إرث بوش: أكبر الأذى للعرب
عبد الوهاب بدرخان
حرب غزة، الأكثر وحشية والأكثر مجازر والأكثر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والأكثر استخداماً لأحدث الأسلحة بعقلية العصر الحجري، كانت آخر حروب جورج دبليو بوش، الرئيس الأميركي، إيذاءً للعرب. هناك من يراهن على أنها ستكون آخر حروب الفلسطينيين، أما آخر حروب العرب ضد إسرائيل فلم يعد أحد يتذكر متى حصلت. ومنذ انخرط العرب في ما سمي “عملية السلام” انخرطت إسرائيل في حروب متقطعة سقط فيها من القتلى والجرحى بمقدار من سقطوا في حروب ما قبل كذبة السلام.
يغادر الرئيس الشرير البيت الأبيض اليوم من دون أن يقول للعالم، والأرجح من دون أن يفهم “لماذا” حصل ما حصل في 11 سبتمبر 2001، ولا لماذا انقلبت حرب أفغانستان ثم حرب العراق خيبة أمل لأميركا وللعالم بعد النجاحات العسكرية التي طبعت بداياتهما، بل إنه لم يفهم وبالتالي لم يشرح “لماذا” أهمل قضية فلسطين طوال سبعة أعوام، قبل أن يستفيق من السبات في العام الثامن لكن بلا أي جدوى أو فاعلية. إذ لم يكن جائزاً ولا مبرراً بناء استراتيجية ثأرية على مستوى العالم والثبات عليها، حتى بعد انكشاف ثغراتها. فالولايات المتحدة دولة عظمى، ومن المفهوم والمقبول أن تغضب وأن تعربد طالما أن الإرهاب ضربها في الصميم، لكن من غير المقبول أن تفقد عقلانيتها على النحو الذي شهدناه في تشريع التعذيب واحتقار الحريات والاستعداء المنهجي للشعوب والتوقف عن أن تكون الدولة القدوة والنموذج.
على العكس شكلت أميركا بوش، بمحافظيها الجدد سيئي الذكر، قدوة ومثالاً لأعتى أنواع الديكتاتورية كي تعمل على تدعيم مواقعها وقدراتها وحتى “شرعيتها”. لم تضع ضوابط لما سمته “الحرب على الإرهاب” لتقصرها على استهداف الإرهاب والإرهابيين، وكما أجازت لعملائها في كل مكان من قاعدة “باغرام” إلى معسكر الاعتقال في غوانتانامو إلى كل المعتقلات السرية أن يطلقوا العنان لنزواتهم الوحشية، فإنها ارتكبت الخطأ التاريخي الفادح حين طوَّبت إسرائيل شريكاً في تلك الحرب ناسية أنها دولة احتلال، وأن هناك قوانين ومعاهدات واتفاقات ومواثيق وأعرافاً كافحت البشرية للتوصل إليها في سبيل إخراج الحروب من العقلية البربرية، وشريعة الغاب، كذلك في سبيل حرمان أي قوة احتلال من أي شرعية. كل الحروب التي شنتها إسرائيل بعد 11 سبتمبر حرصت على تغطيتها بـ”مشروعية” انتزعتها من انفلاتات “الحرب على الإرهاب”، مستوحية حروب بوش.
لا حروب ولا مقاومة بل ذل تحت الاحتلال… هذه هي المعادلة الوحيدة التي تعامل بها جورج دبليو مع العرب، بل أضاف إليها أيضاً “لا سلام”، وبذلك ترك المنطقة العربية مفجوعة باحباطات داخلية وخارجية. ادَّعى محاربة التطرف لكنه بذل كل جهد لإذكاء هذا التطرف ووفّر له كل أسباب الاستمرار، مكشوفاً أو كامناً، ولم يدرك بوش، ولا أعوانه، في أي وقت أن التطرف الذي يخشونه ويطمحون إلى قتله موجود أمامهم ومتنكر بلباس الحليف، إنه التطرف الإسرائيلي الذي ينتهك كل القوانين والأعراف والمبادئ لحمايته ورعايته، إنه هذا التطرف الذي يحظى بتوقيع على بياض وتأييد أعمى وترخيص دائم للقتل بلا حساب.
هذا التطرف الإسرائيلي باق ومستثنى من أي محاربة أو مكافحة أو تشهير، على رغم أن جرائم الحرب التي ارتكبها بصفته تطرف دولة وليس مجموعات هامشية، وبصفته إرهاب دولة يملك ترسانة نووية. فكيف لا يُقابل بتطرف مضاد، وكيف يمكن معادلته بمجرد اعتدال عربي. تجربة غزة برهنت أنه حتى الاعتدال لا يكون فاعلاً إذا لم تكن له أسنان، هذا استنساخ عربي ودولي برسم الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، فإسرائيل وأمنها خط أحمر في سياسة أميركا، لكن إسرائيل وجرائمها باتت مشكلة إقليمية ودولية ينبغي النظر في تقنين عنفها وترويض جموحها الإرهابي. هذا التطرف هو الإرث البوشي الأسود الذي ينبغي أن يبرهن باراك أوباما أنه “نعم يستطيع تغييره”، ففي ذلك مصلحة للعالم وليس للعرب وحدهم.
لعل الخطوة الأولى في هذ الاتجاه تكمن في إعادة نظر سياسية ومفاهيمية في “الحرب على الإرهاب”، خصوصاً لأن قياس إنجازاتها إلى تخريباتها يرجح كفة السلبيات. وإذا كان أوباما يسعى إلى تحسين سمعة أميركا وصورتها في العالم، فإن مفتاح هذا الهدف يتطلب ضبط إسرائيل ووضع حد لـ”آلة القتل” التي تتصرف باسمها، وبالنيابة عنها. كان جورج بوش الأب دشن “عملية السلام” التي تعاملت إسرائيل معها على مضض، لكنها نجحت في إقناع جورج بوش الابن بدفنها، وتمكنت من جعل “رؤيته” لحل الدولتين مجرد كلام فارغ، لذلك فإن أوباما يواجه منعطفاً أمام خيارين: إما أن تتبنى أميركا خيار الحرب المستدامة الذي تريده إسرائيل عنواناً لوجودها، وإما أن تجنح مجدداً إلى خيار سلمي حقيقي ومتوازن. في أي حال سيستلزم الأمر سنوات طويلة لتنظيف آثار التركة القذرة التي خلفها “دبليو”.
جريدة الاتحاد