحترم جهود الجميع، أستفيد من تحليلاتهم. ربما تكون لدي ملاحظات نقدية كثيرة عليهم، إنما لا أرفض شغلهم بأي شكل من الأشكال. ولكنّ عملي مختلف.
* هذا ما كنت أسألك عنه. هناك مذاق غربي في شغلك؟
– حسناً. في فترة الستينات، كان هناك اندفاع يتمثل في أننا نريد خطة للقضاء على التخلف وتطوير المعارف والعلوم والصناعات. كل هذا جيد. ولكن السؤال هو إذا كنتم تريدون تحقيق كل هذه الأهداف، فهل يمكن تحقيق ذلك بدون الاتصال الحقيقي بالغرب الحديث، والغرب هنا يشمل حتى الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية وقتها. بالنسبة لي، أنا الذي لم أهتم بصنع خلفية تراثية، إذا أخذت طموحات تلك المرحلة وتوجهاتها المستقبلية، وهي موروثة من عصر النهضة. هذا جعلني أقول: إذا أردنا الغايات فلا بد من تأمين وسائل لتحقيقها. طيب تيزيني حاول أن ينجز مشروع “من التراث إلى الثورة” فانتهى الأمر إلى “من الثورة إلى التراث”.
* هل تحس أن المشروع السياسي والاجتماعي والتحرري العربي فشل؟ هل تحس أن الفكر التنويري – وأنت واحد من عتاة المشتغلين فيه – هو بدون مشروع اليوم، أو بدون حامل تاريخي وواقعي؟.
– أنا أعتقد أنه ربما بدون حامل ظاهر بالطريقة التي كانت سائدة في المراحل الشعبوية: الناصرية والفلسطينية والبعثية… لكن في العمق أكثر، حتى القوى الأكثر رجعية ومحافظة تحس أنها بدون التأقلم بأسلوب ما مع شروط العصر الحديث سوف تتهمش. حتى آيات الله في إيران – باستثناء طالبان – يعرفون أنهم إذا أرادوا أن يخدموا الإسلام وأن يخدموا إيديولوجيتهم، لا بدّ أن يستعينوا بالعلم والتكنولوجيا، ولكنهم يحصرونها في الجانب العسكري – على طريقة محمد علي باشا – ويحاولون الحد من تسرّبها وانتشارها في الجامعات والمدارس. تجد هذا في باكستان مثلاً، وبمستوى أقل في إيران. إذا كانت هناك مؤسسة بحث جدية فغالباً ما تكون معزولة باسم الأمن، وتكون مربوطة ومحصورة بالجيش.
* البعض يربط فشل المشروع التنويري العربي بصعود الأصولية. عدم وجود مشروع قوي هو الذي يصعد المد الأصولي.
– لا شك في هذا، إنه لا يصعّد فقط. جزء من فشل هذا المشروع التنويري القومي والشعبوي. لقد فشل هذا المشروع بطريقة دراماتيكية. لم يضعف هذا المشروع ولم يفقد زخمه بالتدريج. لم يستنفذ طاقاته، لم يحل شيئ آخر مكانه، بل انهار كلياً. الفراغ الذي نشأ كان يحتاج إلى من يملؤة. ولم يكن هناك سوى الأصولية. هذا أولاً. ثانياً، في تلك الفترة، كان التنوير والعلمانية إعلان حرب بالنسبة لها، ولذلك تحاول الانتقام.
* لا زلت تعيش بين بيروت ودمشق، قريباً من القضايا التي تشغلك؟
– نعم لا زلت. بعد تقاعدي من التدريس في جامعة دمشق، ألبي دعوات للتدريس في جامعات أميركية وأوروبية. درست في ألمانيا وهولندا وأميركا. أنا اصلاً حاضرت في جامعة برنستون خمس سنوات قبل تقاعدي. حالياً أدرس في برنستون الفكر العربي الحديث، أي الإسلام والإرهاب .. (يضحك). وهناك سمينار عن السجالات والمناقشات التي دارت حول كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد. ومقارنة هذا الموضوع بما حدث في موضوع سلمان رشدي بعد ضجة “الآيات الشيطانية”. وكانت لأول تثير رواية نقاشاً كبيراً، باستثناء “دكتور جيفاكو” لباسترناك، ولكن أثارت ضجة لأسباب سياسية وقتها. وهناك كتاب هنتنغتون وقبله كتاب فوكوياما. بحكم العولمة الثقافية، هذه الكتب الأربع أثارت نقاشات غير مسبوقة. طبعاً هجمات الحادي عشر من أيلول لعبت الدور الأساسي في تجديد النقاش حول كل هذه المسائل. عندما حدث النقاش حول كتابي “نقد الفكر الديني” انحصر ذلك في العالم العربي والإسلامي. الأوربيون كتبوا عنه وتابعوا ما حدث. ولكن لأول مرة في كتاب إدوارد والثلاثة الباقين، كان الطرفان – نحن والغرب – متورطين في النقاش. وهذا تطور جديد من نوعه في الثقافة العالمية. أي أن يدخل شرق إسلامي وغرب علماني وكذلك الصين وروسيا والهند وأفريقيا، في نقاش كتاب واحد. فهذا حالة فريدة وجديدة. أنا أركز في محاضراتي على هذه الفكرة.
* هل ترى أن أحد إيجابيات 11 أيلول أنه فتح نقاشاً حقيقياً بين هذه العوالم التي ذكرتها؟ أقصد حدوث نقاش ثقافي وفكري، وليس عسكري أو اقتصادي وسياسي. لم يعد الغرب بالنسبة لنا محصوراً بفكرتنا المسبقة عنه، ولا الغرب صار في إمكانه أن يكتفي برؤيتنا داخل إطار استشراقه القديم.
– أنا أعتقد أن 11 ايلول جاء ليعزز اتجاهاً كان قد بدأ قبل هذا التاريخ. أظن أنه ظهر بشكل واضح مع كتاب إدوارد سعيد 1978. من الآثار المهمة لهذا الكتاب أن كلمة “الاستشراق” صارت منبوذة حتى من قبل الغرب نفسه. لم يعد أحد يريد أن يُسمى مستشرقاً. صاروا يفضلون “دارس للإسلام” أو “متخصص بالإسلام أو بالشرق الأوسط”. أنا أحس أن الغرب صار خائفاً حتى من تكوين رأي نقدي ومستقل عن الإسلام. جزء من هذا ربما يعود إلى إحساس سابق بالذنب، وجزء نابع من الحذر والتخوف. بالمقابل، أنا أعتقد أن الأفكار الجريئة والقوية هي التي تصنع تقدماً في العلم والمعرفة حتى لو كانت هذه الأفكار خاطئة. أنا أحب الفكرة التي لا تخاف من أن تمتحن بالجدال والنقاش. وإلا لن يحدث أي تقدم. ربما تكون الفكرة كلها خاطئة، وربما يسقط جزء منها وتبقى أجزاء. كتاب إدوارد سعيد كان من هذا النوع. فيه أشياء بقيت وفيه أشياء هو بنفسه تراجع عنها أو طوّر فكرته عنها. أظن أن هجمات أيلول أعطت دفعاً باتجاه تجديد هذا النوع من النقاش وجعله شمولياً أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى