صفحات سورية

سقوط حلّ الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين

null


باتريك سيل

إنه لأمر مفروغ منه الآن أن حلّ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عبر قيام دولتَين أصبح ضرباً من الخيال. فالمشروع – هذا إذا كان مشروعاً حقيقياً – ميت تماماً.

وما زال بعض السياسيين الغربيين، ومن بينهم الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن، يتملّق حول فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلّة وقابلة للحياة، تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن. بيد أن أفعالهم تناقض أقوالهم.

والواقع اليوم ان ما من ضغط فعّال يُمارس على إسرائيل – سواء من الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتّى الدول العربية نفسها – لوضع حدّ لاحتلالها الأراضي الفلسطينية، أو إنهاء توسعها الاستيطاني أو الموافقة على إقامة دولة فلسطينية. وفي غياب ضغط من هذا النوع – ويجب أن يكون ضغطاً شديداً – لن تنصاع إسرائيل.

منذ تأسيس دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين العربية منذ ستة عقود، حاولَت سحق أيّ انطلاق للقومية الفلسطينية. ويبقى هذا العزم حقيقياً اليوم بقدر ما كان آنذاك. إذ ما زالت إسرائيل تعتقد أن أيّ تنازل للفلسطينيين – وأي إقرار منها بمسؤوليتها في تجريدهم من ممتلكاتهم – من شأنه ان يقوض شرعية الدولة الإسرائيلية.

وبالتالي، يُعتبر التفوه بعبارة «دولة فلسطينية» لغزاً قاسياً – سواء أتت العبارة على لسان جورج بوش الابن أو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أو أيّ زعيم آخر. أما عندما تأتي العبارة على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت فهي تمرين فاضح في السخرية والنفاق.

حتّى الآن، هناك مساحة أربعين بالمئة من الضفّة الغربية تقوم عليها المستوطنات الإسرائيلية والمناطق العسكرية المقفلة والمحميّات الطبيعية والطرقات المخصصة للإسرائيليين فقط والجدار الفاصل المشيّد في عمق الأراضي الفلسطينية. أما الجزء المتبقي من الضفة فمُقسم بإقامة مئات الحواجز. وقد أصبحت القدس الشرقية العربية، أي قلب فلسطين العربية، مفصولةً بشكل كامل تقريباً عمّا تبقى من الضفّة الغربية بحلقة من المستوطنات اليهودية.

عندما بدأت الأونروا (وكالة الغوث الدولية لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين اللاجئين في الشرق الأدنى) عمليّاتها في أيار (مايو) عام 1950، كانت سجلاّتها تضم نحو 900 ألف اسم لاجئ فلسطيني معوز. أما اليوم فثمة 4 ملايين ونصف مليون لاجئ تقريباً في غزّة والضفّة الغربية والأردن ولبنان وسورية. وأرغم الحصار الإسرائيلي سكّان غزّة، البالغ عددهم مليون ونصف نسمة، على التوسّل للحصول على لقمة عيشهم، وهم باقون على قيد الحياة بفضل ما تقدمه إليهم الأونروا من رزم الطعام.

إلى متى يمكن أن تبقى هذه الانتهاكات؟ قمع إسرائيل للفلسطينيين هو انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي، ولكنّ العالم يشيح بنظره. فمن الأسهل له استنكار أعمال الصين في التيبت.

يدفعنا الوضع الحالي في الأراضي الفلسطينية إلى طرح سؤالَين بارزَين. السؤال الأول مالي. هل تستطيع الأونروا جمع مبلغ 750 مليون دولار الذي تحتاجه هذا العام لتمويل صندوقها العام وتلبية حاجات الطوارئ؟ قد يكون الجواب ايجابياً على الأرجح. والحال انه من المرجح ان يدفع المجتمع الدولي هذا المبلغ، وإن متأخراً وعلى مضض، لتخفيف تأنيب الضمير وللتعويض عن عدم قدرته على التأثير على السلوك الإسرائيلي.

أما السؤال الثاني فيدفع أكثر إلى التفكير. إلى متى سيتحمّل الفلسطينيون ظروف حياتهم الحالية المريعة – واحتضار الحلم بالعيش في دولة – قبل أن ينفجروا؟ تشير الاستطلاعات إلى تطرّف حادّ في المجتمع الفلسطيني، مع إدراكه أكثر فأكثر أن إسرائيل لن تتخلّى عن شيء عن طريق التفاوض. لا شك أن محادثات أولمرت المخيّبة للآمال مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس لم تصل إلى مكان – ولن تصل.

يتوقّع بعض المراقبين اندلاع انتفاضة ثالثة أكثر عنفاً من الانتفاضتَين اللتَين سبقتها واللتَين اندلعتا في العامين 1987 و2000 على التوالي. بيد أن بعض المراقبين الآخرين يرون أن روح القتال بدأت بالضمور في نفوس الفلسطينيين. فقد ضعفوا كثيراً – بشكل مفتعل – بفعل البطالة، وسوء التغذية، والاقتصاد المنهار، والقيود الشديدة على تحرّكهم، فضلاً عن غارات إسرائيل المتكرّرة، واغتيالاتها المستهدِفة، وسَجن أكثر من 10 آلاف فلسطيني في ظروف قاسية.

قد لا يتمكن هذا القمع طبعاً من منع كلّ الهجمات على الأهداف الإسرائيلية، سواء داخل إسرائيل أم خارجها. بيد أن اندلاع العنف الفلسطيني بين الفينة والفينة سيُشجَب على الفور ويُعتبر «إرهاباً»، ما يُكسب إسرائيل تعاطفاً دولياً.

يذهب بعضهم إلى حدّ القول إن الأراضي الفلسطينية المحتلّة هي الموازي الإسرائيلي للضواحي المتمرّدة على تخوم المدن الفرنسية. فمثلما تهبّ هذه الضواحي بغضب من حين إلى آخر ويتم ّإخمادها، لن تجد إسرائيل أن الحفاظ على الهدوء في الأراضي المحتلة مسألة تتعدّى قدراتها، وإن كان ذلك يعني قتل بضع مئات من الأشخاص كلّ سنة.

ويشكّل وجود «حزب الله» و «حماس» على الحدود مع لبنان وقطاع غزّة المتاخمة لإسرائيل صعوبة أكبر لأنهما يسعيان إلى امتلاك القدرة على الردع عبر إيجاد «توازن رعب» مع إسرائيل. ولكنّهما في الأساس أكثر بقليل من مجرد حركتَي مقاومة للدفاع عن الذات، ويشكّلان إزعاجاً كبيراً للدولة اليهودية القوية من دون تشكيل خطر على وجودها.

في أي حال، يبدو أن القادة الإسرائيليين يعتبرون أن القليل من العنف العربي – والمراقبة الأمنية الدائمة المطلوبة لإبقاء هذا العنف ضمن حدود مقبولة – هو ثمن يستحقّ دفعه للسيطرة والاستيلاء التدريجي على فلسطين التاريخية كاملةً.

يُقال إن دافيد بن غوريون ذرف دموعاً مريرة على تفويت فرصة الاستيلاء على كامل الضفة الغربية وطرد ما بقي من السكّان العرب في العام 1948، عندما تمّ دحر الدول العربية. ومن الواضح أن خلفاءه لم يتخلّوا عن هذا الهدف على الإطلاق. فبقاء حدود إسرائيل غير مرسومة بشكل نهائي حتّى اليوم ليس مسألة بلا طائل.

مع إحكام سيطرة اليمين الديني المتطرّف على الحكومة الإسرائيلية وأخذها رهينةً بادّعائه أن «أرض إسرائيل» كلّها هدية من الله ولا يمكن التخلّي عنها، من غير المفاجئ أن يعجز إيهود أولمرت عن تفكيك نقطة غير شرعية واحدة، على الرغم من وعوده لجورج بوش الابن.

متّى تمّ القضاء على حلم الدولة الفلسطينية؟ قد يلوم المؤرّخون في المستقبل سنوات الإهمال السبع في عهد جورج بوش، فضلاً عن التأثير الكبير على إدارته الذي يمارسه المحافظون الجدد الموالون لإسرائيل والمعارضون تماماً لقيام دولة فلسطينية.

وأي دور كان في وسع الاتحاد الأوروبي الاضطلاع به لدفع عملية السلام العربي – الإسرائيلي قد تمّ التخلّي عنه حين قام توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، بشق أوروبا من خلال انحيازه إلى جانب المحافظين الجدد الأميركيين في الحرب على العراق. وبأي حال، يعتبر النزاع العربي – الإسرائيلي موضوعاً يقسم أوروبا بدلاً من ان يوحّدها. فألمانيا التي ما زالت تكفّر عن ماضيها النازي لا يمكنها أن تمارس أي ضغط على إسرائيل نيابة عن الفلسطينيين.

وخلال الزيارة الاخيرة للمستشارة الالمانية أنغيلا مركل إلى القدس بالكاد ذكرت الفلسطينيين المعذّبين باستثناء شجب «هجمات حماس الإرهابية». وقالت إن أمن إسرائيل من مسؤولية ألمانيا، «والتهديدات الموجّهة إليكم تهديدات موجّهة إلينا أيضاً».

كالعادة، كان الفلسطينيون أسوأ عدوّ لانفسهم. فقد عانوا من الخلافات فيما بينهم في معظم حقبات تاريخهم الحديث، منذ اختلفوا حول الطريقة الفضلى لمقاومة تدفق المهاجرين اليهود نحو فلسطين في الفترة الواقعة بين الحربَين العالميتين. واليوم أتى الصراع العنيف بين «حماس» و «فتح» في الوقت غير المناسب لحظوظ الفلسطينيين.

وإن تمكّنت «فتح» و «حماس»، نتيجة الوساطة اليمنية، من المصالحة في ما بينهما وإعادة تشكيل حكومة فلسطينية وطنية، ستستغلّ إسرائيل وجود «حماس» في الحكومة على الفور وتعلّق محادثات السلام. فأي حجة تكفي لوقف المفاوضات بالنسبة الى اولئك الذين لا يريدون السلام.

لا عجب بالتالي أن يكون الخيار المتاح امام الفلسطينيين هو بين الاستسلام الذليل والمقاومة المسلّحة. ففي الحالتين يبدو المستقبل قاتماً. لقد أصبح قيام الدولة الفلسطينية سراباً يتلاشى في البعيد كلما تم الاقتراب منه.

* كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط

الحياة – 28/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى