الشاعر السوري صالح دياب: الشعراء الرواد مجرد أسماء كبيرة في الصحف.. ولكنهم لا يُقرأون!
عبد الرحيم الخصار
ينتمي الشاعر السوري صالح دياب إلى جيل الثمانينات. وصل عام ألفين إلى فرنسا من بيروت، وبقي فيها. كان دياب يكتب قصائد مصاغة بعناية صائغ. كل جملة محسوب حـسـابـهـا.لغة صافية، نضرة، تقطر شفافية. مع أهمية إعطاء الحرارة الروحية حقها في القصيدة التي تنبني على قاموس لغوي ضيق. أصدر دياب مجموعة ثانية في فرنسا، توسل فيها الافتراق عن مجموعته الشعرية الأولى. قصائد تفصح عن انزياح بطيء يبشر بقطيعة مع تجربته الشعرية، قطيعة تلتقي مع قطيعة في الحياة. تنقل دياب من حلب إلى اللاذقية
ومن اللاذقية إلى طرطوس ومنها إلى بيروت. ومن بيروت إلى فرنسا. قصيدة دياب الجديدة، بعد هاتين المجموعتين تبتعد ابتعادا عن مجموعتيه الشعريتين. لغتها تذهب إلى الحياة مباشرة، إلى الزواج والطلاق مرورا بالجنس والنقز من العلاقات النسائية والبحث عن العمل، والركض وراء شراء الخبز والواقيات الذكرية. قصائد تتخلى عما هو بلاغي، وتستفيد من القص والحكاية في الخطاب الشعري، بخلاف تام لما عهدناه في شعره السابق، كأنما بعد ثماني سنوات مع العيش بعيدا عن سورية اختمرت لديه القطيعة الروحية لتتجلى في القصيدة.
لصالح دياب مجموعتان شعريتان هما ‘قمر يابس يعتني بحياتي’ صدرت أيضا بالفرنسية بترجمة للشاعر المغربي محمد العمراوي و’صيف يوناني’، ودراسة نقدية بعنوان ‘وعاء الآلام’ مقاربة لدراسة حضور الجسد في شعر المرأة العربية، وترجمة للشاعر جامس ساكري بعنوان ‘كما لو كان حديقة’، وقد صدرت له أخيرا أنطولوجيا عن الشعر السوري بعنوان ‘نوارس سوداء’. الحوار هنا يدور حول هاته الكتب وحول التصورات التي يحملها شاعر راهن عن الشعر وعن العالم وعن المشهد الثقافي السوري، وعن الماضي والحنين والندم :
في الصفحات الأولى من ديوانك الأخير: ‘صيف يوناني’ تقول: ‘ذهبت إلى باريس / ودربت ندمي على الطيران’. هل أنت نادم على وجودك في باريس أم على الأيام التي مرت قبل وصولك لهذه المدينة التي يحتمي بأضوائها عدد كبير من أدباء العالم؟
كان الندم فاتورة عليّ دفعها على أقساط حتى نهاية حياتي. تسلل إلى القصيدة في كتابي الأول ثم الثاني. أثر الندم على قرارات حياتي المصيرية. تجربة الندم ولدت شعورا لدي بعدم الرضا مصحوبا بالكآبة ومشاعر المرارة أمام الأشياء التي لا تتحقق أو الشعور بالذنب عندما ابتعدت عن المواضيع الخاسرة. لم يكن ندما على الماضي بل وقوفاً على الحاضر بحزن أمام الأفعال التي قمت بها. كان إشارة إلى التقديرات الخاطئة التي قمت بها في الماضي الذي أبتعد عنه وإلى ما أقوم به الآن. كنت أعيش طيلة الوقت نادما على ما فعلته في حياتي الشخصية والشعرية. من جهة أخرى لا أنكر أنه يحيل على أهمية التغيرات التي تطرأ على حياتي الآن .
كان ضروريا لإعادة توضيبي روحيا أمام الوقائع الماضية التي تلقي بتقاطعاتها أحيانا على الحاضر، حيث الذات ليست هي المبدعة بل عذاباتها التي تشفى أو أتوهم أنها تشفى عبر الكتابة. ربما هو الندم المبتسم كما يقول بودلير هو ما كان يرافقني. لقد كبر وترعرع من تكرار حالات فوات الأوان التي أعيشها. إنه ندم الذات على غياب الأشياء الجميلة، والتراجع عن الأفعال التي قمت بها. في حين لم يعد يجدي معها التراجع. كان مرتبطا بسيل كبير من الخسارات الروحية والمادية.
الندم الذي تقصده هل يتعارض مع ما أقدمت عليه في الواقع؟
الندم المبتسم هو الذي صاحبني دائما. كان فيه دائما شيء من العقلانية والوضوح. كان ضروريا كي أرى الواقع ولا أسقط في عملية جلد النفس ورؤية تهدم صورة الذات أمام الأنا نفسها. لقد أجبرني على إعادة طرح السؤال حول مقدرتي نفسها في هذه الحياة. وهو هنا فعل فعله وصالحني مع الواقع على شراسته ووحشيته. وقد أقنعني أن الخسارات أمر واقع وحقيقي وعلي قبولها براحة ضمير ودون تأفف. من هنا إنني أندم ولا أبكت ضميري تبكيتا وهنا الفرق بين الندم وتبكيت الضمير ومعاقبة النفس بشراسة الذي الممكن أن يتحول إلى مرض مزمن عبر استرجاع الماضي الأليم.
جئت إلى باريس من بيروت ولم أكن أعرف شخصا واحدا، هنا، كما لم أكن أتكلم لا الفرنسية ولا الانكليزية كسائر مواطني السوريين، ولم يكن معي سوى أربعين دولارا. لم أعد رغم دعوة البعض لي في البدايات. كنت أراهن على لا شيء. وكي أقذف بحياتي كاملة في الفراغ كان يجب أن أعيش ما عشته في بيروت وسورية، قبل وصولي إلى هنا !!!!!!!
لقد خلصتني فرنسا من خرافة لبنان بالنسبة لنا نحن السوريين والعرب. هنا وجدت أن العالم العربي واحد لا يتجزأ إذا ما نظرنا إلى عقليته وآلية تفكيره العشائرية والطائفية. والماكياج الذي صنعناه للبعض، يسقط فورا فور مغادرة العالم العربي. كان يكفي الدخول إلى أي مكتبة في باريس لرؤية حجم الفقر الثقافي الذي نعيش فيه. نادم لأنني لم أمارس الحب مع امرأة أحببتها ولست نادما على ترك مدينة بكامل ذكرياتها، مدينة كنت أتعيش فيها بائسا عبر كتابة مقالات بالقطعة في صحيفة وملحق لا يوزع إلا في البلد نفسه، لأصدقاء وأحباب المسـؤول الثقافي، أو ترك بلد أخاف فيه من ظلي كلما تحدثت عن أي شيء ولو بين أفراد عائلتي. هنا، تخلصت من ثقافة الاستعراض التي أتعبتني في بيروت، وثقافة الخوف في سورية.
لا يحضر الماضي وعذاباته في نصوص ‘صيف يوناني’ ولا يستوطن في القصيدة. ثمة نوع من الإنصات إلى ما هو داخلي بعيد، كما لو أنك لا تشعر بغربة. هل تحدثنا عن ذلك؟
لقد كتبت أغلب قصائد ‘صيف يوناني’ في جزيرة كوفونيسي اليونانية، إثر بقائي هناك فترة شهر. كنت أريد أن أتحدث عن البحر والزرقة والكنيسة البيضاء في أعلى الجبل فوجدتني أكتب حياتي في باريس. كانت القصائد موجزا لعذاباتي في باريس من جهة ومن جهة أخرى ترجيعا للصور البعيدة التي عشتها في الماضي، مضاءة بالظلال والتفاصيل اليونانية. سيل من مشاعر المرارة على الأشياء التي لم تتحقق، الاغتراب الذي بدأ لحظة ترك البلاد والهجرة. هذا الفراق سبب رعدا وصواعق في داخلي في الأيام الأولى جراء القطيعة مع عالم بأكمله. وقد استطعت امتصاص ذلك حياتيا أما شعريا فكان علـيّ المجيء الى اليونان كي يتحقق ذلك.
الماضي الذي يتردد أمام الأنا في شكل دائم ويعيقني على التقدم، هو الماضي نفسه الذي يعتبر حجر أساس للانطلاق إلى الأمام. انتبهت إلى أنه ثمة فرق بين دورين يمكن أن يلعبهما الماضي وحضوره في القصيدة من أجل إضاءة المستقبل. الحاضر الذي يتقدم مرتبطا بالماضي الذي يلعب دورا في صوغه.
كان ربما يلزمني فترة حداد على الماضي. هذه الفترة عملتها في حياتي اليومية. لكنها لم تتسلل إلى القصيدة إلا كترجيعات. لم يكن هناك أي تعلق بالماضي وتفاصيله الدقيقة أبدا.
ابتعادك عن المكان الاول هل ساعدك ذلك بالتخلص من سطوة الماضي وكيف أفلتت القصيدة من الحنين؟
كنت أعتقد أنني ابتعدت عن الماضي وأصبحت في ضواحيه حيث أنظر اليه من بعيد. لكنه كان يصر على ملاحقتي في منبعه ومصبه. أعترف أنه كانت وما زالت قيادة حياتي بالنسبة لي أمرا ليس سهلا. وهذا ما يطل من خلال القصائد. حاولت في البداية عمل تطهير عرقي للماضي، ركضا وراء التنظيرات التي قرأتها سابقا عبر شعراء وبعض دجـّالي مجلة شعر، وتربيت عليها. لكن الزمن أعلن لي أن ذلك مستحيـل، وأن من كان يدعو على ذلك كان من أكثر المتعلقين بماضيه بما فيه الديني المغلق. لقد تم الضحك علينا، على جيل بأكمله. كان يجب عليّ إعادة النظر في الماضي لا قتله، وإلا سيلتهم الحاضر. أعرف جيدا أنه يمكن أن أعيش في الحاضر، هنا في باريس، ولا يكون الحاضر حاضرا أبدا. ويخيل إلي مثلا أن أعيش الآن بينما الماضي هو الذي يقودني ليل نهار. كانت القصائد تطل على هذه الصور التي اعتملت في داخلي. قصائد لا يشوبها الحنين أيضا.
ما الذي أردت قوله إذا في نصوص ‘صيف يوناني’، نصوص مكتوبة بعيدا عن المكان الأول وبعيدة عن باريس أيضا؟
كان الحنين شكلا من أشكال العودة إلى الألم والتلذذ به الألم الذي يمكن أن أسقط فيه في كل لحظة، هو بمعنى ما العودة إلى البلد الذي تركته. استعمال الماضي بطريقة مؤلمة والحنين على أشياء ضاعت ولم يعد بالإمكان استعادتها. الحنين حيث تمتزج الرقة بالمرارة معا في القصيدة. كانت الذكريات تجتاحني ممزوجة بصور الحاضر وعذاباته والتي بدأت تتلوى مجيبة على حاجة داخلية ملحة. كل ذلك يؤدي إلى الالتفاف على الذات في مرحلة انتقالية حيث حاولت كمهاجر اختراع آلتي الروحية الشخصية كي أعزف عليها، على ذكريات الطفولة، ثـم وجدتني نفسي لست هناك ولست هنا. هنا حقيقة المغترب الذي لم يعد له وطن إلا الذاكرة في حين يتحول البحث عن بلاد غير موجودة بحثا عن الذات نفسها. هذا ما حاولت تسريبه في القصائد.
ولكن من أين يتأتى كل هذا الألم في نصوصك؟ وما هو منبعه وأين مصبه، وما علاقته بالحنين؟
كانت تعبر القصائد مشاعر المرارة مع مشاعر الرقة، الرضا مع الألم، مشاعر مرتبطة ارتباطا عضويا بترجيعات ونداءات حسية بما عشته في حياتي عبر حواسي، خاصة النضارة والطقس والروائح وطعم الأطعمة والموسيقى. كان يتم استدعاؤها للبحث عن مثيل لها ومختلف في الآن نفسه. كان الشعر يخرج من هذه المنطقة. في القصائد مشاعر الماضي تتقاطع مع الحاضر وتعبره عبر الألم إلى المستقبل. الكلمات تسترجع ما كنته وما أريد أن أكونه في الآن نفسه. ذكريات الماضي الطفولة والأشخاص المقربين مني في الماضي القريب، هذه الذكريات التي أعيشها عبر مشاعر القطيعة. ذهبت في ‘صيف يوناني’ إلى تفكيك شيفرة الحياة الروحية الداخلية مصحوبة بمشاعر عدم الاندماج، هنا، والاندماج والعلاقات الإنسانية المتوحشة هنا في فرنسا كما في البلد الأول. شويعرة سورية مغناجة في لوديف قالت عام 2000، كيف ستبقى؟ يلزمك أربعون ألف فرنك في الشهر كي تعيش في باريس. وناشط في حقوق الانسان حبسني في مكتبه، ليلة وصولي إلى باريس.
تقول ‘القراصنة’ هم ‘اليابسة التي تلوح لنا من بعيد’. تشوب النصوص مشاعر الفراغ والعبث في مناخات القصائد. كما لو أن الخلاص سيأتي عبر القتلة. هل تريد أن تقول أن الكل باطل وقبض الريح؟
الحنين بهذا المعنى لم يكن وليد العيش في مكان ما جسديا بينما روحيا في مكان آخر او التعلق والانتماء إلى مكان بعيد ونسيان المكان الذي أنا فيه. هذا لم يحصل معي أبدا بهذه الحالة المرضية. كان نوعا من الحداد الدائم غير المنتهي أبدا. لم أكن أريده لأني لا أريد أن أصوغ بمخيلتي ناظرا إلى المكان الأول بوصفه فردوسا مفقودا يعيش معي وأحن إليه طيلة حياتي. وطني ليس هو المكان المثالي وليس المكان الأول الذي يلتهم الجغرافيا الداخلية. الحنين يصوغ الأنا والجغرافيا الداخلية. لقد ضيعت الحنين وبضياع الحنين ربما ضيعت جزءاً من ذاتي وأفقرت العلاقة مع المواضيع الروحية الداخلية لديّ. في ‘صيف يوناني’ ثمة ما يحيل على أن التغيير أمر غير قابل للتحقق. كان الحنين يمنعني من الذهاب إلى الواقع الذي أعيشه، الحنين الذي يبعدني عن الحاضر، كما يضع الماكياج على ماض مزخرف ومزركش يعاش في الخيال فحسب. ثمة مشاعر الفراغ والعبث التي تنتج عن الواقع الحالي. والتي تتحقق عبر الكتابة واللغة. فيما الهوية نفسها موضع تساؤل، هناك في المكان الأول عاشت وتعيش أجيال عدة تجري وراء قراصنة، متوهمة أنهم الأرض اليابسة.
بعد ديوانك الأول ‘قمر يابس يعتني بحياتي’ وعملك الأخير ‘صيف يوناني’ لاحظت في نصوصك الجديدة المنشورة طبعا بعد هذين التجربتين نوعا من التحول، هل تغيرت نظرتك للشعر؟ هل سقطت المفاهيم الأولى؟ هل صارت الكتابة الآن تبدو لك أوضح وأنها ممكنة دون تعب وتكلف؟
منذ أن بدأت أقرأ اللغة الفرنسية لم أعد أقرأ الشعر الفرنسي. الشعر الذي كان دائما قريبا مني عبر الترجمات. صرت اقرأ فقط الترجمات الاسبانية والأمريكية والايطالية وغيرها. أصبحت قريبا من الشعر الذي يروي. الشعر الذي يلتقي بالحياة. لم أعد مندهشا بأسماء كتبت عنها الكثير من الدراسات الأكاديمية . لقد تغيرات ذائقتي الشعرية وتغيرت معها وجهة نظري إلى ما يكتب الآن من شعر عربي، وعالمي. أصبحت أميل إلى الشعراء الذين يسردون أو يضمنون شيئا من حياتهم في القصيدة. باعتقادي أن الحياة الشخصية هي متن كل إبداع. كلما ابتعد وقطع الكاتب عنها وذهب نحو الصنعة المحضة، دفع بنصه نحو الحائط. لقد ذهبت إلى كتابة يأخذ السرد والحكاية فيها دورا ما، منسلخا انسلاخا عن سائر قناعاتي الفنية السابقة. أريد أن أروي وأحكي حياتي الشخصية كما هي، دون زيادة ولا نقصان، أحيانا، مراهنا على أن ينبثق الشعر من هذه المنطقة بالذات.. ما يهمني هو الإنصات إلى داخلي راويا إليّ ما يحدث معي في الحياة!
تريد إذا أن تستفيد من القص والحكاية في القصيدة، هذا ليس أمرا جديدا…
إنني أحاول في قصائدي الجديدة أن أصنع فضاء ومناخا لهما علاقة مباشرة بحياتي في شكل من الأشكال. فكل قصيدة كتبتها بعد ‘صيف يوناني’، في مجموعتي الثالثة، التي لم تطبع بعد، كتبتها عن وقائع حياتية شخصية ونفسية أعرفها تماما. أحب أن أمرر كما من الحميمية في القصيدة، الحميمية المرفوعة شعريا في شكل غير منته وغير محدد ولا مقاييس معينة له. الحميمية التي ليست نتاج الاشتغال اللغوي، بل هي منبثقة من عالمي الروحي لحظة كتابة القصيدة نفسها. إني أكتب قصائد حياتية شخصية الآن. في الآن نفسه أرى أنه ليس على القصيدة أن تكون كالحكاية تماما. لا أريد أن أكتب قصيدة / قصة تتضمن بداية وحبكة وغير ذلك. ما أريده هو أن أكتب ما له علاقة بالاندفاع الروحي العارم. ما أحب فعله الآن، هو وضع كم كبير من الحركة الداخلية الناتجة عن كمية التوتر النفسي مارا عبر الكلام، كما من اللهفة داخل كل قصيدة التي تسافر أحيانا إلى الماضي الشخصي البعيد أو تلتصق بحياتي الآن، أو تعرج على نواحي وشوارع وزواريب مخفية في عمري. وفي الآن نفسه على القصيدة أن تبقى قصيدة.
كيف يمكن أن يكون ذلك، إذا أنت ضد البناء في الشعر؟
أعتقد أن كل قصيدة يجب أن تـكون لها سيرتها الذاتية الخاصة، لها وحدها، بمعزل عن القصيدة الأخرى، السيرة التي تطل على ما هو سري ينبثق من الحياتي العاري. السري الذي يحيل على الإشراق والنور الذي ينبثق من الحياة اليومية. وهنا أنا أفرق بين التفاصيل اليومية والحياة كما هي . لكل قصيدة نورها وحياتها النورانية الداخلية رغم ارتباطها ارتباطا بالعالم الخارجي. لم اعد أطيق في الشعر الاشتغال البلاغي والكلام المنمق القوي الذي يسعى إلى أن يستعرض العضلات سواء أكانت لغوية أم تصويرية. بدأت أنفر نفورا من اللغة التجريدية، ومن الشعر الذي يضع مسافة بينه وبين الشخص. لم أعد أطيق التحذلق اللغوي، والتجريد واللغة الجوفاء المتينة، تحت ستار كتابة قصيدة نثرية، بدأت أهرب هربا من كل ذلك. الأمر نفسه ينسحب على حياتي اليومية أيضا، حيث لا فلسفة ولا هم يحزنون. أجد أن كما كبيرا من الشعر الذي كتب تحت ستار الكلام واللغة اليومية لم يكن في حقيقته إلا نتاجا لغويا فحسب. فشعراء كثيرون يكتبون تحت يافطة التفاصيل كتابات حتى ولو خلت من الاستعراض التصويري إلا أنها غارقة في الكلام الخادع بينما هي نتاج العمل اللغوي المحض، فضلا عن استعراض الحكمة.
أغرتنا هذه الكتابة بالسهولة الخادعة التي تخفي عملا شديد العقلانية. ثمة أسماء تقف خلفها ماكينة إعلامية. وعدد من المقالات التي تنشر هنا وهناك لأسباب معينة كافية لجعل من هذا الاسم أو ذاك حاضرا ومشهورا، لكن كل ذلك، لا ينفع مع الزمن. ثمة أسماء تستمد حضورها من وظائفها. وإذا ما خسرت وظيفتها، لا تعود موجودة أبدا.
إذا أنت تعتقد أن شعراء مجلة ‘ شعر’ غير مقروئـيـن الآن؟
لم نعد نقرأ شعراء مجلة ‘ شعر ‘ الآن. رغم كل التنظيرات التي قيلت عن البعض ووصفتهم على أنهم رواد. لقد ذهب شعراء معروفون ولم يعودوا مقروئـيـن الآن، حتى أنه لم يعد يعنينا إذا قيل لنا أنهم رواد. ليكونوا روادا ولكن شعـرهم لم يثبت زمنيا رغم أنهم أحياء، كما هو الحال مع شاعر لم يتأثر به أحد من الشعراء الشباب، باستثــــناء كاتب وكاتبة مشكوك في موهبتهما. ثمة أسمـــاء تحضر بقـــوة على الساحة الادبية ولكنها غير مقروءة. إنهـم مكتفون بأن يكونوا شعراء كبارا وحسب. شعراء للدراسات النقدية. يسطر الآخرون كتبا عنهم. لم يتبق شاعر حي من شعراء مجلة ‘ شعر’ تقــرأه الأجيال الجديدة. (….)
محمد الماغوط، هو الوحيد المقروء الآن، وهو ليس شاعر ا من شعراء مجلة ‘ شعر’، لقد طبعت مجلة ‘ شعر’ له كتابه الأول فقط. إن الرافعة الإعلامية لا يمكن أن تجعل من أحد اسما مقروءا، أو أن تجعل شعره حيا، وهذا ما أثبته الزمن.
ولكنّ هناك كمـّـاً من التنظيرات التي كتبت عن مقاييس للقصيدة النثرية. ألم يتبق منها شيء برأيك؟
يبدو لي أن التنظيرات المكرورة عن مقاييس معينة لكتابة قصيدة نثرية ساهمت سلبا على جيل الثمانينات. لقد أقنعونا عبر ضجيج إعلامي بأن مجلة ‘ شعر’ هي التي غيرت وجه الشعر العربي، وأن انجازاتها حاضرة وترجماتها أيضا. لم أر في حياتي إلا عدداً واحداً من مجلة ‘ شعر’، ولا أعرف ما هي هذه المجلة. لقد أقنعونا أن شعراء هذه المجلة هم الذين حطموا جدار اللغة وأنهم هم الملعونون والمارقون بينما واقعيا كان الرواد يذهبون كل أحد إلى الكنيسة. كما أضافوا أن للقصيدة النثرية ثلاث سمات حددها رسل وأنبياء هذه القصيدة. لحسن الحظ أن الأجيال الجديدة لم تقتنع بكل هذه المقاييس والتنظيرات بل ذهبت إلى العكس تماما. لذا اتجه الجيل الجديد إلى كتابة سردية دون أن يكون له أي ارث آت من هؤلاء الذين يسمونهم روادا. كل التنظيرات التي كتبت ذهبت في الريح. الأجيال الجديدة تكتب دون التفكير بها، وهي لا يعنيها لا سوزان برنار ولا من أخذ عنها، ولا من يردد من مرة إلى أخرى بضع جمل لها. الكتابات الشعرية هي المؤثرة وليس التنظيرات.
كثيرون يختزلون التجارب الشعرية الجديدة بسورية في جملة بسيطة: ‘إنهم أحفاد الماغوط ‘ ما رأيك؟
ما زال الماغوط بالنسبة لي يشكل سؤالا محيرا. أتساءل عن سبب بقاء نصه واستمرار جاذبية شعره. كمّ ٌ كبير من الكتابات سطرت عن أسماء كانت أكثر سطوة وفصاحة وقوة لغوية، لكني لم أعد أقرأهم الآن وأحسب أن الجيل الجديد، لم يعد يهتم بنصوصهم.
لزمن طويل كنت قريبا من نصوص أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا وأعتقد اعتقادا راسخا أنهما المؤثران والفاعلان الحقيقيان في راهن القصيدة النثرية العربية. في الآن نفسه كنت حين أخلو إلى وحدتي أقرأ الماغوط، وأحمل كتابه معي إلى السرير قبل النوم وأعلق مقطوعات من قصائده على الحائط. الآن تصالحت مع ذائقتي ولم يعد هذا الانقسام موجودا حول محبة شاعر معين والتنظير لشاعر آخر بوصفه المؤثر والمهم. لقد تغيرت حساسيتي الشعرية رويدا رويدا. ما كان رائدا في الماضي لم يعد الآن، لا بل إنني أنفر نفورا الآن من نصوص ينظر لها البعض بأنها اختراقية وأساس القصيدة النثرية العربية. لتكن ما تكون برأي هؤلاء، ولكنها لغوية خشبية ميتة ولا أحد يقرأها وهي متروكة للتاريخ فحسب لا للحياة.
لاحظت أنني كنت مأخوذا بالرافعة الإعلامية شأني شأن أبناء جيلي وأن كما كبيرا من القناعات الفنية وغيرها كانت تتشكل ليس انطلاقا من النصوص بل من خلال هذه الرافعة. بينما كانت الحياة الواقعية تقول شيئا آخر، مخترقة حالة الوهم هذه، وتعطي الماغوط أهميته الحقيقية. شعره هو الذي صنع أيقونته ولم يتأت ذلك لا من الصحافة ولا من شيء آخر.
ربما يحضر نص الماغوط في نصوص بعض شعراء السبعينات في سورية، أما في الثمانينات فأعتقد أن شعراء ظهروا في السبعينات هم الذين طبعوا نصوص هذا الجيل كأمجد ناصر وبسام حجار ووليد خازنذار ووديع سعادة، فضلا عن الترجمات التي لا تقل أهميتها عن شعر هؤلاء الشعراء الذين نجدهم في نصوص البعض وليس الماغوط الذي ربما يحضر في نصوص السبعينات.الجملة عامة وشاسعة وهي تضليلية ولا تنطبق على ما يكتب في سورية.
إذا الشعر السوري، ليس محصورا في الماغوط فحسب كمرجعية.
لا يمكن حصر الشعر السوري بمحمد الماغوط على الرغم من أهميته، خصوصا بالنسبة للجيل الجديد الذي يقرأ كل شيء. أحب أن أبوح لك بأنني لم أعد أقتنع بوجود مدرسة شعرية سورية ولبنانية وكويتية و…و… ورغم كل التنظير. إنني انظر إلى الشعراء العرب كأفراد لهم تجاربهم الشعرية المستقلة. من غير الممكن جمع كم كبير من الشعراء وحشرهم في كيس واحد والقول أنهم أحفاد فلان وفلان. هذا الأمر لا يمكن أن ينسحب على الشعر. أصبحت مرجعياتنا خارج بلادنا، هناك في الترجمات، أو لدى شعراء غربيين. لا يمكن أن أنظر لتاريخ الشعر الكويتي والمطبخ الكويتي كوحدة متكاملة. التبولة اللبنانية والفلسطينية والسورية هي تبولة واحدة وإذ أتحدث عن الفوارق ما بين الـتـبـولات الثلاث، سيكون ذلك ضربا من السفسطة. إنها واحدة للأسف. إنني أعتقد بوجود قصيدة نثرية عربية تكتب الآن يكتبها أفراد في مطارح مختلفة من العالم العربي، وليست هناك تقسيمات حادة لهذه القصيدة. ثمة فوارق فنية أحيانا عميقة في رقعة جغرافية ضيقة.أجد لبنانيا يكتب مثل مصري وسوري يكتب مثل خليجي، الفوارق رجراجة ولا يمكن حصرها وتأطيرها.
كيف تنظر أنت إلى ما يكتب الآن في سورية؟
ثمة ثلاثة شعراء مازالوا أحياء من الجيل القديم وهم الماغوط وقباني ورياض الصالح حسين. كل له أسبابه. خارج هذه الأسماء الثلاثة أجدني قريبا من بعض قصائد شعراء السبعينات وليس لتجربة معينة، رغم أن البعض يكتب منذ نصف قرن. الزمن والكمية لم يكونا يوما هما الأساس. لا أستطيع أن أقول أنني أحب تجربة كاملة، لكنني أقرأ بحب تجارب منذر مصري وبندر عبد الحميد، كما يعجبني إصرار أسماء أخرى على المتابعة. لا يمكننا التخلص من سطوة الاشتغال اللغوي والتصويري والمساطر التي في أذهاننا عن القصيدة النثرية بهذه السهولة على قلتها. لقد وقعت تجربة شعراء مدينة حلب تحت هذه السطوة ولم يستطع أحد أن يفلت منها، وهي برأيي التجربة الطليعية الوحيدة في هذه الفترة. ثمة وهم ما زال البعض وفيا له وهو كتابة نصوص على مقاييس تسكن في الذاكرة تحت يافطة الحياة الشخصية، الأمر الذي يعني الضحك على الذات. واقعيا هذه الكتابات كانت أبعد ما تكون عن الحياة الشخصية، إذ لا حياة فيها. ولا تتعدى البراعة في صوغ وتصيد الصور الشعرية التي قد تتميز بالنضارة. فتحولت القصيدة إلى كشكول صور لا أكثر ولا أقل. للأسف وقع جيل الثمانينات في مدينة حلب رغم أهميته الطليعية، تحت سطوة وسلطة المقولات وبعضها محض صحافية يسطرها كتاب وشعراء في بيروت عن كون الشعر يتوازى مع الواقع ولا يتقاطع معه، وأن القصيدة مكتفية بذاتها. الصفاء اللغوي أمر لا بد منه. إلخ. ورغم شراسة الحياة والقمع الذي عاشه هذا الجيل إلا أنه لم يتجلّ شعريا في نصوصه، وذلك بسبب عيش جيل شعري كامل في هذه المقولات. عيشه خارج حياته.
لماذا لا نشعر بوجود أي خصوصية محلية لما يكتب الآن في الشعر السوري؟
كنت في حزب يتخذ من سورية اسما له، لكن في ذلك الحزب العتيد كان أغلب الحديث يدور حول كردستان لا سورية. من جهة أخرى كان الشعراء الحداثيون الذين كنا نعتبرهم روادا قد تحدثوا عن القطيعة مع الأب ومع الماضي.و كانت مقولاتهم أشبه بالآيات المنزلة علينا. وكانت الثقافة السائدة في الثمانينات تحاول أن تمحو أي اتصال لنا بالتراث سواء أكان فنيا أم أدبيا. لذا كان من العار علينا الاستماع أو الاتصال بالتراث أو بالثقافة الشعبية وتسريب مناخاتها ومفرداتها إلى القصيدة. والعار كل العار مثلا الاستماع إلى أم كلثوم وصباح فخري والقدود الحلبية، وحسن حفار وأديب الدايخ وصبري مدلل و..و..و..و… كل الأفكار السائدة كانت تتكاتف من أجل قتل وارتكاب مجازر بحق الثقافة الشعبية التي هي روح الناس في هذه البقعة من العالم. كانوا يسمون ذلك تخلفا ورجعية. ثمة أيقونات كان علينا قبولها دونما تفكير. رائد القصيدة النثرية هو أنسي الحاج، سيدة الغناء هي فيروز إلخ. بينما واقعيا كنا نفكر بالماغوط لا الحاج من دون أن نجرؤ على الكلام ونستمع إلى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب عندما نصفو إلى أنفسنا، في الليل وليس إلى فيروز. لذا معظم الكتابات التي ظهرت خلال الثمانينات، كانت كتابات مفبركة مصاغة بمقاييس خارجية. ربما تكون الرواية أهم من الشعر في هذه الفترة ـ برأيي ـ خصوصا روايات وقصص محمد أبو معتوق وفيصل خرتش ونهاد سيريس ونيروز مالك.
أصدرت كتابا بعنوان ‘ نوارس سوداء ‘ عن القصيدة النثرية السورية. ما هي المعايير التي اتبعتها في اختيار أسماء واستثناء أخرى؟
حاولت في هذا الكتاب، أن أقدم نماذج من القصيدة النثرية التي تكتب في سورية بدءا من خير الدين الأسدي وعلي الناصر حتى أيامنا هذه. كان الكتاب يعتمد على ذائقتي الشخصية المحضة، تلك الذائقة التي تروق لها تجربة شعرية معينة ولا تروق لها أخرى.
اخترت برأيي الأسماء الأكثر طليعية في راهن الشعر السوري، بما فيها تلك التي لم تكن قد نشرت كتابا بعد. تلك الذائقة التي يمكن توصيفها باقترابها من الكتابات التي تخلو من الاشتغال العقلاني المحض، وتقترب مما هو نضر وشفاف خارج الاستعراض اللغوي الذي كان نموذجه الوحيد سليم بركات في الكتاب. إن الأصوات الشعرية السورية التي استطاعت أن تثبت زمنيا، لم تكن إلا نثرية. فالذائقة الشعرية لدى القارئ تتحرك، وتتبدل، الأمر الذي أدى إلى أن تخلي القصيدة الكلاسيكية،و قصيدة التفعيلة، الساحة للقصيدة النثرية نتيجة لما طرأ من تحول على هذه الذائقة.
الأسماء التي اخترتها لم تذهب إلى أي عملية تجريب لغوي حاد، على جسد اللغة، كما لم يدفع أي شاعر، أيضا، بقصيدته إلى أي تطرف فانتازي. لذا تتميز قصائد المقدمة في هذه المختارات بلغتها الأليفة، السلسة، حتى وإن كانت حادة أحيانا لدى البعض. في شكل عام، من اخترتهم كانوا ينطلقون، من أحاسيسهم إلى الخطاب الشعري. وهم لا يعتمدون في كتاباتهم على أي أفكار، يتوسلون بثها داخل نصوصهم. لذا تأخذ الحياة، موقعا ما في هذه القصائد. بالطبع ثمة استثناءات، قليلة. فرحتي بهذا الكتاب لم تتم. بسبب إضافة الناشر والمسؤول عن السلسلة لاسم لم أضعه وحذف اسم آخر. على كل، تم حل هذا الامر باعتذار الناشر، وتكفله بنشر الكتاب من جديد، وأنا قبلت الاعتذار. الأسماء هي :
خير الدين الأسدي، أدونيس، عابد إسماعيل، نزيه أبو عفش، حسين بن حمزة، حكم البابا، سليم بركات، نوري الجراح، رولا حسن، دعد حداد، عبد السلام حلوم، عبد اللطيف خطاب، صالح دياب، محمد دريوس، هنادي زرقة، محمد سيدة،محمود السيد، سنية صالح، خليل صويلح، رياض الصالح حسين، لينا الطيبي، بندر عبد الحميد، حازم العظمة، محمد فؤاد، عمر قدور، فايز مقدسي، عادل محمود، مرام المصري، محمد الماغوط،، أورخان ميسر، منذر مصري، علي الناصر.
لقد أصدرت كتابا عن شاعرات عربيات هو ‘وعاء الآلام’. على ماذا راهنت في هذا الكتاب ؟
الكتاب كان مقاربة لحضور الجسد في شعر بعض الشاعرات، بحثا عن أشكال تجلياته وصياغاته واستيهاماته، الجسد المكبوت المقنع والمهمش داخل الثقافة العربية.
واذا كان الجسد والجنس في العائلة العربية يأخذان شكلا تاباويا فإن مجرد ذهاب المرأة الى الكتابة بوصفها فعل خلاص وحرية يفتح ثقوبا في جدار السلطة الذكورية. تستظهر الكاتبة العربية ذاتها استظهارا دون أن تترك للنص أن يستبطن ذاتها في علاقتها بنفسها وبالعالم جاعلة من الجسد بؤرة استعراضية متقطعة غير خيطية محولة إياه إلى كتلة مفاهيم ينطمس بها، وتعمي القارئ حتى عن تذوق الخطاب نفسه الذي يتبدى ديماغـوجيا. إن البؤس الشعري هو وحده الذي يختبئ خلف الاستعراض، وهزالة التجربة الشعرية، التي تنهض على حقائق زائفة مكبوتة.
لا حظت أن أغلب الكاتبات منفصلات تماما عن كتاباتهن ومستلبات استلابا لغويا للرجل. الجسد هنا يافطة إعلامية وديكور، لا أكثر ولا أقل للتسويق الاعلامي. أما حين نقرأ النصوص فهي نصوص تحيل على فقر شعري مدقع. أما الشخص فيمكن أن يعيش في دير أو في صومعة ويذهب كل أحد إلى الكنيسة ويقوم برمضان. ويحدثنا عن الجسد، وهتك المقدس. يحدث هذا في العالم العربي، نعم.
لقد قرأت عددا من الشاعرات العربيات. فوجدت أن مفهومهن للشعر يتحدد بطنجرة عملاقة يرمين فيها آلامهن. الأمر نفسه يمكن أن ينسحب على الرجل، لكنه يتجلى هنا في شكل أكبر. يلعب الرجل العربي دورا كبيرا في صوغ صورة المرأة العربية أمام نفسها لا بل تشكيل كتابتها، والاستثناءات قليلة ومعروفة. إن عملية تصحيح الرجل وتغيييره في نصوصها عملية شديدة الخطورة يمكن أن تسحب من المرأة خصوصا لغتها، فتشعر في النهاية أمام نص كتبه رجل، نص فحولي، متين لغويا. ولأننا نعرف الأشخاص شخصيا وهنا الطامة الكبرى. يريدون لنا مثلا أن نصدق أن هذه المتانة اللغوية تعود إلى فلانة. لكن فلانة تخطـىء باللغة العربية فترفع وتنصب كيفما اتفق. سألت أحد الشعراء المعروفين عن أسباب تراجع كتابات إحدى الأسماء، فقال لي: ‘ أبوح لك. المشكلة بسيطة. قصائدها الأولى تمت مراجعتها من قبلي. أما قصائدها الجديدة فيراجعها شخص غيري هو من جيل الستينات، على ما يبدو، ومن يدري قد تكتب نصا، بعد ذلك بلغة منفلوطية إذا ما كان الرجل القريب منها يحب المنفلوطي’.
إنني سعيد جدا عندما أرى الأصوات النسائية العربية تتكاثر. المرأة العربية عانت وتعاني أكثر من الرجل. من حقها أن تكون موجودة في كل مكان. لكنا علينا ألا نأخذ خربشاتها على الورق ونجعلها نصوصا متينة قواعديا ومن ثم نسوقها على أنها شعر ونطلب منها أن توقع اسمها. إنها مجزرة حقيقية. لا تقبلها إلا من امحت ذاتها أمام الرجل امحاء تاما. كثيرات من الشاعرات العربيات يسعين أن يكن نجمات سينما وعارضات أزياء لذا نجد أن بعضهن يسوقن لصورهن وجسدهن، وثيابهن لا لكتابتهن. الأمر نفسه يمكن أن ينسحب على الرجل أيضا. والاستثناءات هنا موجودة بالطبع لكنها قليلة جدا.