صفحات سوريةقضية فلسطين

جولة جديدة من النقاش الفكري والسياسي مع السيد سلامة كيله

كاظم حبيب
-1-
بدأ الحوار حول موضوع الحرب الدائرة في غزة ودور إسرائيل وحماس فيها , ولكنه اتخذ ابعاداً فكرية وسياسية جديدة. فقد كتب السيد سلامة كيله مقالاً نقدياً قمت بمناقشته , ثم واصل فكتب سلسلة من المقالات (5 حلقات) التي ناقش فيها العديد من الموضوعات التي طرحتها في مناقشتي له , أو بعض الذي لم أطرحه , وحول موقفي السياسي من الماركسية والمنهج المادي وفن الممكنات في السياسة والحزب الشيوعي العراقي وفهد , ومن ثم الموقف من الحرب وإسرائيل وحماس والقضية الفلسطينية …الخ. وبسبب وجود اختلاف كبير بين رؤيتي للكثير من الأمور التي طرحها السيد كيله , وجدت من المناسب خوض النقاش حول أبرز القضايا الفكرية والسياسية التي طرحها والتي تستوجب إبداء الرأي بشأنها والتي لا يجوز إهمالها. كما يمكن أن أعرج على بعض التعليقات التي أرى مفيداً الإشارة إليها , وسأبتعد عن كل ما يسيء إلى الحوار السياسي الموضوع والحضاري. وربما سأكتفي بهذا القدر من النقاش في تلك القضايا , إذ أن كلاً منا سيكون قد أبدى رأيه الذي يمنح القارئات والقراء فرصة الاطلاع على ما نريد إيصاله لهم. وسأحاول الإجابة عن السؤال المهم التالي : من أوصل القضية الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن؟ في أخر حلقة من هذه السلسلة. ولنبدأ الآن مع الحلقة الأولى من أفكار السيد سلامة كيله.
أؤكد مجدداً بأن الماركسية منهج علمي يستخدم لفهم الواقع من خلال تحليله واستيعاب حركة التاريخ والقوانين الموضوعية الفاعلة واتجاهات التطور واستخلاص النهج الذي يساعد المناضلين على العمل لتغيير ذلك الواقع نحو الأفضل والأرقى في سلم التطور الاجتماعي. والقدرة على استخدام هذا المنهج تعتمد على ثقافة ووعي الإنسان وعمق معرفته بالمنهج وقدرته على فهم حركة وفعل القوانين الاقتصادية الموضوعية وقوانين التطور الاجتماعي , إضافة إلى أهمية القدرة على تشخيص وإدراك فعل وتأثير العوامل الداخلية والخارجية على أحداث بلد ما أو منطقة من المناطق , سواء كان الأمر يمس العراق أم فلسطين أم أفغانستان أم منطقة الشرق الأوسط , على سبيل المثال لا الحصر. ومثل هذه الدراسة يفترض أن تكون ملموسة لتساعد المناضلين في نشاطهم الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي مع المجتمع ومن أجل ضمان توفير مستلزمات تحقيق عملية التغيير المنشودة في أوضاع بلدانهم وشعوبهم.
والماركسية طرحت منهجاً مادياً علمياً مفتوحاً لكل من يريد وقادر على استخدامه. ومن هنا يصح القول بأن لا يمكن ولا يجوز احتكار الماركسية من هذا الحزب أو ذاك أو من هذا الشخص أو ذاك. ويبقى استيعاب المنهج المادي والقدرة على استخدامه لا يتقرر مني ولا غيري لنفسه , بل يمكن أن يحدد يؤكد الواقع الذي نعمل فيه ومدى استفادة المناضلين من تحليلاتنا في المسيرة النضالية الصعبة والمعقدة في بلداننا بشكل خاص على مدى صواب أو خطأ تلك التحليلات والاستنتاجات. ولهذا أجد مناسباً أن أناقش النص التالي للسيد كيله:
“في هذا الوضع يمكن أن أقول بأن هذا الموقف ماركسي أو غير ماركسي، وهذه السياسة ماركسية أو غير ماركسية. لكن عبر التحليل والبحث وليس عبر أي شيء آخر كما يجري لدى البعض الذي لا يستطيع إلا أن يتعامل بالأحكام المطلقة، وبالتالي بالشتائم، وبتحويل السياسة والفكر إلى شتائم، استمراراً لـ “الدوغما” التي كانت تحكمه وهو شيوعي، حيث كان يكيل الشتائم لكل ناقد للاتحاد السوفيتي. وبالتالي استمراراً لـ “العقل” (أو اللاعقل) الذي كان يحكمه.” وقد كان في مقطع سابق قد ثبت ما يلي: “وبالتالي فليس نقاشي هنا من أجل أن “أنزع الشرعية الماركسية” عن د.حبيب أو عن غيره، فهذا ليس من حقي، لكن من أجل توضيح الرؤية الأسلم للواقع الراهن في إطار الصراع الفكري من أجل تحديد السياسة المطابقة للواقع التي يجب أن تحكم الحركة الماركسية”.
(الحوار المتمدن – العدد: 2523 – 2009 / 1 / 11 .الحلقة الأولى).
في هذا المقطع ثلاث مسائل تستوجب النقاش:
1 . يمكن للكاتب أن يبدي رأيه ويحكم على أراء غيره بأنها ماركسية أو غير ماركسية عبر التحليل لها ومن خلال اجتهاده , ولكنها يبقى هذا الرأي شخصي يحتمل الخطأ والصواب , وليس بالضرورة أن يكون الرأي صائباً , إذ أنه في ذلك يعبر عن اجتهاده وعن إمكانياته في استخدام المنهج العلمي في التحليل , كما يمكن أن يكون الآخر هو الأصوب في تحليله للواقع رغم النقد الذي يوجهه له ويعتبره غير ماركسي. ليست هناك مرجعية معينة في هذا الصدد, وإذا كان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بالنسبة للأحزاب الشيوعية (الأممية الثالثة) والعديد من قوى اليسار في العالم مرجعاً لهم , ولم يكن هذا الموقف صائباً بأي حال , فأن تطور الأحداث في العالم هو وحده القادر على تبيان مدى صواب أو خطأ هذا الرأي أو ذاك. المسألة هنا ليست تجريبية , بل أن التحليل لا يقتصر على فهم الواقع فقط وعلى فهم المنهج فقط , بل يعتمد على الخلفية السياسية والاجتماعية والثقافية والمصالح التي يلتزم بها هذا الحزب أو ذاك و÷ذا الشخص أو ذاك. والحكم لا يمكن أن أكون أنا أو أي شخص آخر , إذ لكل منا اجتهاده , بل الحكم هو مجرى الأحداث ومدى تطابقها مع تحليلاتي أو تحليلات غيري.
2 . أما عن الشتائم فهي ليست ذات نفع لأحد فحسب , بل هي مسيئة للطرف الذي يستخدمها وللحار أ النقاش الفكري الذي يدور بين الناس. وهذا جزء من تراث اللينينية والستالينية والفكر اليساري عموماً , ولكنه كان وسيبقى جزءاً من الفكر القومي والفكر البرجوازي أيضاً , ويعبر عن مرحلة فكرية وسياسية تجسد المراهقة وعدم النضوج , إذ أنها حيلة العاجز وليست قوة للمحاور. ولا زالت في البال شتيمة لينين لروزا لوكسمبورغ حيث عاهرة سياسياً حين وجهت في حينها نقداً صادقاً وصريحاً وشفافاً لمجالس السوفييت والتجربة البلشفية في كتابها عن “الثورة الروسية” الذي كتبته في معتقلها في العام 1918 وقبل الغدر بها بقتلها مع رفيقها كارل ليبكنخت في 15 كانون الثاني /يناير 1919 من قبل الجندرمة الألمانية في حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وبقرار أو موافقة أو سكوت مطبق على ارتكاب الجريمة من قبل وزير الداخلية الألمانية ممثل الحزب الاشتراكي الألماني گوستاف نوسكه. في مقدور الجميع ممارسة أسلوب الشتم الكل يستطيع أن يشتم , ولكن الشتائم لن توصل النقاش والحوار إلى النتائج المنشودة. ومارست قيادات الحزب الشيوعي السوفييتي والأحزاب الشيوعية الكثير من الشتائم إزاء من خالفها الرأي , ولكنها تبين أنها هي التي كانت على خطأ , ولم يساعد ذلك على تطوير الفكر الماركسي وتنوع الاجتهاد فيه. والإدانة لهذا الأسلوب واردة وصحيحة.
3 . من يمكنه تأكيد أن رؤيتك هي الأسلم للواقع الراهن وليست رؤية الآخرين الذين يختلفون معك في هذا الموقف أو ذاك. إن الادعاء بامتلاك الحقيقة برؤية الواقع الأسلم كان من الماضي , وهي الرؤية السوفييتية القديمة التي تنتقدها , فامتلاك الحقيقة والحق كان ملكاً للسوفييت وليس لغيرهم , وهو ما جرّ على كل اليسار البلاء الكثير. لا يمكن لأي منا الادعاء بامتلاك العقل والآخر يمتلك اللاعقل , فأنا أبدي رأيي وعلى الآخرين نقده وإبداء الرأي والحياة كفيلة بالبرهنة على مدى صواب أو خطأ ذلك , أو ربما عبر النقاش الهادئ والموضوعي والبعيد عن التشنجات التي تظهر في بعض التعليقات وما بين سطور الكاتب.
يتحدث السيد كيله عن كراس فهد ” حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية” ويعتبر “هذه التمييزات ليست من الماضي، ولن تكون كذلك، لأن الماركسية تخضع للتناقضات الطبقية، وبالتالي يميل البعض من الفئات الوسطى إلى تطويعها لمصالح هذه الفئات، أو حتى لمصلحة الرأسمالية”. هذا الكراس كتب في العراق في العام 1941/1942 وهو خطاب لا يعكس الصراع الفكري الذي كان يدور في العراق حينذاك , بل كان يعبر عن الصراع في إطار الحركة الشيوعية على صعيد الدول الرأسمالية المتقدمة , ولكنه أُلبس على واقع العراق حينذاك , ويمكنك أن تقرأ تلك الأفكار في مساهمة لينين (رسالة إلى رفيق) في إجابته أيضاً على أسئلة الرفاق. وكان الاستناد إلى النصوص اللينينية أو الستالينية والتقاليد الثورية للحركة الشيوعية أداة مهمة في إثبات أو التدليل على صحة الخط الذي يعتمده, وفي إثارة عاطفة وحماس الشيوعيين. لقد استند فهد في القسم الأعظم من هذا الكراس إلى جملة من إجابات لينين وعلى كتابات ستالين وخطاباته منذ عام 1925, أي حين بدأ ستالين تشديد صراعه ضد بعض قياديي الحزب الذين اتهمهم بالتحريفية والانتهازية أو بالخيانة للوطن والحزب. وتطرق فهد في هذا الكراس إلى النقاط التالية:
– الرسالة التاريخية للطبقة العاملة؛ – دكتاتورية البروليتاريا؛ – جوهر البلشفية؛ – الأمميات الثلاث, – وحدة النظرية والتطبيق؛ – الانتهازية, – الانحرافات اليمينية واليسارية في الحركة العمالية؛ – الفروق بين الحزب العلني والسري؛ – الكادر الحزبي والكادر القيادي, – الاتجاهات الاقتصادية في الحركة العمالية؛ – حل الأممية الشيوعية؛ – مسائل الإستراتيج والتكتيك؛ – التركيب الاجتماعي للعراق؛ – الطبقة العاملة ووعيها؛ – حلفاء الطبقة العاملة؛ …الخ. لقد اعتبرت هذه الموضوعات والحوارات حولها في تلك المرحلة من حياة الحزب والحركة الشيوعية العالمية الأساس المادي لبناء حزب شيوعي ماركسي – لينيني من طراز بولشفي جديد قادر على الصمود بوجه السلطة الرجعية وأجهزتها الأمنية والقوى الأجنبية المعادية للحركة الوطنية العراقية (راجع في هذا الصدد كراس ستالين “في سبيل تكوين بولشفي” 1935 لتجد مدى التطابق في الفكر والممارسة). ومتابعة كتابات الرفيق فهد تعيد الإنسان إلى مرحلة ثورية شديدة الحركة والحيوية من تاريخ العراق الحديث, حيث المناقشات والحوارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحتدمة, وحيث النضالات العنيدة في سبيل الديمقراطية والتقدم والاستقلال السياسي وضد الإمبريالية والفاشية والإقطاع والرجعية, وضد التخلف والفقر والاستغلال الأجنبي والإقطاعي في عراق الأربعينات. والمرحلة التي نحن فيها اليوم تختلف عن تلك المرحلة وبالتالي فأن ما جرى تأكيده حينذاك لا يعني بالضرورة صحيح في هذا اليوم. لقد كتب فهد هذا الكراس في بلد كانت الطبقة العاملة محدودة العدد والفلاحين يشكلون الغالبية العظمى من السكان والمجتمع تسوده العلاقات العشائرية وقانون العشائر , حيث لم تكن الطبقات الاجتماعية متبلورة بعد حينذاك. ولم يكن فهد في بعض ما كتبه في هذا الكراس على صواب في بعض خلافاته مع بقية قادة أو مناضلي الحزب الشيوعي العراقي أو الذين تركوا الحزب أو الذين طردوا منه بسبب تلك الخلافات.
ولا بد من الإشارة إلى أن الماركسية لا تخضع للتناقضات الطبقية , بل أن القوى الطبقية تسعى إلى الاستفادة منها لصالحها وتستخدمها لأغراض انتهازية , كما تفعل القوى القومية اليوم التي تريد ترحيل أفكارها إلينا وكأنها جزء من الفكر الماركسي.
-2-
يقول السيد كيله بأن د. حبيب “لا زال ينطلق كما كانت الحركة الشيوعية تنطلق منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين، من أن المرحلة تقتضي إقامة “العلاقات الإنتاجية الرأسمالية”. ألم تتطور العلاقات طيلة هذه العقود الستين من العلاقات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى الرأسمالية لكي نستمر في طرح الموقف ذاته؟ وهل كان هذا الموقف صحيحاً حتى وقتذاك؟”. (راجع مقال سلامة كيله. الحوار المتمدن – العدد: 2523 – 2009 / 1 / 11, الحلقة الأولى ).
الغريب في هذا الأمر أن السيد كيله يرى فهد مصيباً في كراسه حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية الذي كتب في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي , ولكنه يرى بأني لا أزال أنطلق من الثلاثينيات من القرن الماضي في بعض المسائل. ويقرن ذلك بالموقف من العلاقات الإنتاجية السائدة في ريف العراق. سوف لن أتحدث عن الأقطار العربية , إذ أن كلا منها يستوجب بحثاً وتحليلاً خاصاً به , بل أتحدث عن العراق.
لقد سادت العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في ريف العراق حتى سقوط النظام الملكي في العراق , وقد سمى الرفيق فهد النظام السياسي السائد في العراق بالنظام شبه الإقطاعي شبه الاستعماري , وكان مصيباً في هذه التسمية التي كانت تعبر عن طبيعة العلاقات السائدة في الاقتصاد والمجتمع العراقي وطبيعة التحالف السائد الحاكم حينذاك. ويمكن إثبات ذلك بتحليل واقع ملكية الأرض الزراعية في ريف العراق عموماً , ويمكن العودة في هذا الصدد إلى الكتاب القيم للراحل الأستاذ حنا بطاطو الموسوم “الطبقات الاجتماعية في العراق”. وفي أعقاب ثورة تموز 1958 صدر قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 , ثم صدرت جملة من التعديلات عليه , وخاصة في أعقاب انقلاب شباط/فبرار 1963 ألبعثي-القومي الفاشي , وكذلك في أعوام 1984 و1965 التي أضعفت مضامينه ونزعت عنه طبيعته الاجتماعية ودوره السياسي. وكل تلك التعديلات كانت ضد مصالح الفلاحين ولصالح ملاك الأراضي الكبار السابقين. في العام 1970 صدر قانون الإصلاح الزراعي الثاني برقم 117 , الذي كان من حيث المضمون أعمق من القانون الأول , ولكن تنفيذه كان سيئاً جداً وخاصة مع بدء الحرب العراقية-الإيرانية وما بعدها. وفي العام 1975 صدر القانون رقم 90 بشأن الإصلاح الزراعي في كُردستان العراق “منطقة الحكم الذاتي” بهدف كسب الفلاحين الكرد إلى جانب النظام بعد المساومة المخزية للنظام مع شاه إيران في اتفاقية الجزائر حيث تنازل العراق عن نصف شط العرب وعن جزء مهم من الأراضي العراقية الحدودية لصالح إيران بهدف ضرب الحركة الكردية المسلحة بقيادة الملا مصطفى البارزاني. وكان هذا القانون من حيث المضمون أفضل من القوانين اسابقة بشأن المنطقة , ولكن هو الآخر واجه تخلفاً في التطبيق , إذ كان النظام بحاجة إلى تأييد جمهرة الأغوات وليس الشعب الكردي.
من المفيد أن أشير إلى أني أتحدث عن معرفة مباشرة بالمسألة الزراعية وواقع الريف العراقي , رغم اختلافاته وتنوع العلاقات فيه , وعن طبيعة العلاقات الإنتاجية لأسباب ثلاثة: 1) إصداري لكتابين عن هذا الموضوع ومجموعة كبيرة من البحوث والمقالات المنشورة في السبعينات وما بعدها. وأحد هذين الكتابين صدر بالاشتراك مع الدكتور مكرم الطالباني؛ و2) تدريسي لمادة الإصلاح الزراعي والاقتصاد الزراعي في الجامعة المستنصرية لعدة سنوات ؛ و3) كنت عضواً متفرغاً في المجلس الزراعي الأعلى منذ العام 1975 حتى العام 1978 حيث تم اعتقالي من قوى الأمن العراقية بقرار من صدام حسين وإحالتي على التقاعد من دون تقاعد , إضافة إلى قيامي بزيارات ميدانية إلى الريف واللقاء بالفلاحين والجمعيات الفلاحية. وهناك الكثير من الكتب الصادرة عن كتاب ديمقراطيين وشيوعيين ويساريين حول نفس الموضوع التي تؤيد ما أذهب إليه في هذا الصدد , ومنها كتاب الدكتور الراحل طلعت الشيباني والأستاذ عزيز سباهي. ويمكن العودة في هذا الصدد إلى الحوارات الشيقة الي جرت بين صديقي العزيز والأستاذ الفاضل الدكتور سيار الجميل وبيني بشأن هذه الموضوعات , بما فيها المسألة الزراعية والعلاقات الإنتاجية في العراق.
خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية وحرب الخليج الثانية وفترة الحصار الاقتصادي تراجع النظام العراقي عن سياسة الإصلاح الزراعي كلية ليكسب ثقة شيوخ العشائر والاعتماد عليهم في السيطرة على الريف وكبح جماح الفلاحين وفي السيطرة عليهم والحصول على مساعدة هؤلاء الشيوخ لتجنيدهم لحروب النظام. وهنا عادت العلاقات الأبوية والعلاقات العشائرية وعلاقات الإنتاج التي تعتمد على العلاقة الاستغلالية القديمة بين مالك الأرض أو المستحوذ عليها , وبين الفلاح الكادح والفقير , رغم قلة من تبقى منهم في الريف.
لا شك في أن العلاقات الإقطاعية والعلاقات شبه الإقطاعية على الصعيد العالمي قد انتهت حقاً ومنذ عقود كثيرة , ولكنها لم تنته في كل الدول النامية , رغم أن ليس لمثل هذه العلاقات من مستقبل , بل هي بالية وسائرة نحو الزوال كلية , ولكن لا يمكن نكران وجودها في دول غير قليلة من دول العالم الثالث ومؤثرة على مجمل الاقتصاد الوطني واتجاه تطوره فيها وعلى سياساتها العامة. فوجودها وعدم وجودها لا يخضع لمجرى التطور الدولي وحده , بل يخضع للواقع المحلي السائد في العراق بالأساس , ولهذا من غير الواقعي الحديث عن علاقات رأسمالية في ريف العراق , بل العلاقات السائدة هي ما قبل الرأسمالية وهي المؤثرة حتى على حياة المدينة التي تراجعت بقوة بعد إسقاط النظام ألبعثي ألصدامي عبر الحرب واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية والبريطانية بشكل خاص باسم التحالف الدولي وإصدار قرار بهذا الاحتلال في العام 2003 من جانب مجلس الأمن الدولي والذي رُفض من الغالبية العظمى من الشعب العراقي ومن قواه السياسية , بل حتى من تلك القوى التي أيدت الحرب الأمريكية ضد النظام. وخلال السنوات الست المنصرمة التي أعقبت سقوط النظام كتبت الكثير من البحوث والمقالات بهذا الصدد. كم هو ضروري أن يذهب السيد كيله إلى العراق وإلى المدن الهامشية التي أقيمت حول محيط بغداد وأصبحت تدريجاً جزءاً منها ليطلع على أوضاع الناس هناك مثل مدينة الثورة في بغدا ليدرك طبيعة العلاقات الاجتماعية و”دور المرجعية العشائرية والمرجعية الدينية الطائفية” فيها ليقتنع بصواب ما اقوله حول بقايا تلك العلاقات على الوضع السياسي والاجتماعي العراقي. النظرية والتطور الدولي شيء والواقع القائم في العراق شيء آخر. إن المرحلة الراهنة تشير إلى ازدهار العشائرية والانتماء العشائري على حساب المواطنة العراقية المتساوية ويسعى الكثير من المسئولين إلى تكريسها , بمن فيهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وهي إشكالية ستكون لها عواقب سلبية على اتجاهات تطور المجتمع المدني في المستقبل ما لم تتخذ إجراءات جدية لتغيير القاعدة الاقتصادية في العراق وعلاقات الإنتاج البالية.
والمهمة التي تواجه الشعب العراقي وقواه الديمقراطية تتلخص في كيفية التخلص من بقايا هذه العلاقات البالية من خلال الوعي بالواقع القائم في مناطق العراق المختلفة وبالقوانين الاقتصادية الموضوعية الفاعلة والمحركة لوجهة التطور في الاقتصا والمجتمع العراقي , لكي يمكن إدخال العلاقات الإنتاجية الرأسمالية إلى الريف العراقي أيضاً , كما يفترض السعي لإدخالها في الصناعة أو في عموم اقتصاد المدينة. ورغم أن العلاقات الرأسمالية ذات طبيعة استغلالية , إلا أنها أكثر تقدماً في سلم التطور من العلاقات الأبوية أو شبه الإقطاعية وفي ظل العشائرية السائدة في العراق في الريف وفي المدن الهامشية المحيطة بالمدن العراقية التي نشأت بفعل الهجرة الفلاحية غير المنظمة والعفوية إلى المدن العراقية خلال الخمسين سنة المنصرمة. لا أدري كيف يمكن الحديث عن الاشتراكية في ظل الأوضاع السائدة في العراق؟
إن إنجاز مهمات النضال ضد الوجود الأجنبي وتطبيق الإصلاح الزراعي والتصنيع والاستثمار العقلاني للنفط الخام والغاز ومواردهما المالية ورفع مستوى حياة ومعيشة العائلات العراقية ومكافحة الفساد والبطالة … الخ كان وسيبقى ضمن المهمات الوطنية والديمقراطية ذات المضمون السياسي والاجتماعي التي تواجه العراق , وهي ليست مهمات اشتراكية , بل مهمات وطنية وديمقراطية. وهذه المهمات يمكن أن تتحقق جزئياً أو كلياً عبر فئات اجتماعية عديدة , رغم التباين المحتمل في عمق الطابع الاجتماعي والسياسي الديمقراطي عند التطبيق. إذ يمكن أن تحققها البرجوازية المتوسطة أو البرجوازية الصغيرة أو الطبقة العاملة لأنها مهمات عامة ومشتركة , رغم احتمال التباين في المصالح التي تتحقق لكل من هذه الفئات. أو بتعبير أدق يمكن ان تسعى هذه الفئات إلى تنفيذها من خلال الأحزاب البرجوازية المتوسطة والبرجوازية الصغيرة والأحزاب اليسارية , بضمنها الحزب الشيوعي العراقي مثلاً. والسؤال هو : هل سيكون في مقدور هذه الفئات الاجتماعية وأحزابها السياسية إنجاز تلك المهمات؟ هذه مسألة أخرى , إذ في حالة عدم التنفيذ أو التخلف فيه يفترض النضال الفكري والسياسي لإنجازها. لا شك أن القضية التي عولجت وطرحت في مقالاتي السابقة لم تبحث في من ينفذ تلك المهمات, بل كان الحديث يجري عن مهمات المرحلة والقوى ذات المصلحة في تحقيقها , بغض النظر عن مدى استعدادها أو عجزها عن ذلك. التياسر في طرح الشعارات , يعكس في الجوهر التيامن وليس غير ذلك باعتباره هروباً إلى أمام , إذ أنه يبعد القدرة على التعاون لتحقيق المهمات وإهمال فئات كثيرة تضطر هي الأخرى إلى إهمال قوى اليسار أيضاً , ومثل هذا الإهمال المتبادل ليس في صالح التحالفات الاجتماعية والسياسية المرحلية المهمة لإنجاز المهمات , كما أنها ليست في صالح التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والبيئية الضرورية للعراق مثلاً.
العلاقات الإنتاجية البالية التي لا تزال موجودة في ريف العراق ليست مسألة نظرية لا يمكن متابعة وجودها وتشخيصها على أرض الواقع , فهي موجود وتفقأ العين , وبالتالي رفض الاعتراف بها لا يغير من حقيقة وجودها ودورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية , إضافة إلى الحياة السياسية , بل يضعف القدرة على النضال ضدها. صحيح جداً أن مرحلة العولمة الرأسمالية الراهنة والمنجزات العلمية والتقنية وثورة المعلومات والاتصالات يمكنها أن تساهم في دفع وتسريع عجلة التطور في البلدان النامية , إلا أن هذا يتطلب العمل من جانب شعب هذا البلد أو ذاك وقواه السياسية الديمقراطية لاستثمار الفرص المتاحة لتطوير حياتها الاقتصادية والاجتماعية وتقليص الآثار السلبية لسياسات العولمة التي تمارسها بإصرار الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة على اقتصاديات الدول النامية , ومنها العراق , والذي يتجلى في سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية الحرة.
لم تكن مهمة التخلص من العلاقات شبه الإقطاعية لصالح العلاقات الإنتاجية الرأسمالية خطأ في نضال الشيوعيين والديمقراطيين العراقيين لأن ذلك كان يقع في إطار المهمات المرحلية , ولكن لا يشترط ولا يحدد هذا النضال بالضرورة من يفترض أن يكون في الحكم ليحقق تلك المهمات , رغم أن الأحزاب الشيوعية في دول الشرق الأوسط , ومنها الدول العربية والعراق , لم تكن قادرة على تسلم السلطة لكي تنفذ تلك المهمات. وحين حاولت حرق المراحل بالفكر والسياسة سقطت في مطب طريق التطور اللاراسمالي الذي جرَّ على العراق الكثير من المشكلات بما فيه التحالف مع البعث الذي مارس الجريمة البشعة في العام 1963 , ثم مارسها مرة أخرى بعد عودته إلى السلطة ثانية في العام 1968. وطريق التطور اللاراسمالي هو من تصورات “الحزب الشيوعي السوفييتي وكادره العلمي السياسي!” الذي أخذت به الكثير من الأحزاب الشيوعية وبعض قوى اليسار ووأحبطت به.
لا أستطيع أن أحلق في فضاء التطور الاقتصادي الرأسمالي العالمي لأرى واقع العراق الاقتصادي , بل علي أن أنطلق من هذا الواقع لأحلق في فضاء العالم المعولم لأرى كيف يمكن الاستفادة منه لصالح تقدم العراق , دون أن أنسى العودة إلى أرض الواقع العراقي مثلاً.
يبدو لي أن السيد كيله لم يدرك حتى الآن ما فعله الدكتاتور صدام حسين ودكتاتورية البعث الدموية خلال سنوات حكم البعث الصدامي بالعراق وما خلفاه من تركة ثقيلة في الوضع النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والبيئي , هذه التركة التي كانت نتاج سياساته المناهضة لمصالح الشعب العراقي بكل مكوناته القومية , كما أنها نتيجة حروبه ضد إيران (حرب الخليج الأولى 1980-1988) , وغزو الكويت (1990), ثم حرب الخليج الثانية في العام 1991 , وبعدها حرب الخليج الثالثة في العام 2003 والحصار الاقتصادي الدولي الظالم الذي فرضته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق منذ العام 1990 واستمراره طيلة 13 عاماً , كل ذلك قد أعاد العراق إلى فترة ما قبل التصنيع , إلى سنوات العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين , وإلى أبعد من ذلك بالنسبة للعلاقات العشائرية والهوية الطائفية المريعة. وإذا كان التراجع على الصعيد العالمي غير ممكن بسياقات قوانين التطور الاجتماعي , فأن التراجع ممكناً في مسيرة التطور في بلد أو أكثر (حركة زگزا گية صعوداً أو هبوطاً” , وهذا بالضبط هو الذي جرى ويجري في العراق خلال العقود الأخيرة.
يتساءل السيد كيلة: ألم تتطور العلاقات طيلة هذه العقود الستين من العلاقات الإقطاعية أو شبه الإقطاعية إلى العلاقات الرأسمالية؟ السيد كيله لا يريد , أو لا يستطيع , بحكم الفكر القومي الذي يحمله ويتجلى في طروحاته , سواء أقر بذلك أم رفضه , أن يرى أن حركة التطور قد تخلفت وتراجعت عقوداً عدة. كما أنه لا يريد , أو لا يرغب , أن يرى الفجوة الكبيرة بين مستوى التطور وتقدم حضارة الغرب وبين مستوى التخلف في الدول العربية وكذا العراق , والتي تفاقمت في العراق بعد سياساته وحروب النظام المريرة.
كم أتمنى أن لا يحلق القوميون العرب , اليساريون منهم واليمينيون , ومنهم السيد كيله , بغض النظر عن الرداء الفكري اليساري الذي يرتدونه حسب الموقف , إذ أن المحدد لسياساتهم ومواقفهم التحليق في الفضاء دون أن تمس أقدامهم أرض الواقع. كم أتمنى عليهم أن لا يعمدوا إلى رسم سياسات غير واقعية ثم محاولة فرضها على الشعب العراقي. والسؤال الذي يراودني هو: هل يعتقد السيد كيله حقاً , وفي ظل الأوضاع الراهنة في عراق ما عبد الدكتاتور وسيادة الطائفية ووجود قوى أجنبية .. الخ , أن على الحزب الشيوعي العراقي , ومعه قوى اليسار الأخرى , رفع شعار أخذ السلطة وطرح شعار الاشتراكية بدلاً من الرأسمالية في وقت لا تزال كل القوى الديمقراطية العراقية مفتتة ومتناحرة أحياناً غير قليلة وبعضها يتنافس مع البعض الآخر للحصول على مقاعد مجالس المحافظات بدلاً من التوافق في ما بينها , وفي وقت لا يزال الشعب العراقي يعاني من عهد الدكتاتور الدموي (35 سنة) من نواحي الوعي السياسي والاجتماعي والغيبيات السائدة ودور المرجعيات المعروفة؟ أتمنى أن لا يكون كذلك!
علينا جميعاً أن نكون واقعيين , ولن ينفع اتهام اليسار العراق باللبرالية , فهم حين يدعون إلى تنشيط القطاع الخاص والقطاع المختلط أو القطاع الأجنبي إلى جانب قطاع الدولة فهذا لا يعني أنهم ليبراليون , وحين يناضلون في سبيل الخلاص من الطائفية السياسية والقومية الشوفينية عند بعض القوى العربية وضيق الأفق القومي عند بعض القوى الكردية أو التركمانية , لأنهم يدركون مدى مخاطر ذلك على المجتمع وعلى مستقبل العراق , وحين يناضلون ضد العلاقات الإقطاعية , فهذا لا يعني أنهم ليبراليون لأنهم يتحدثون عن العلاقات الرأسمالية وليس العلاقات الاشتراكية , وبالتالي لا بد لنا جميعاً أن ندرك بأن القوى اليسارية تريد أن تعيد ثقة الجماهير بها وتلعب دورها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والبيئية المدمرة , إضافة إلى الحياة الاقتصادية , ومن خلال ذلك تسعى إلى تحقيق المهمات , سواء أكانت مشاركة في السلطة أم خارجها , وكلما أمكن مشاركة اليسار العراقي في السلطة وفق قراراتها المستقلة , كلما أمكن جعل السياسات أكثر واقعية وأكثر عمقاً وأكثر ضماناً لمصالح الكادحين والمنتجين في العراق , شريطة أن تكون المشاركة في الحكم تخدم مصالح الشعب والتقدم وتكافح ضد الاحتلال والتسلط والدولة الدينية وضد الفساد والبطالة وبؤس الفئات الاجتماعية ..الخ.
إن الطريق طويل , ولكن لا بد من خوض النضال وهو آت لا ريب فيه!
-3-
بدأت إشكالية الحركة الاشتراكية العالمية مع بدء التباين في مواقف قيادات الحركة الاشتراكية العالمية إزاء الحرب الاستعمارية الأولى , حرب إعادة توزيع مناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية وإنهاء وجود الدولة العثمانية بين عامي 1914-1918 , ثم سقوط القيصرية في العام شباط/فبراير 1917 وتشكيل حكومة كيرنسكي. وبعد عدة شهور , أي في أكتوبر من العام 1917 , قام البولشفيك بقيادة لينين بالثورة على حكومة كيرنسكي واسقطوا نظامه وأقاموا الدولة السوفييتية الفتية. وفي هذا الفترة تعمق الخلاف بين قطبي الحركة الاشتراكية المنشفيك والبولشفيك , وظهرت تدريجاً الأحزاب الشيوعية , خاصة عصبة سپارتاكوس بقيادة روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت , والذي تحول فيما بعد إلى (الحزب الشيوعي الألماني) في العام 1918 , وهي التي سمحت في العام 1919 بتشكيل الأممية الشيوعية تحت توجيه وإشراف وقيادة فلاديمير إيليچ لينين.
لقد لعب لينين دوراً ثورياً كبيراً من الناحيتين النظرية والعملية في الثورة الروسية وفي الدفع باتجاه بروز الحركة الشيوعية (الأممية الثالثة) والدفع باتجاه تشكيل الأحزاب الشيوعية في المزيد من بلدان العالم لتوسيع الحركة ومواجهة الأحزاب الاشتراكية للأممية الثانية وللتضامن مع الدولة السوفييتية الجديدة وتقديم الدعم الدولي لها. إلا أن لينين كان قد بدأ عملياً وقبل ذاك بسنوات بـ “روسنة” الفكر الماركسي من خلال نشاطه الفكري والعملي حول الثورة الروسية وكتاباته الكثيرة في هذا الصدد. ولم يكن في هذا أي خلل حين تقرأ الماركسية في ضوء ظروف كل بلد من البلدان. ولكن الخلل برز حين صدر لينين الفكر الماركسي المروسن (من روسية) إلى العالم كله عبر مؤتمرات الحركة الشيوعية أو أحزابها الجديدة لتكون هادية لها ومرشدة لنضالها. وفي العام 1919/1920 أدرك لينين الأخطاء التي ارتكبها الحزب بقيادته وتنظيراته بشأن البناء الاشتراكي في دولة سوفييتية لا تزال متخلفة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ووعياً شعبياً. وهنا عمد إلى طرح برنامج “سياسته الاقتصادية الجديدة” (نيپ) في العام 1920 والذي أدرك فيها أهمية عدم قفز المراحل وحرقها , بل لا بد من إنجاز مهمات الثورة الديمقراطية بقيادة الحزب الشيوعي السوفييتي. ولكن لينين لم يستطع تغيير الوجهة العامة للحزب والدولة السوفييتية , إذ سرعان ما تمرض وأُبعد تدريجاً عن قيادة وتوجيه الحزب فكرياً وسياسياً من الناحية الفعلية منذ العام 1922 تقريباً ليحل محله عملياً وقبل وفاته في العام 1924 بفترة طويلة , جوزيف ستالين. إن خطأ السياسة السوفييتية لم يبرز على الصعيد الروسي حسب , بل وعلى الصعيد الدولي حين تصور لينين وأغلب قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي قرب نهاية الرأسمالية وقرب إمكانية بناء الاشتراكية وتصدير هذا الفكر إلى العالم كله. لقد كان هروباً إلى أمام بكل معنى الكلمة.
لا يمكن الادعاء بأي حال بأن الفكر اللينيني قد أُبعد عن الدراسة والتثقيف في المدارس الحزبية والجامعات والتثقيف العام لصالح فكر ستالين , إذ أن ستالين كان نفسه لينينياً واعتمد اللينينية في الممارسة العملية , ثم طرح أفكاره الخاصة بما يخص بناء الحزب والدولة والمجتمع الاشتراكي والفرد البولشفي (راجع كراس في سبيل تكوين بولشفي لجوزيف ستالين 1935). وكانت إضافاته هزيلة وصدى باهت لأفكار لينين من الناحية النظرية , ولكنها كانت تعتمد القوة والقمع والقسوة في الممارسة العملية. ولقد تشوهت في الممارسة حتى تلك الأفكار السليمة والعبقرية للينين. لقد مارس ستالين العنف وليس الطوعية في الموقف من التحولات الاقتصادية والاجتماعية , سواء أكان ذلك بالنسبة إلى المسألة الزراعية وبناء الكولخوزات والسوفخوزات (كان لينين يدعو إلى الطوعية في الانتماء أو في تشكيل هذه المنشآت) , أم بشن حملة عنف فعلي ضد الكولاك وأغنياء ومتوسطي الفلاحين لصالح تشكيل الجمعيات التعاونية والمزارع الحكومية , أم بالنسبة للموقف من القطاع الخاص والقطاع الحكومي , أم بالنسبة لجرائم القتل والسجن والنفي بالنسبة لمخالفي وجهات نظره ومنتقدي افكاره وسياساته التي لم تعد سراً على أحد , بل فضحها القادة السوفييت أنفسهم ومنذ الخمسينات. ثم تم الكشف عن الكثير من جرائم ستالين فيما بعد ونشر وهي موثقة. لقد كانت هناك مدرسة فكرية لينينة في الجانبين النظري والعملي لكل الحركة الشيوعية العالمية , للأممية البروليتارية , الأممية الثالثة , وليس للحزب الشيوعي السوفييتي وحده , وهي التي حققت شيئاً استثنائياً في الجانب الفكري , حيث حولت الفكر الماركسي أو النظرية الماركسية إلى شيء أشبه بالدين , وإلى عقيدة جامدة حقاً وامتلاك الحقيقة كلها والحق في امتلاك واحتكار الصواب كله , وإلى أصولية قاهرة بدلاً من جعلها فكراً متحرراً ومفتوحاً ومتفاعلاً مع الأفكار والتيارات الفكرية الأخرى ومنهجاً متطوراً بتطور مختلف العلوم والتقنيات والاكتشافات العلمية على الصعيد العالمي.
إن فشل المدرسة السوفييتية في الفكر والسياسة السوفييتية والنموذج السوفييتي وما ماثلها في الدول الاشتراكية الأخرى والأحزاب الشيوعية التي لم تكن في الحكم , لا يعني بأي حال فشل المنهج الماركسي أو المنهج المادي العلمي المتطور كأداة للتحليل أو فشل الفكر الاشتراكي بشكل عام. فالفكر الماركسي يرفض الاستغلال والاستعباد وقهر الإنسان والاستعمار والاضطهاد القومي ويدعو إلى الحرية والديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولهذا لم يكن فرنسيس فوكوياما في كتابه الموسوم “نهاية التاريخ” على صواب , إذ سرعان ما تراجع عنه , حين تراءا له بأن الاشتراكية ماتت وأن الرأسمالية انتصرت وإلى الأبد , إذ لا يمكن تصور العالم دون حركة دائبة وتطور مستمر وتغيير غير منقطع , كما لم يكن الراحل صموئيل هنتنكتون على صواب حين حاول إبعاد الأنظار عن الصراع الطبقي , عن الصراع بين العمل ورأس المال , واعتبار أن الصراع قد أصبح يدور في المجال الديني , صراع بين أتباع الأديان , وخاصة صراع الحضارة المسيحية الغربية ضد الحضارة الإسلامية الشرقية , أو صراع المسيحيين ضد المسلمين بشكل خاص , كما تجلى وورد في كتاباته التي نشرت منذ أوائل التسعينات , ثم في كتابه الموسوم “صدام الحضارات” الذي صدر في العام 1996.
لقد لعبت الأحزاب الشيوعية في الدول العربية وفي عموم منطقة الشرق الأوسط دوراً مهماً وكبيراً في نضال شعوبها باتجاهات عدة , فقد:
1 . شاركت بفعالية وطليعية في عملية التنوير والتوعية الفكرية والسياسية في مجتمعات كانت في الغالب الأعم متخلفة اقتصادياً ويسيطر على شعوبها الفكر الديني الغيبي والخرافات والمؤسسة الدينية المحافظة؛
2 . وشاركت بفعالية في النضال ضد الهيمنة الاستعمارية الأجنبية وحققت مع القوى الأخرى والجماهير الشعبية نجاحات مهمة على هذا الطريق؛
3 . كما شاركت في النضال من أجل حل المسألة الزراعية لصالح فقراء وصغار الفلاحين لتصفية العلاقات الإنتاجية الأبوية وشبه الإقطاعية الاستغلالية المتخلفة؛
4 . وشاركت في النضال من أجل بناء حياة سياسة حرة وديمقراطية وحياة دستورية مؤسسية؛
5 . وشاركت في النضال من أجل تحرير المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل ودورها في الحياة العامة؛
6 . كما ناضلت من أجل التصنيع باعتباره الأساس المادي للتنمية الاقتصادية المستديمة وضد تشوه البنية الاقتصادية الوحيدة الجانب وضد الاستغلال والبطالة والفقر والحرمان؛
7 . وناضلت من أجل تغيير البنية الاجتماعية المتخلفة لصالح نشوء الطبقات والفئات الحديثة , الطبقة العاملة والبرجوازية الصناعية , وتوسيع قاعدة المثقفين ودورهم في الحياة العامة؛
8 . وعملت من أجل تعزيز العلاقات بين شعوب ودول العالم العربي والتضامن النضالي لتحريرها وانتزاع سيادتها واستقلالها الوطني , ومن أجل التنسيق والتكامل الاقتصادي.
9. كما ناضلت ضد الصهيونية منذ تأسيسها وساندت نضال الشعب الفلسطيني في سبيل التخلص من الهيمنة البريطانية وإقامة الدولة الفلسطينية العلمانية حيث يعيش أتباع كل الديانات تحت شعار ” الدين لله والوطن للجميع “.
10 . وفي هذا النضال قدمت كل الأحزاب الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط , ومنها بشكل خاص الحزب الشيوعي العراقي , التضحيات الكبيرة من أجل تلك الأهداف النبيلة و من أجل مجتمع أفضل وحياة أكثر سعادة وبهاءً وعدالة وسلاماً. وقد كانت السجون العراقية مليئة بمناضلي هذا الحزب ومؤيديه , وبشكل خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ولكنها في الوقت نفسه ارتكبت بعض الأخطاء في هذا النضال , وليس هناك من حزب سياسي يناضل في بلد مثل بلداننا لا يرتكب بعض الأخطاء صغيرة كانت أم كبيرة. وأبرز تلك الأخطاء علاقة تلك الأحزاب بالمرجعية السوفييتية التي لم تساهم في تعزيز استقلاليتها ودورها الفكري والسياسي , بل ساهمت بقوة في خلق أو نشوء إتكالية فكرية وسياسية كبيرة وغير اعتيادية من خلال الاعتماد على الفكر والسياسة التي أنتجها مركز الحركة الشيوعية , الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والمؤسسات الفكرية السوفييتية أو الأخذ بمبدأ دكتاتورية البروليتاريا. لقد أدت هذه الاتكالية إلى خمول وكسل فكريين لدى قادة وكوادر الأحزاب الشيوعية وإلى ضعف المبادرة في التفكير واكتشاف الجديد والتحليل المستقل بما يتناغم وواقع بلدانهم بشكل عام. ولم تكن هذه الحالة عامة وشاملة , إذ كانت هناك استثناءات واضحة. فسياسة فهد الداخلية وصياغته لشعارات الحزب النضالية وربطه القضايا الوطنية العامة بمصالح الفئات الاجتماعية كانت معبرة بصورة دقيقة عن واقع العراق الفعلي , في حين كانت سياساته وماقفه الأممية أو الدولية متطابقة مع السياسات السوفييتية , رغم أنها لم تكن بالضرورة متطابقة مع الواقع والحاجة العراقية.
لا شك في أن مرجعية الأحزاب الشيوعية للكومنترن والأممية الثالثة , رغم حل الكومنترن في العام 1942 , كان يعني مرجعية الحزب الشيوعي السوفييتي للحركة الشيوعية كلها , وكان هذا الموقف خطأ فادحاً بالنسبة للحركة الشيوعية , إذ أن الدولة السوفييتية كانت تُخضع تلك المرجعية الشيوعية لصالح سياساتها الدولية والإقليمية وليس بالضرورة لصالح الحركة الشيوعية أو لهذا الحزب أو ذاك في البلد المعني , وهذا ما حصل فعلاً في فترة حكم البعث , على سبيل المثال لا الحصر , حيث كانت العلاقات السوفييتية مع الدولة البعثية في العراق وعلاقات الحزب الشيوعي السوفييتي مع حزب البعث هي الأخرى متينة حتى حين أنهى حزب البعث تحالفه مع الحزب الشيوعي العراقي بالقوة , إذ مرّ خلال ثلاث سنوات أكثر من 100 ألف عراقية وعراقي بمعتقلات وأجهزة أمن النظام حيث أُجبر الحزب الشيوعي العراقي على مغادرة “الجبهة الوطنية والقومية التقدمية” وإنهاء التحالف على طريقة “أخاك مجبر لا بطل!”, ولكن الحزب الشيوعي العراقي لم يلتزم بالموقف السوفييتي ولم يأخذ بنصيحة الحزب الشيوعيي السوفييتي , الأخ الأكبر , بضرورة العودة إلى التحالف مع البعث والدولة البعثية , بل رفع السلاح بوجه حزب البعث وحكمه لحماية رفاقه ونفسه وشارك مع القوى الوطنية الأخرى , ومنها الأحزاب الكردستانية وبعض القوى العربية والآشورية في النضال ضد حكم البعث الصدامي الإجرامي , الذي التزمته بعض القوى القومية العربية , وبشكل خاص المؤتمر القومي العربي , ونست أو تناست جرائمه بحق الشعب وشوفينيته وعنصريته وأساليبه السياسية والقمعية الفاشية التي طالت قوى قومية وقوى بعيثية أيضاً. لقد واجهت الأحزاب الشيوعية الكثير من المصاعب وعانت منها في ظل تلك الأوضاع السيئة التي سادت في الدول العربية وغياب الحياة الدستورية الديمقراطية. ونتيجة لتلك التعقيدات والأوضاع وبسبب المرجعية السوفييتية بشكل مباشر أو غير مباشر , ارتكبت الأحزاب الشيوعية في الدول العربي العديد من الأخطاء , ولكنها ساهمت بالكثير من الجوانب المشرقة في النضال الوطني والقومي. ولكن هكذا نشأت هذه الأحزاب في ظل الأممية الثالثة وتحملت عبء الدفاع عن الدولة السوفييتية الفتية في ظل أهداف هذه الدولة التي عكست مع نهوضها حلم البشرية في التخلص من الاستغلال والفقر والفاقة والعيش في أجواء الحرية والديمقراطية والسلام. ومن المؤسف أن هذه الدولة , وكذلك الدول الديمقراطية الشعبية المماثلة لها التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وكانت أعضاء في مجلس التعاضد الاقتصادي , لم تلتزم بذلك الحلم الإنساني النبيل بل أخلت بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , ومن ثم أخلت بالعدالة الاجتماعية , الذي كان شعارها الأول , وحولت أحزابها ودولها إلى خدمة البيروقراطية الحزبية والحكومية , خدمة النخبة الحاكمة التي أدانتها منذ البدء روزا لوكسمبورغ , إذ رأت فيها بنظرة ثاقبة ما يمكن أن يحصل في بلد متخلف يريد بناء الاشتراكية بإقلية حزبية. وهذا الاتجاه في المدرسة اللينينية , هو الذي هيمن على هذه الأحزاب والدول وهو الذي ألحق أفدح الأضرار بالفكر الماركسي واساء على منهجه العلمي , إذ باسمه جرى كل ذلك , في حين أن هذه الأحزاب في الدول الاشتراكية لم تلتزم بالمنهج الماركسي , بل التزمت بالفكر اللينيني والستاليني حتى بعد إدانتها للفكر الستاليني وممارساته الإرهابية بحق الشعوب السوفييتية وبحق الشيوعيين الألمان وهيمنته الفعلية على سياسة الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية فيها , وعلى العلاقة مع الكثير من الأحزاب الشيوعية في الدول العربية , ومنها الحزب الشيوعي السوري بأغلب تكتلاته , والذي لا يزال يعاني من تبعات تلك السياسة رغم غياب الاتحاد السوفييتي مثلاً.
ولهذا كانت الهزة شديدة حين انهارت الدولة السوفييتية في صفوف الأحزاب الشيوعية والحركة اليسارية في الدول العربية وفي بلدان كثيرة أخرى. وقد بدأ بعضها بإعادة النظر بالجوانب الفكرية والسياسية , بعضها نجح نسبياً , وبعضها الآخر لم ينجح في ذلك , وبعضها الثالث لم يجد ضرورة لإعادة النظر بكل ما حصل واعتبر أن ما حصل في الاتحاد السوفييتي لم يكن سوى مؤامرة خارجية على الدول الاشتراكية! وعجز عن رؤية النخر الداخلي الذي مارسه الحزب ومارسته الدولة السوفييتية ذاتها بنظامها البيروقراطي الشمولي. وهؤلاء لا زالوا على النهج سائرين , وهم يصطدمون يومياً بحقائق الحياة ولكنهم لم يعودوا قادرين على التغيير ووعي الواقع الجديد في العالم. والمثل الإنجليزي يقول : ” الحقائق صخور صلدة من لا يعترف بها يصطدم بها ويشج رأسه”.
لقد بذل الحزب الشيوعي العراقي جهداً على هذا السبيل , ولكني لم اجد هذا كافياً , لهذا وجهت رسالة مفتوحة لقيادة وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي قبل عقد مؤتمرة الثامن ضمنتها تصوراتي الشخصية عن وضع الحزب وضرورات التغيير ومجالات هذا التغيير في الفكر والتنظيم والسياسة. ليس من حقي ولا أريد أن افرض رأيي على الحزب الشيوعي العراقي , إذ لا أملك بدوري وبالضرورة الحقيقة جزئياً أو كليا. والمسألة بالمحصلة النهائية تعود للحزب ذاته وهو الذي يقرر كيف يفترض فيه أن يمارس سياساته , وعلى القوى ان تحترم السياسات التي يقررها أي حزب من الأحزاب مع الاحتفاظ بحقها في النقد , إذ أن هذه الأحزاب تدخل ضمن الشأن العام الذي يمكن ويجب نقدها حين يستوجب الأمر ذلك. والمشكلة لدى بعض الأشخاص أنهم لا يسمعون إلا صوتهم وحين يرون صورتهم في المرآة يرون وجوهم جميلة , في حين يرى الآخرون شيئاً آخر. فهم ينتقدون الآخر , ولكنهم لا يدركون مدى الأخطاء التي يرتكبوها في كتاباتهم , سواء بالمقالات التي ينشرونها أم في بعض التعليقات التي ترد على بعض المقالات. وأدعي أن السيد سلامة كيله أحدهم.
لا شك في أن التحالف مع حزب البعث العربي الاشتراكي كان خطأً تاريخياً ارتكبته قيادة الحزب الشيوعي العراقي , وكنت أحدهم وأتحمل مسؤوليتي في هذا أيضاً. وقد أصدر الحزب الشيوعي العراقي تقييما لتلك الفترة حيث سجل بوضوح الأخطاء التي ارتكبها في هذا الصدد , وكنت أحد أعضاء اللجنة الثلاثية التي وضعت مسودة ذلك التقييم في دمشق في العام 1981. ولا بد لي هنا من الإشارة الواضحة إلى أن رفع شعار “معاً نحو بناء الاشتراكية” لم يدرس في اللجنة المركزية التي كنت عضواً فيها , وفوجئ المؤتمر الثالث بالشعار وهو معلق في أحد اركان خيمة المؤتمر. وكان المسؤول عن رفع هذا الشعار السكرتير الأول والمكتب السياسي وسكرتارية اللجنة المركزية. ومع ذلك تتحمل القيادة كلها هذا الخطأ الفادح. كما أن القول بأن صدام حسين هو كاسترو العراق , كان بدوره من تحليلات وعنديات السيد عزيز محمد , السكرتير الأول للحزب , وربما بالتنسيق مع المكتب السياسي والسكرتارية أو مع بعض الأعضاء فيهما , حينذاك , ولم يكن في الحزب سوى قلة قليلة تفكر بهذه الطريقة. وحين التقيت بصدام حسين أكثر من ساعة ونصف الساعة في شهر أيلول/سبتمبر 1976 أثناء انعقاد المؤتمر الزراعي , أي بعد المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي العراقي بعدة شهور , ووجهت نقداً صريحاً لسياسة البعث إزاء مجمل الوضع في العراق وإزاء مواقفه من الحزب الشيوعي العراقي , إضافة إلى ما طرحته من على منصة المؤتمر من نقد شديد لسياسة البعث علناً ونقل عبر شاشات التلفزة وشاهدته جمهرة كبيرة من العراقيات والعراقيين. وفي حينها أبلغت الحزب بتقرير شاف وواف عن اللقاء وتفاصيل النقاش وخلاصته أن التحالف مع البعث قد اصبح من الماضي وأن البعث متجه صوب تصفية علاقاته مع الحزب الشيوعي وعلى الحزب أن يأخذ حذره. لم أكن متفقاً مع هذا الشعار البائس. اليكم هذه الحقيقة. في الوقت الذي أعدم صدام حسين 34 شيوعياً وديمقراطياً في العراق , قام صدام حسين في الوقت نفسه بإرسال منحة مالية إلى كوباً قدرها مائة مليون دولار أمريكي ,و على إثر ذلك منح فيدل كاسترو أكبر وسام كوبي , وسام خوزيه مارتيه لهذا الدكتاتور بعد أن نظمت زيارة خاصة له إلى كوبا. وحين حضرت المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الكوبي في العام 1985 ممثلا ً عن الحزب , قدمت احتجاجاً شفوياً على ذلك العمل المشين وتحدثت مع سكرتارية اللجنة المركزية إزاء تلك الإساءة التي لحقت بالحزب والتغطية المقصودة على عمليات الإعدام التي مارسها صدام حسين في العراق.
لقد كان الخطأ الكبير الذي ارتكبته قيادة الحزب في حينها , كما أرى , قد برز في قناعة قيادة الحزب الشيوعي بطريق التطور اللارأسمالي صوب الاشتراكية , والذي انتقدته في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي في العام 1970 حين طرحه الرفيق الراحل عامر عبد الله في المؤتمر , كما انتقدت الوجهة في أكثر من دراسة ومقال لي في الستينيات في مجلة دراسات عربية اللبنانية وفي مجلة الطليعة المصرية في العام 1968 وفي رسالة الدكتوراه التي دافعت عنها في الشهر الأول من عام 1968 , والتي كانت تبحث في “طبيعة إجراءات التأميم في جمهورية مصر العربية” , حيث أشرت فيها إلى أن هذا الطريق يمكن أن يتحقق تحت قيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي فقط , إذ يمكن للبرجوازية الصغيرة أن تتخذ جملة من الإجراءات لكنها لا يمكن أن تقود النضال على هذا الطريق صوب الاشتراكية. كنت مخطئاً في مسألة واحدة وهي أن ليس هناك طريقا باسم طريق التطور اللارأسمالي أصلاً ومن حيث المبدأ , وكنت مقتنعاً بأن البرجوازية الصغيرة عاجزة عن وعي وإدراك واستيعاب أهمية وضرورة الديمقراطية والمؤسسات الديمقراطية للمجتمع , وأنها أقامت نظماً استبدادية في الدول العربية حيثما وصلت إلى السلطة. وتقدم سوريا خير دليل على طبيعة البرجوازية الصغيرة وسلوكها واستبدادية نظامها السياسي القمعي , وكذا الحال بالنسبة إلى ليبيا أو العراق في عهد البعث المشئوم. كما يتجلى الاستبداد في الفكر القومي اليميني والشوفيني , بل حتى في الفكر القومي المتياسر.
-4-
من يتسنى له قراءة برنامج الحزب الشيوعي العراقي خلال الفترة التي قاد فيها فهد الحزب , سيجد أن نضال الحزب قد توجه صوب التخلص من الاستعمار غير المباشر والعلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية وفي سبيل الحريات الديمقراطية وتطبيق بنود الدستور وإقامة صناعة وطنية واستخدام الثروة لصالح الاقتصاد الوطني والمجتمع وتحسين مستوى حياة ومعيشة الفلاحين والعمال والكسبة ..الخ. ولم يكن في شعارات الحزب ما يدعو إلى الاشتراكية , بل لم يطرح الحزب شعار إسقاط الملكية , بل كان النضال يتم في إطار النظام الملكي الدستوري. واستمر هذا النهج لاحقاً إلى حين طرح الحزب في فترة قيادة بها الدين نوري (باسم) للحزب شعار جمهورية شعبية وإسقاط الملكية حين تردد شعار غريب “بس تامر باسم العرش نشيله” على غرار أو أشبه بشعار العروبيين “بالروح بالدم نفديك ياحافظ” ,سواء أكان حافظ الأب أم الابن. ولكن هذا الشعار لم يدم طويلاً بعد أن تسلم حسين الرضي (سلام عادل) سكرتارية الحزب في العام 1956. في العام 1957 تم تشكيل جبهة الاتحاد الوطني حيث توجه نضال الجبهة , التي تكونت من أربعة أحزاب هي (الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي) وتعاون غير مباشر مع حزبين هما الحزب الديمقراطي الكردي والجبهة الشعبية , وبعد الاتفاق مع تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يقوده الزعيم الركن عبد الكريم قاسم , صوب الإطاحة بالنظام الملكي وإقامة الجمهورية , بعد ان عجزت القوى الوطنية عن تحقيق الإصلاحات الضرورية في ظل الحكم الملكي وفي ظل علاقات شبه استعمارية شبه إقطاعية وسلطة تعبر عن مصالح هذه الأوساط. لم يرفع سلام عادل شعار الاشتراكية , بل طالب مشاركة الحزب في السلطة بسبب استبعاد ممثلي الحزب من التمثيل فيها , في حين ضمت إليها ممثلو جميع القوى السياسية التي شاركت في الجبهة بشكل مباشر أو غير مباشر. لم يطرح الحزب الشيوعي لا شعار الاشتراكية ولا شعار الراسمالية , بل النضال من أجل إنجاز مهمات مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية , وهو مصطلح مفهوم يعني في ظل سلطة البرجوازية الوطنية أو البرجوازية الصغيرة أو في ظل سلطة الطبقة العاملة وفق واقع كل بلد من البلدان. ومهمات المرحلة الوطنية هي مهمات عامة وفي مصلحة كل الطبقات والفئات الاجتماعية الوطنية ابتداءً من البرجوازية المتوسطة ومروراً بالبرجوازية الصغيرو المدينية والفلاحين والطلبة والمثقفين وانتهاء بالطبقة العاملة مع الاختلاف في حجم الفائدة أو الاستفادة منها. وخلال الفترة التي أعقبت ثورة تموز 1958 تفجر الصراع السياسي بين القوى القومية والقوى الديمقراطية حول وجهة التطور والسياسات التي يفترض أن تمارس من قبل حكومة الثورة. وهنا لعب القوميون الناصريون والبعثيون دوراً كبيراً في زعزعة الثورة والتحالفات والاستقرار حين طرح شعار الوحدة مع مصر وسوريا في وقت كانت الثورة لا تزال في بدايتها ولم تقطع شوطاً من الاستقرار والتفاعل والتفاهم في ما بين القوى السياسية , كما وقع الحزب الشيوعي العراقي وقوى سياسية اخرى في خطأ الانجرار وراء هذا الصراع بطرح شعار الاتحاد بدلاً من الوحدة , مما عمق الصراع والنزاع السياسي. ثم ارتكبت أخطاء فادحة من قبل الجميع أدت كلها إلى التآمر وإسقاط الجمهورية الأولى حيث قفز حزب البعث على السلطة ومارس ما نعرفه جميعاً من جرائم بحق كل القوى الوطنية العراقية دون استثناء , ولكن بشكل خاص ضد الشوعيين وقياديي الحزب الشيوعي العراقي. لم يناقش الحزب الشيوعي العراق في هذه الفترة موضوع الاشتراكية او الرأسمالية , إذ كانت المهمة حينذاك ” كيف يمكن تطوير العملية الثورية في العراق لصالح معالجة المشكلات المثارة , سواء أكان في المجال الاقتصادي أم السياسي أم القومي أم العلاقات العربية ومع دول الجوار , إضافة إلى الصراع مع شركات النفط الاحتكارية حول القانون رقم 80 لسنة 1961.
يدعي البعض بأن الحزب كان في مقدوره الاستيلاء على السلطة وإسقاط حكومة قاسم. هذا الادعاء لا يزال يتردد عند بعض الأوساط في الحركة اليسارية العراقية والعربية. ولكن ليس لهذا الاعاء من أساس مادي متين. لم يكن الحزب قادراً على أخذ السلطة , وإذا كان في مقدوره أخذها , فما كان في مقدوره الاحتفاظ بها والحفاظ عليها. والأوضاع في العراق والمنطقة كلها كانت تدلل على هذا الاستنتاج. لقد تقدم بعض الشيوعيين العسكريين في اللجنة الحزبية العسكرية بمقترح إلى المكتب السياسي للحزب الشسيوعي يدعو قيادة الحزب إلى الموافقة على تحرك القوات العسكرية للاستيلاء على السلطة. نوقش هذا المقترح في قيادة الحزب ورفض بالأكثرية. وقد وصل خبر هذا المقترح إلى عبد الكريم قاسم فتوترت علاقاته بالحزب , رغم معرفة عبد الكريمم قاسم بأن قيادة الحزب لم توافق على المقترح لا لأن الحزب كان قادراً ولم يأخذ به , بل لأن كل الدلائل كانت تشير إلى أن مثل هذه المحاولة سوف تقود إلى صدام دموي مع كل القوى السياسية الأخرى , سواء أكانت قوى قومية أو ديمقراطية ام قاسمية أم قوى دينية كانت قد بدأت لتوها بتنظيم نفسها للمشاركة السياسية , سواء أكانت من الأخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي (تنظيمات سنية) أم حزب الدعوة الإسلامية (تنظيم شيعي) الذي كان قد بدأ كتيار إسلامي سياسي وتبلور فيما بعد في تنظيم سياسي تشكل لمواجهة سياسات قاسم الذي إصدر في حينها قانون الأحوال الشخصية الذي عارضته كل القوى الإسلامية والمتاجرة بالإسلام.
إن أسطورة قدرة الحزب الشيوعي على انتزاع السلطة يرددها كل من يريد إدانة الحزب واعتبار سياساته يمينية رفضت قيادته تسلم السلطة , في حين أن قاسماً كان حتى ذلك الحين يسير باتجاه وطني وديمقراطي عام , ولكنه كان قد أوعد بتأمين الحياة الدستورية وأخلف فيها كلية.
لقد تباينت مواقف أعضاء قيادة الحزب الشيوعي وارتكبت بشكل عام بعض الأخطاء الجدية , سواء بطرح شعار “حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي” وتنظيم المظاهرات الجماهيية الواسعة لها , أم بالسكوت عن شعار “إعدم , كل الشعب وياك , إعدم” أم ترديد أو السكوت عن شعار “ماكو مؤامرة تصير والحبال ممدودة” أم بتنظيم رحلة الموصل ومهرجان السلام الذي جاء بتأييد من قاسم رغم علم الأخير بما يمكن أن يحصل في الموصل من خلال الشد بجر الحبل من الجانبين وزيادة التوتر في الموصل , أم بالدعوة إلى الإعدامات والمظاهرات الصاخبة في أعقاب فشل مؤامرة الموصل. ولم يكن في كل ذلك قد طرح الحزب شعار الاستيلاء على السلطة , بل المشاركة فيها بممثل أو اثنين.
لقد كان مقترح اللجنة العسكرية في الحزب الشيوعي في حينها مشروع مغامرة غير ثورية وغير محسوب العواقب ضد حكم وطني جاء بعد انتفاضة عسكرية تحولت إلى ثورة شعبية وجدت تأييد أوسع الأوساط الشعبية , وكان قاسم يحظى بتأييد وحب الغالبية العظمى من الشعب حقاً. أن تنفيذ المغامرة كان يعني البدء بتمزيق الحزب الشيوعي وممارسة قتل واسع النطاق في صفوف الشيوعيين أوسع بكثير مما حصل في العام 1963 في أعقاب الانقلاب الفاشي للبعثيين والقوميين الناصريين بقيادة أحمد حسن البكر وعبد السلام محمد عارف..
لم يطرح الحزب الشيوعي حينذاك موضوع حرق المراحل أو القفز عليها , إذ كانت المهمات واضحة وباتفاق القوى الديمقراطية العراقية. لقد عشت هذه التجربة الغنية والمعقدة والمريرة وساهمت فيها كمناضل في صفوف الحزب الشيوعي. ولهذا لا اعتمد على السماع وحده ولا على ما اقرأه أحياناً من قبل كتاب طرحوا موضوع الاستيلاء على السلطة ورفض في حينها لأسباب معقولة تماماً. لقد كانت هناك مبالغات كبيرة جداً في قدرات الحزب الشيوعي أشاعها الذين كانوا يسعون إلى ضرب الحزب , كما أشاعها الشارع الذي تفجر في أعقاب الثورة ولم يستطع الحزب تنظيم العملية والناس وانجر أحياناً خلفها , ثم نشطها بطريقة غير سليمة لم تساعده على الاستفادة منها لتأمين التطور الديمقراطي والتقدمي السليم في صالح المجتمع العراقي.
لقد كانت القوى السياسية العراقية , وخاصة السرية منها , خلال الفترة التي أعقبت ثورة تموز 1958 تعاني عموماً من القمع وضعف الديمقراطية بسبب غيابها في المجتمع أسساً , كما كانت تعاني من دور المراهقة السياسية والفوضى ونسيان العدو الأساسي. وإذ ارتكب الحزب الشيوعي بعض الأخطاء الجدية والثقيلة في هذه المرحلة واعترفً بها وثبتها في أكثر من تقرير وتقييم , فأن القوى القومية والبعثية قد ارتكبت ابشع الأخطاء ومارست أكبر الجرائم والحقت أفدح الأضرار بحق الشعب العراقي وثورته الوطنية وقواه السياسية الديمقراطية ولم تفكر يوماً بانتقاد نشاطها السلبي. ولكن هكذا كان الوعي والمستوى الفكري والسياسي ولا يمكن الآن الضرب على الخدود وندب الماضي , بل التفكير في الحاضر والمستقبل.
كلنا نعرف ماذا جرى بعد انقلاب شباط/فبراير 1963 الذي قادته القوى القومية والبعثية وبتأييد من القوى القومية العربية في مصر وسوريا وكل النظم الحاكمة في الدول العربية وإيران وتركيا. لقد وصل الانقلابيون بقطار أمريكي – بريطاني – فرنسي يجسد مصالح شركات النفط الاحتكارية التي لوى قاسم رقبتها وسحب من هيمنتها 99 % من الأراضي العراقية التي لم تكن قد نقبت فيها عن النفط الخام حتى ذلك الحين , إضافة إلى مطالبته بضم الكويت إلى العراق الذي عبأ كل القوى ضد قاسم , ثم كانت الحرب في كردستان التي سعت إيران وكل القوى الأجنبية الأخرى إلى الاستفادة منها.
حين وصل البعث إلى السلطة ثانية في العام 1968 عبر انقلابه العسكري , نشأ صراع داخل الحزب حول الموقف من السلطة الجديدة. وإذا كان الجميع ضد تأييد الانقلاب منذ البدء , و خاصة في قيادة منطقة بغداد ومكتبها حيث كنت عضواً فيهما , فأن الأختلاف نشأ فيما بعد في كيفية مواجهة مشكلة مجيء حزب البعث إلى السلطة والتعامل مع الوضع. وكان الاختلاف أمراً طبيعياً بالنسبة إلى كل حزب من الأحزاب العراقية. وقد تلقى الحزب ضربات قاسية جداً من حكم البعث في أعوام 1968-1971 وخسر الكثير من رفاقه وكوادره وبعض قيادييه عبر الاغتيالات الغادرة , سواء بالاعتقال والقتل أو الدهس …الخ. وفي كل الأحوال لم يطرح الحزب شعار الاشتراكية مع البعث أو أن صداماً هو كاسترو العراق , بل طرح من قبل السكرتير الأول في منتصف السبعينيات من القرن الماضي , وكان الموقف مرفوضاً من القسم الأعظم من الشيوعيات والشيوعيين في الداخل والخارج. وكان موقف الرفض أكثر وضوحاً لدى أصدقاء ومؤيدي الحزب من القوى الديمقراطية والتقدمية.
لا أختلف مع السيد سلامة كيله بأن مفهوم الاشتراكية كان يعاني من تبسيط وتسطيح شديدين في أوساط الحركة الشيوعية في الدول الاشتراكية , وكذلك لدى الكثير من الشيوعيين في العالم العربي والدول النامية عموماً , ومنها الصومال (محمد سياد بري) , واليمن الجنوبي (عبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد) , حيث تم الإدعاء بأنهما يسيران على طريق الاشتراكية أيضاً, أو الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أو حزب العمل الشيوعي في لبنان , وهي قوى قومية تحولت الى الصف اليساري اللينيني حينذاك , على سبيل المثال لا الحصر. ولكن طرح موضوعة السير مع البعث صوب الاشتراكية وعن طريق التطور اللارأسمالي هو الذي قاد إلى الوقوع في مطب كبير كانت له عواقب وخيمة على الحزب لا زال يعاني منها , كما أرى.
أشرت في الحلقة الثالثة بشأن موضوع العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في ريف العراق , ولكن لا بد من العودة إليه ثانية بسبب طرحه مجدداً من السيد كيله. صحيح جداً أن العلاقات الإقطاعية قد انتهت على الصعيد العالمي منذ عقود كثيرة , بل عدة قرون , ولكن ليس على الصعيد المحلي في عدد غير قليل من الدول النامية أولاً. وصحيح تماماً أن الرأسمالية وفي مرحلة تحولها إلى الرأسمالية المالية (الإمبريالية , في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قد انتصرت نهائياً على العلاقات الاستغلالية البالية على الصعيد العالمي , وأصبحت هي العلاقات السائدة والمؤثرة والفاعلة دولياً بما في ذلك تأثيرها على السوق والتبادل السلعي النقدي مع الدول المتخلفة , بل حتى على تلك التي كانت أو لا تزال تسود فيها علاقات ما قبل الرأسمالية ثانياً.
ولا شك في أن هناك مركز راسمالي متقدم يضم مجموعة الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) , وهناك الأطراف أو المحيط الرأسمالي المكون من مدارات تدور عليه الدول النامية أو دول العالم الثالث. وهذه الدول النامية ذات مستويات تطور مختلفة وبالتالي فهي تتحرك على محيط المركز ولكن بمسافات متباينة عنه , إذ فيها من يدور على مقربة من المركز , وهي التي يطلق عليها أنها على حافة التحول , وتلك التي تبتعد عنه أكثر , كما أن هناك من هي تتحرك على آخر المدارات التي تدور حول المركز والتي تضم إليها مجموعة الدول الأكثر تخلفاً وفقراً في العالم , تلك الدول التي انتهى أو استنزف تملكها للموارد الأولية من جانب الدول الاستعمارية أو تلك البعيدة عن شواطئ البحار ولا تزال تعيش في مستوى تطور يقترب من حالة الشعوب منذ قرون خلت على الصعيد العالمي.
ولا شك في أن الدول الرأسمالية تسعى , بحكم طبيعتها الاستغلالية , إلى منع تطور الدول النامية صوب التصنيع وتحديث الزراعة وبناء العلا قات الرأسمالية , أي صوب تنمية اقتصادياتها الوطنية صوب تغيير علاقات الإنتاج نحو الرأسمالية , دع عنك باتجاه الاشتراكية. ولكن هذا لا يعني أن هذا التطور غير ممكن نهائياً , خاصة وان تطوير الصناعة وتحديث الزراعة وتغيير بنية التجارة وبناء البنية التحتية وتطوير البحث العلمي النظري والتطبيقي ومكافحة الأمية والبطالة …الخ يمكن ان يتحقق في ظل المجتمع المدني بالرغم من مقاومة الدول الرأسمالية في المراكز الصناعية. والمقصود هنا ليس الوصول إلى الرأسمالية المالية أو الإمبريالية , بل إلى الرأسمالية الوطنية , التي ينفي الأخ كيلة القدرة على تحقيقها , وهنا نقطة الخلاف أو مربط فرس آخر أيضاً.
إن قرار السير على طريق التطور الرأسمالي أو التوجه صوب الاشتراكية لا يمكن أن يكون ذاتياً , بل تفرضه ظروف التطور في كل بلد من البلدان حتى في ظل العلاقات الرأسمالية العولمية الراهنة ومصاعب تغيير بنية الاقتصاد الوطني. إن مهمة النضال في سبيل تغيير البنية الاقتصادية الكولونيالية الراهنة تسمح بالتحول صوب المجتمع المدني الذي يفتح الطريق على التغيير المنشود.
لقد حققت الدولة االسوفييتية التصنيع , (بعض الدول الاشتراكية الأخرى كانت قبل ذاك دول صناعية مثل ألمانيا وجيكوسلوفاكيا وهنغاريا على سبيل المثال لا الحصر) ولكن استغرقت سنوات طويلة اولاً , وتحت أشق الظروف والتضحيات ثانياً, ولكنها لم تكن متقدمة في الصناعات المدنية , بل في الصناعات العسكرية على نحو خاص , إذ وجهت الأبحاث العلمية والتقنية صوب سباق التسلح , وبقي القطاع الصناعي المدني متعثراً وويعمل بتقنيات قديمة والكثير منها بال. من درس العلوم الاقتصادية وتعرف على الاقتصاد السوفييتي واقتصاديات الدول الاشتراكية الأخرى , أدرك في حينها وبوضوح الفجوة الهائلة بين مستوى وتقنيات التصنيع في الدول الرأسمالية المتقدمة وبين مستواها في الدولة الاشتراكية السوفييتية , وكذلك بين الإدارة والتنظيم والتنسيق والمحاسبة الاقتصادية في مجموعتي الدول , كما أدرك بأي ثمن تحقق ذلك في الدول الاشتراكية.
لقد تحدث لينين في العام 1916 وفي كتابه “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” وكتاب “الدولة والثورة” وكذلك كتابه “تطور الرأسمالية في روسيا” الذي صدر في أوائل القرن العشرين مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في روسيا وعن صعوبة بل استحالة بناء الاشتراكية في ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي الإقطاعي – الرأسمالي فيها حينذاك. وكان على صواب في هذا التقدير. وحين وصل البولشفيك إلى السلطة طرح لينين شعار الدولة الاشتراكية , وكان في هذا مخطئاً ومتسرعاً. وحين اراد تعديل المسيرة , كان قد انتهى دوره وصعد ستالين لقيادة قطار الحزب والدولة السوفييتية بالاتجاه الذي انتهى إليه في العام 1989/1990/1991.
لست من محبي الرأسمالية ولا من مؤيديها أو أنصارها أو الداعين إليها , بل من المناضلين ضد هذه العلاقات التي جلبت وتجلب الاستغلال والقهر الاقتصادي لنسبة عالية جداً من شعوب العالم. ولكني لست من أولئك الذين يسعون إلى تنفيذ الرغبات الذاتية على حساب الواقع الموضوعي القائم في البلاد أو يرسم للناس الأوهام التي تقود إلى إحباطات إضافية غير مبررة اصلاً . على من يرى أن الاشتراكية هي السبيل الوحيد لخلاص البشرية من الاستغلال والقهر بسبب طبيعة النظام الراسمالي , يفترض فيه ان يكشف عن عورات الرأسمالية ويثقف الناس بمعايبها والعواقب الوخيمة منها ويوضح سبل النضال لتغيير هذا الواقع , ولكن هذا النقد لأساسها المادي وطبيعتها الاستغلالية لا يعني أن العراق , أو بتعبر أدق الشعب العراقي , قادر على بناء الاشتراكية في المرحلة الراهنة , رغم أن السيد كيله لا يطرح مباشرة بناء الاشتراكية في المرحلة الراهنة بل تبنيها ..الخ. وإذا كانت شروط البلاد غير مؤهلة للاشتراكية , فما هي العلاقات التي يفترض أن تقام في البلاد والتي تنشئ القاعدة المادية والبنية الاجتماعية والوعي الاجتماعي الضروري للتحول صوب الاشتراكية. إن سيرورة المجتمع لا تخضع للرغبات الذاتية , بل لها قوانينها الموضوعية والتي بدونها تنتكس الحركات مجدداً وعلى المناضلين اليساريين وعي تلك القوانين والتعامل المسئول معها لصالح الفئات الكادحة والمنتجة في المجتمع , والتجربة في “الدول الاشتراكية” السابقة تأكيد صارخ على ذلك , رغم انها لم تكن اشتراكية بالمعنى السليم , بل راسمالية دولة , ولكنها تحت واجهات اشتراكية.
كان العراق ولا يزال يمتلك كل مقومات التغيير في البنية الاقتصادية والاجتماعية وفي الوعي الاجتماعي وإقامة المجتمع المدني , ولكن سقط منذ العام 1963 في أيدي وتحت هيمنة قوى وأحزاب قومية شوفينية وذهنية عسكرية عدوانية مارست سياسات استبدادية تدميرية في الداخل وحروب عدوانية نحو الخارج وساعدت على وقوعه تحت الاحتلال. والاحتلال ساهم بتكريس الطائفية والتمييز الطائفي , التي كانت موجودة وتمارس من قبل الأوساط الحكومية قبل ذاك , وأدخل لنا المحاصصة الطائفية السياسية المقيتة التي لا تزال سارية وتميز نظام الحكم في العراق حالياً , كما عمق التمييز الطائفي وشارك في تشديد وتوسيع قاعدة الفساد المالي ونشاط المافيات المنظمة. إن النظام القومي البعثي وعلى رأسه صدام حسين كان المسئول عن سقوط العراق تحت القرار الدولي , الأمريكي على نحو خاص , حتى قبل سقوط النظام في العام 2003 , أي منذ أن بدأ حربه ضد إيران واستكمله بغزو الكويت على أقل تقدير. وهو الذي ترك لنا هذا الإرث الشوفيني والطائفي المقيت في العراق , لقد أصبح العراق في ظل نظام البعث دولة عصابات ومافيات منظمة , وهو النظام السياسي الشمولي الذي حصل على تأييد ودعم القوى القومية والبعثية وبعض قوى اليسار في العالم العربي التي اعتاشت على فتات موائده. وكانت لأموال النفط الخام العراقي التأثير البالغ في حصوله على ذلك التأييد والدعم منها. ولست معنياً هنا الإشارة إلى تلك القوى والأشخاص بالأسماء , فهم معروفون وكوبونات النفط الخام لم تعد سراً غير مكشوف.
لقط سقط البعث في العراق ورحل المستبد بأمره , ولكن الاستبداد , كظاهرة اجتماعية سياسية , لم ينته في العراق. فالعلاقات الإنتاجية والاجتماعية والسياسية السائدة والخلفية التاريخية والدينية والتقاليد والعادات والتربية المنزلية هي التي تعيد إنتاج الاستبداد والعنف والقسوة في العراق. ونظرة على مجموعة غير قليلة من سياسي العراق سنجد دون جهد كبير هذه الحقيقة الصارخة متجسدة في تصرفاتهم في السياسة والحكم وفي العلاقات العامة , بل نجدها بين قوى سياسية يسارية وديمقراطية وعلمانية أيضاً. وعلى قوى المجتمع الديمقراطية واليسارية والعلمانية المقتنعة باتجاهاتها الفكرية والسياسية والأمينة لها أن تناضل من أجل تغيير هذا الواقع وهذه التركة وتلك الخلفيات , ولن يتم ذلك برفع الشعارات البراقة أو الوقوف على جانبي الطرق , على هامش الأحداث , لمشاهدة ما يجري في العراق , لمشاهدة مسيرة العنف والدم والفساد والمسيرة السياسية دون الفعل فيها ومناهضتها , بل لا بد من التدخل والعمل باتجاه التغيير. إن العراق بحاجة إلى تعبئة كل القوى السليمة , كل الفئات الاجتماعية ذات المصلحة بالتغيير والتحولات المدنية الديمقراطية وإنجاز ما تعطل من مهمات في العقود السابقة. ولن يكون في مقدور أحد أن يعبئ القوى تحت شعارات اشتراكية في المرحلة الراهنة , بل يمكن ذلك تحت شعارات ومهمات ديمقراطية , وحين أقول ديمقراطية يعني النضال من أجل تغيير علاقات الإنتاج البالية بأخرى جديدة لن تكون في هذه المرحلة غير العلاقات الرأسمالية الوطنية , وعبر مشاركة الدولة والقطاع الخاص , وفي إطار تحالفات اجتماعية وسياسية وطنية وديمقراطية. هذا هو الطريق الذي أراه , إنه الطريق الذي يوصل العراق إلى المجتمع المدني الديمقراطي الحديث وبتظافر جهود قوى اجتماعية وسياسية عديدة , وليس بالضرورة تحت قيادة الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي أو القوى اليسارية العراقية , إذ أن الحديث عن الاشتراكية وعن مثل هذه القيادة في المرحلة الراهنة حديث بعيد عن الواقع!
-5-
على امتداد قرون كثيرة وعبر نشاط الملايين والملايين من البشر الموزعة على قارات واقاليم وبلدان كثيرة تراكمت الكثير من الدروس والقيم والحكم والمقولات المأثورة التي تعبر عن التجارب المريرة التي مرت بها البشرية , سواء أكان ذلك في العمل السياسي أم الاجتماعي أم الثقافي , وسواء أكان في النضال من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان , أم في سبيل الاستقلال والسيادة الوطنية وضد الاستغلال والتمييز بمختلف اشكاله. وعبر القرون المنصرمة انتزعت البشرية من حكامها الكثير من الحقوق وكرستها في قوانين وتقاليد ونظم , بعضها يعبر عن مصالح طبقات معينة , وبعضها الآخر يخدم مصالح عامة , وبعضها الثالث يطرح صيغاً للحوار والنقاش والصراع حول القضايا التي يطرحها الواقع وتتباين فيها وجهات النظر والمواقف الفكرية والسياسية والمصالح. ولكن بعضها الآخر يشكل قيماُ ودروساً مهمة يفترض في كل القوى السياسية الاستفادة منها في كفاحها لتحقيق أهدافها , فهي قيم عامة وشاملة. وهي مهمة للقوى اليسارية بشكل عام , لأن بعضها يرفض القيم التي تحققت في فترة نهوض البرجوازية في أوروبا والعالم ضد النظم السياسية والاجتماعية المستبدة السابقة لها. وأحد هذه الدروس القيمة تلك الفكرة القائلة بأن “السياسة فن الممكنات” , وهي في حقيقة الأمر علم ايضاً. وحين طرحتُ هذه الفكرة العامة , التي هي تعبير عن خبرة النضال الطويل الذي خاضه الإنسان وسعيه لتحقيق حلمه في الحياة الحرة والكريمة والخالية من الاستغلال , ولكن بعيداً عن الأوهام أو بعيداً عن الواقع والممكن , ولكن ليس بعيداً عن الأحلام الإنسانية النبيلة , بل السعي والعمل من أجل الاقتراب من الواقع وفهمه والعمل على تغييره , مع الاحتفاظ بحلم دائم لتطوير الممكن. وإذا بأخي السيد كيله يعتبر هذه الفكرة برجوازية , رغم أن لينين الذي يتحدث باسمه كثيراً كان يقف في مواقع فكرية وسياسية أخرى , عمل بهذه الفكرة وكررها مراراً , بل هي قديمة قدم الإنسان وعمل بها حامل الرسالة الإسلامية محمد بن عبد الله أيضاً في مساومته مع أبي سفيان الشهيرة , إذ عمد إلى الممكن ليطور الكامن ويصل إلى المنشود لاحقاً.
يصعب علي فهم هذا المنطق الشكلي الذي يمارسه السيد كيله. نرفض شيئاً صائباً لاعتقادنا بأنه برجوازي ليبرالي , ونرفض الديمقراطية البرلمانية لأنها من مؤسسات الدولة البرجوزاوية ولا نعتبرها واحدة من أهم منجزات نضال وفكر الإنسان والعقل الجماعي للبشرية , للحضارة الإنسانية , ونسعى إلى خلق ما يقود إلى الضياع , إلى ما يسمى بـ “الديمقراطية البروليتارية” وإلى سوفييتات نواب العمال والفلاحين في الاتحاد السوفييتي التي تحولت إلى أداة للتصفيق لقادة الحزب والحكومة والموافقة على قراراتهم , كما عبرت عن ذلك بصدق ودقة وحرص كبير على الثورة روزا لوكسمبورغ. لا يهمني من أين انطلقت هذه الفكرة أو تلك فهي نتاج البشر وتجسد خبرة عالمية , بل يهمني محتواها وسبل استخدمها والاستفادة منها وتوظيفها لصالح النضال الذي تخوضه القوى الديمقراطية والحركة اليسارية عموماً في العراق أو في العالم العربي أو على الصعيد العالمي ولصالح التقدم. ألا يفترض في اليسار في الدول العربية أن يعيد النظر بفكره ومواقفه وأساليب عمله وأدواته؟ ألا يفترض بعد هذه العقود من النضال أن يتساءل كيف يمكن تحقيق نتائج إيجابية للمجتمع وفق أساليب نضال جديدة أكثر وعاً بالعصر الذي تمر به البشرية؟ هذا ما أتمنى أن نعيه جميعاً . وإلا في العاقبة غير سليمة.
يفترض أن تكون لكل حزب سياسي استراتيجيته , وفي ضوء هذه الاستراتيجية المرحلية وذات المدى البعيد يفترض فيه أن يضع تكتيكاته السياسية النضالية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية , أي تحديد سبل وأدوات وصول هذا الحزب أو ذاك إلى تعبئة الفئات الاجتماعية الكادحة لصالح تحقيق أهدافها العادلة على المدى القصير والمتوسط والبعيد. وفي ضوء هذا يفترض بهذا الحزب أو ذاك من الأحزاب اليسارية , ومنها الحزب الشيوعي , أن ينطلق من الاسترتيج الذي يحدده لنفسه ليشخص تكتيكاته ويحاول أن يرى الممكن حالياً للتحقيق في إطار الصراعات الاجتماعية الجارية وموازين القوى القائمة , وكيف يمكن تحقيق جملة من المهمات التي تعتبر مستلزمات ضرورية لتغيير الممكن باتجاه الأفضل. إن أي حزب يساري لا يمكنه أن يبني على الكامن من الطاقات والقدرات , بل على القائم منها لتحقيق المهمات , ولكن عليه أن لا ينسى التحري عن القوى والقدرات الكامنة التي يفترض فيه تحريكها وتعبئتها وتوظيفها في خلق الممكن الجديد لتحقيق خطوات متقدمة على الطريق النضالي الطويل. ينبغي أن يؤسس على ما هو ممكن شريطة أن لا ينسى ما هو كامن وسبل استثماره وتحريكه نحو مواقع أكثر تقدماً. اشير مرة أخرى أن المنطق المتياسر الذي يقدمه لنا السيد كيله يقود إلى مواقع اليمين , وهذا ما نجده في موقفه من القضية الفلسطينية. وحين اقول ما لا يدرك كله لا يترك جله , سيقول لنا الأخ كيله بأن هذه الفكرة ربما من مخلفات الماضي السحيق حتى لا ترقى إلى مرحلة وفكر البرجوازية!
إن السياسة فن وعلم الممكنات , تعني بدورها , شاء الآخ أم أبى , تعني وعي الواقع والقوى , وتعني القدرة على ممارسة السياسة والاستعداد للمساومة لصالح الشعب والتقدم , وليس لصالح التخلف وخسارة المواقع , وليس لصالح هذا الحزب أو ذاك , فالأحزاب أدوات فاعلة , وليست اهدافاً , لتحقيق أهداف الشعب , كل الشعب. نحن نعيش في عالم متحرك وطبقات لها مصالح مختلفة وصراعات طبقية لا بد للطبقة العاملة وقواها اليسارية والمثقفين الديمقراطيين أن تجد في نضالها إمكانية لتحقيق بعض المهمات والأهداف لكي تدفع بقدراتها النضالية نحو الأحسن والمواقع الأقوى , وليس رفض كل شيء , إما السلطة أو لا شيء في العراق , وإما كل فلسطين أو الموت!
للنضال أساليب وأدوات مختلفة وكثيرة. وتقع على عاتق القوى والأحزاب السياسية اليسارية , ومنها الأحزاب الشيوعية , أن تحدد أهدافها ومهماتها وأساليب وأدوات نضالها , أن تحدد استراتيجها وتكتيكاتها لتحقيق الاستراتيج في المحصلة النهائية , وعلينا أن ندرك ايضاً بأن هناك استراتيج مرحلي واستراتيج أبعد , وبالتالي يقع على عاتقها تحديد كل ذلك عبر استخدامها للمنهج المادي في تحليل الواقع واستخلاص الالاستنتاجات وتحديد المسيرة لتحقيق التغيير المنشود مع ضرورة الاستفادة من كل المناهج العلمية الأخرى. كما على الحركة الاشتراكية والشيوعية كلها أن تدرك بأن مفاهيم مثل دكتاتورية البروليتاريا والتجاوز على الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب , كما حصل في دول المعسكر الاشتراكي” لم يكن مقبولاً ولا مرفوضاً ومخالفً لعمق الفكر الاشتراكي ويفترض أن لا يكون مقبولاً , بل مرفوضاً , إذ أنه يستبدل الدكتاتورية بدكتاتورية أخرى ولا يوصل بأي حال إلى تحقيق العدالة الاجتماعية , الديمقراطية والحياة الدستورية البرلمانية النزيهة والنظيفة ودولة القانون الديمقراطي والمجتمع المدني الحديث وممارسة الشعب لحقوقه ومشاركته في السياسة والسلطة …الخ هي من الأسس التي يمكنها أن توصل إلى العدالة النسبية بمنظور اجتماعي سياسي قابل للتحقق.
في العام 1789 انطلقت الثورة البرجوازية في فرنسا ضد الإقطاع وسطرت لهامبادئ “الحرية , المساواة , الأخوة”. وها نحن نقترب من الذكرى السنوية ألـ 220 لهذه الثورة العظيمة ومبادئها الكبيرة , فهل علينا أن نرفض هذه المبادئ لأن القوى التي نادت بها كانت برجوازية , أم أن علينا أن نتبناها ونطورها ونغنيها بقيم ومضامين إضافية وجديدة التي لم يتوصل إليها المجتمع الفرنسي حينذاك بسبب واقع المجتمع وطبيعة الصراع والفئات الاجتماعية التي حملت هذه الشعارات الإنسانية المهمة , بغض النظر عن المصالح التي كانت تسعى إليها من خلال طرح تلك الشعارات. إن المنطق الذي يستخدمه السيد كيله أفلج بكل معنى الكلمة ولا يمت إلى قيم الحضارة الإنسانية التي حققتها البشرية بصلة. إنه يتحرك في فضاءاته الذاتية ويعممها وكأنها الحقيقة المطلقة. لقد أضافت القرون اللاحقة , ومنها ثورة أكتوبر قيماً وشعارات أخرى , ومنها النضال ضد الاستغلال والحروب الاستعمارية , كما وضعت البشرية في العام 1948 لائحة حقوق الإنسان الدولية في أعقاب التجربة التي مرت بها البشرية وسقوط النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية , وأغلب الدول التي ساهمت في وضع هذه الوثيقة هي دول برجوازية , وساهم العراق مع بقية دول العالم حينذاك بوضعها , فهل علينا أن نرفضها , أم أن نعمل من أجلها ونطورها ونغنيها بحقوق أخرى , كما حصل فعلاً خلال الفترة الواقعة بين عامي 1948 و2009 , وأن نناضل في سبيل تنفيذ ما ورد بهذه اللائحة والمواثيق والعهود الدولية اللاحقة , وخاصة الحقوق السياسية والاقتصادية التي وضعت في العام 1966 وحقوق المرأة والطفل وضد التمييز والعنصرية ..الخ , والتي نطلق عليها جميعاً بـ”شرعة حقوق الإنسان”.
لقد طرحت الأممية الاشتراكية الثانية على لسان كلارا تستكن الألمانية وبالتعاون مع أوغست بيبل وروزا لوكسمبورغ قضايا حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل …الخ , فهل يجب على الحركة الشيوعية واليسارية أن ترفضها لأنها جاءت من الحركة الاشتراكية لأنها في صراع معها. أتمنى أن يفكر بالأمر ملياً , فما زال يتحدث وكأن الحركة السياسية العربية , ومنها الحركة اليسارية , تعيش حالة الطفولة اليسارية. ومن المؤسف أن السيد كيله ليس وحده من يفكر بهذه الطريقة! أتمنى على جميع قوى اليسار وقوى المجتمع المدركة لمهماتها أن تعيد النظر بماضي نشاطها وأن تعترف بالأخطاء التي ارتكبتها في الماضي من حيث الفكر والممارسة , وليس عيباً في ذلك بل فضيلة , وأن تضع أسساً جديدة لعملهه , إذ أن أخطر ما في العملية الفكرية والسياسية هو الكسل والخمول الفكري واعتماد مقولة “ليس في الإمكان ابدع مما كان” , فهو الجمود والموت بعينه. وإعادة النظر هذه تشملني كما تشمل غيري , إذ ليس فينا وليس هناك من هو معصوم من ارتكاب الأخطاء.
كم أتمنى على الأخ كيله أن يتخلى عن هذه الرؤية الضيقة للتراث الحضاري الإنساني. إن هذه القيم والمنجزات الفكرية والنضالية للبشرية هي تراث كبير للحركة اليسارية الديمقراطية في العالم كله وعلينا الاعتزاز بها وإغنائها باستمرار , وليس برفضها. إن هذه اللوائح تساعدنا على النضال ضد النظام الرأسمالي واستغلاله للشعوب , ضد القوانين التعسفية وضد التجاوز على حقوق الإنسان , ومنها حقه في العمل والحق في الحياة والعيش الكريم وحقه في التفكير الحر وتبني ما يراه من فكر أو عقيدة دينية أو مذهب أو موقف سياسي وبقية الحقوق المعروفة. إن هذه النضالات هي التي في مقدورها أيضاً إيصال القوى السياسية اليسارية الواعية إلى السلطة , وليس عبر الانقلابات أو الثورة على أن تستفيد من دروس وعبر وتجارب الماضي بكل ابعاده.
ومع ذلك فأن الزميل يمتلك الحق في الدفاع عن افكاره ومواقفه , وفي رفض الفكر الآخر الذي أطرحه , وهذا الموقف لن ينغص عيشي , ولكن ربما ينغص عيش أولئك الذين يتجاوبون مع افكاره ومواقفه السياسية ويتحملون عبر التضحيات والإحباط.
-6-
أود ابتداءً أن أصحح سوء الفهم الذي حصل في ما كتبته حول موقف يوسف سلمان يوسف (فهد) من قرار التقسيم في العام 1948. لقد كان موقف الحزب الشيوعي العراقي بقيادة فهد ضد تقسيم فلسطين وضد الصهيونية , باعتباره نهجاً قومياً شوفينياً وعنصرياً توسعياً ومطية الاستعمار البريطاني. وكان يدعو إلى دولة فلسطينية وطنية تضم إليها أتباع كل الأديان والمذاهب الدينية دون تمييز وساند حينذاك نضال الفلسطينيين للتخلص من الهيمنة الاستعمارية البريطانية. وقد ساند الحزب الشيوعي العراقي لهذا الغرض أيضاً , المبادرة التي أطلقتها جمهرة من الشيوعيين اليهود العراقيين أعضاء الحزب الشيوعي , من أجل تشكيل “عصبة مكافحة الصهيونية”. وقد تأسست هذه العصبة فعلاً وحصلت على إجازة عمل رسمية ونشطت واصدرت جريدتها “العصبة” وعقدت مؤتمرها الأول ومارست الكثير من الفعاليات وأصدرت العديد من الكراسات لصالح وحدة فلسطين ونشرتها بين الأوساط اليهودية وغير اليهودية في العراق. وفي حينها أيد نوري السعيد قيام هذه العصبة وأعطى تصريحات قوية لصالحها. ولكن سحبت إجازة هذه المنظمة الديمقراطية ومنع نشاطها وقدم قادتها إلى المحاكمة من قبل الحكومة العراقية بعد أن عرف قادة الحكومة أن المبادرة جاءت من الشيوعيين اليهود وغير اليهود. وكانت المحاكمة مهزلة حقاً نشر عنها الكثير , ومنهم الدكتور الراحل عبد اللطيف الراوي وعبد الرزاق الصافي وكاظم حبيب. كانت القوى اليسارية والديمقراطية أول من نظم وقاد تظاهرة في العراق مناهضة للصهيونية واحتجاجاً على زيارة السير الفريد موند إلى العراق في العام 1928. (راجع في هذا الصدد كتاب حسين الجميل (العراق شهادة سياسية 1908-1930, دار اللام, لندن) وكتاب زكي خيري (صدى السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم) وقد ضربت وفرقت الشرطة العراقية هذه التظاهرة واعتقلت العديد من المشاركين فيها وقدموا للمحاكمة , كما طرد العديد من الطلاب من مدارسهم.
وحين كان فهد في السجن تسلم في العام 1948 , وبعد صدور قرار التقسيم , تقريراً كتبه الدكتور يوسف إسماعيل , أحد كوادر الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يعيش في باريس في حينها , وهو أخ الراحل عبد القادر إسماعيل , عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سابقاً , يشرح فيه الموقف من قرار التقسيم ويدعو الحزب إلى الاعتراف بالتقسيم. اعتبر فهد أن التقرير لم يأت بجديد ورفض من حيث المبدأ الاعتراف بالتقسيم وكان يدعو إلى دولة فلسطينية علمانية تضم العرب واليهود والمسيحيين على حد سواء. ولكنه في المحصلة النهائية ترك الأمر لقيادة الحزب وبالتنسيق مع الأحزاب الشيوعية في الدول العربية. ثم أعترف الحزب بالتقسيم في ضوء اعتراف الاتحاد السوفييتي وليس اجتهاداً منه. هذا من حيث الموقف التاريخي للحزب الشيوعي العراقي , والنص الذي أورده الأخ المحامي السيد سالم عبيد النعمان في كتابه الموجود في مكتبتي صحيح , ولكنه ناقص , إذ أن فهداً لم يقف في المحصلة النهائية ضد قرار التقسيم بل أيده قبيل استشهاده في العام 1949 , لأنه كان قرار الاتحاد السوفييتي وقرار قيادة الحزب في العراق. كان لا بد من هذا التوضيح لإبعاد الالتباس الذي حصل بشأن التقرير وموقف فهد.
أختلف مع تحليل السيد كيله في محاولته العودة في الموقف إزاء القضية الفلسطينية إلى البدايات الأولى لصدور قرار التقسيم في العام 1947 , إلى المربع الأول كما يقال في الصحافة أو نقطة الصفر , إلى طرح شعار القوى القومية والقوى الإسلامية السياسية الذي طرحته ولا تزال متمسكة به والذي يدعو إلى إزالة دولة إسرائيل وإعادة بناء الدولة الفلسطينية على كامل الأرض الفلسطينية قبل قرار التقسيم. إن الموقف الجديد لبعض القوى القومية اليسارية التي التقت اخيراً وكونت تكتلاً لهذا الغرض وينتسب إليه السيد كيله وقام بعض أعضاء هذا التكتل بجولة نقاش مع بعض القوى الماركسية والشيوعية في الدول العربية , والذي يلتقي من حيث الدعاية مع موقف حزب البعث السوري في إزالة “كيان العدو الصهيوني” من فلسطين , وليس من حيث موقف حزب البعث السوري الفعلي الذي يقبل بوجود غسرائيل ويسعى للتفاوض لتحرير الجولان , والذي سوف لن يثمر أكثر من غياب أجزاء أخرى من الأرض الفلسطينية الراهنة لصالح الدولة الإسرائيلية التي اتسعت باغتصاب أجزاء من فلسطين تفوق مساحة القسم الذي خصص لها في قرار التقسيم. وإذا كان شعار إزالة إسرائيل مناسباً للسيد سلامه كيله وقادراً على تحقيقه , فله كل الحق في حمله والعمل من أجله , ولكني سوف لن أحمله معه , بل سأعمل كمواطن عراقي وعربي لصالح القرار الذي يدعو إلى إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية على الأرض التي كانت للدولة الفلسطينية المفروض إقامتها قبل حرب الأيام الستة في العام 1967 , وهو القرار الذي تتفق عليه أكثرية الفصائل الفلسطينية , بغض النظر عن اعترافنا أو عدم اعترافنا بـ “منظمة التحرير الفلسطينية” , وهو نفس الموقف الذي أتخذه وأيده الراحل ياسر عرفات والبرغوثي في سجنه. ولا أجد أي مسوغ لي للدخول بحوار مع السيد كيله لا يقود إلى ما يخدم الشعب الفلسطيني , كما أرى , بل يتسبب بالمزيد من الآلام والمآسي والضحايا لهذا الشعب. أتمنى أن لا يخلق موقف السيد كيله أوهاماً في الصف الفلسطيني بعد كل المعاناة التي عاشها هذا الشعب طيلة العقود الستة المنصرمة.
يبدو لي أن السيد كيله يقرأ مقالاتي ولكنه لا يرى إلا كلماته ولا يسمع إلا صوته. ففي مقالي الأول والثاني الذي بدأ النقاش حولهما أكدت بوضوح مجموعة من المسائل الأساسية التي لا أجد مبرراً إلى إعادة نشرها والتي يمكن العودة إليها ومنشورة في أكثر من موقع إلكتروني.
هذا هو الموقف العام الذي أؤيده , ومن حق الآخرين اتخاذ الموقف الذي يرونه مناسباً والذي أدرك منذ الآن العواقب الوخيمة التي سوف تترتب عنه وعليه إن واصلت هذه القوى طرح شعار إزالة دولة إسرائيل , كما يفعل محمود أحمدي نجاد عبر سياساته غير المسئولة ومعه بعض القوى القومية العربية اليمينية المتطرفة أيضاً التي سوف لن يحصد الشعب الفلسطيني من ورائها غير المرارة والخراب والكثير من الضحايا البشرية.
حين نختلف في الموقف الأساس , تبقى الأمور الأخرى تفاصيل لا معنى للنقاش حولها. فمن يدعو إلى إزالة إسرائيل وعدم الاعتراف بها سيعمل كل شيء من أجل إبقاء الجمرة مشتعلة , كما سيعمل من أجل استمرار نزيف الدم ليزيد من مشاعر الكراهية والحقد والموت ليصل , كما يعتقد , في يوم من الأيام إلى غايته في إعادة بناء الدولة الفلسطينية على أرض فلسطين التي كانت عليه قبل قرار التقسيم. وسيجد دون أدنى ريب في إسرائيل قوى سياسية مؤيدة لاستمرار هذا الصراع والمناوشات والحروب الصغيرة على شاكلة حرب لبنان وغزة لأنها مفيدة لها ولتصوراتها في ابتلاع كل ما تبقى من فلسطين , وهو النهج القومي الصهيوني العنصري المتطرف. حين يرتفع صوت التطرف الأعلى عند الطرفين , يغيب عندها العقل وصوت الاعتدال والحل المطروح من جانب مجلس الأمن الدولي ومشروع السلام العربي , ونبقى نناضل من اجل إعادة بناء ما تخربه كل حرب ونفقد في كل مرة المزيد من الأراضي والبشر. إنها مأساة شعب لا يراد له من بعض قواه وقوى أخرى في إسرائيل وإيران الراحة والاستقرار والسلام , ويجد في الطرف الثاني من يساند ذلك وسنبقى ندور في الحلقة المفرغة , في وقت يعتقد البعض بأن الحكومات العربية قادرة كلها على نجدتهم ومساعدتهم في تجاوز الصعاب. وهو أمر ليس فقط محفوف بالمخاطر , بل خادع بالأساس.
فرحت حماس وظهرت البسمة على وجوه قادتها أصحاب اللحى بحصولها على مليار دولار من المملكة السعودية لإعاد بناء ما خربته الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة , واطلاق الملك عبد الله آل سعود كلمة لا تحقق الشيء الكثير حين قال بأن مشروع السلام العربي الموضوع على الطاولة لا يمكن أن يستمر طويلاً. وماذا بعد؟ لا شيء. لم يكن ضرورياً هذا المليار لإعادة ما خربته الحرب الأخيرة , بل كان ضرورياً منحه لتوسيع البناء وتعزيز البنية التحتية ومواجهة عذابات أهل غزة بعد الانقلاب الذي نفذته حماس على السلطة الشرعية التي كانت تقودها. وحالما سمع خالد مشعل بالمليار دولار طالب بمنحها لحماس وليس للسلطة الحرامية , وكأنهم ليسوا بحرامية , أو أن يصرفها المانح مباشرة. وهذا الموقف يكشف عن الكثير من الأمور التي يعرفها كل متتبع لأوضاع فلسطين ومحنته مع قياداته.
كانت حماس تدرك تماماً بأن إسرائيل مستعدة لتوجيه ضربة قاسية وشرسة ضد قوى حماس والشعب في غزة , ولكنها مع ذلك أنهت اتفاق التهدئة بإصرار , وبهذا قدمت الذريعة التي كانت تنتظرها إسرائيل لتضعها أمام أنظار العالم لتبرر الحرب العدوانية التي خاضتها ضد أهل غزة. ولكن منظمة حماس كانت هي الأخر تريد هذه الحرب , كانت تريد هذا الموت الواسع , هذا الخراب المرعب , هذه الهجرة للسكان من منازلهم , هذا السيل من الدماء , لأنها تعبر ذلك الصيغة والوسيلة الوحيدة لإبقاء هيجان العواطف ومواصلة النزاع واستمرار حمام الدم من طرف واحد , في الطرف الفلسطيني. إن حماس تعتبر هذا الموت قدراً من إلهها ولكنه ليس ن إله الناس البسطاء في غزة وعموم فلسطين , إنها تريد الدم الذي ينزف دماً والذي يصرخ بهستيرية هل من مزيد. هذا ما تريده حماس , وهذا ما يريده العنصريون المتطرفون , ومنهم اقطاب الحكومة في إسرائيل على حد سواء. إن حماس , سواء أكانت تأتمر بأمر إيران وحزب الله في لبنان أم بأمر الأخوان المسلمين على الصعيد العالمي أم بأمرها في ما أقدمت عليه من مغامرة , فالحصيلة واحدة , تعددت الأسباب والموت واحد. وهذه المغامرة التي مارستها حماس ليست مقاومة , بل عمليات انتحارية لا يموت قادتها , وخاصة أولئك الذين يقبعون في دمشق , بل اختطف الموت 1200 إنسان من بنات وابناء الشعب الفلسطيني. لقد كانت حماس تدرك بأن ليس من وراء هذه الحرب ما يمكن أن يتحقق لصالح الشعب الفلسطيني , ولكن كانت تدرك أيضاً بأن هذه الحرب ستشق أكثر فأكثر وحدة الصف الوطني الفلسطيني ووحدة الصف العربي الرسمي والذي تجلى في قمة قطر ذات المعايير المزدوجة , وقمة شرم الشيخ , ثم القمة التي دعت إلى نسيان الخلافات. فهل ستنتهي حقاً هذه الخلافات بنداءات الملك عبد الله أل سعود والسيد عمرو موسى , في وقت نتابع وجود قوى متربصة تريد استمرار الخلاف والنزاع العربي ولن ينفع المليار دولار والكلمات اللطيفة في حل مأساة الشعب الفلسطيني وابتلائه بمنظمة حماس المتطرفة وقوى أخرى غير إسلامية سياسية ولكنها واقعة تحت تأثير قرارات ومواقف حماس والإخوان المسلمين ومحمود أحمدي نجاد ومرشد الثورة الإسلامية في إيران وحسن نصر الله؟
لقد توقف العدوان الإسرائيلي وانسحبت القوات الإسرائيلية من غزة , ولكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا حققت حماس للشعب الفلسطيني ولشعب غزة غير الموت والدمار بهذه المتاجرة الرخيصة بالشعارات؟ وهل سيساعد ذلك على دحر التطرف الإسرائيلي أم ستعتبر هذه القوى أن الحروب القصيرة والسريعة والكثيفة هي الأداة المناسبة لفرض الإذعان على القوى المتطرفة في فلسطين وعلى الشعب الفلسطيني كله؟ أليس من الغريب أن يرتفع صوت حماس وكأنها المنتصرة في هذه المعركة ذات الطرف الواحد؟ أليس غريباً أن يرتفع هذا الصوت البائس لخالد مشعل عبر الفضائية العربية ليعلن بلا حياء وبلا مسئولية انتصار حماس في الحرب ضد إسرائيل؟ إلا يستحي هذا المستبد القابع في سوريا حين يرى أمامه أكثر من 1200 شهيداً من بينهم 400 طفلاً , و5000 جريحاً ومعوقاً وخراب ودمار هائل وأوضاع نفسية مريرة ومعقدة في غزة ثم يصرح بأن حماس انتصرت في غزة ولأول مرة في تاريخ العرب؟ ألا يذكرنا هذا بإعلان المستبد بأمره الراحل صدام حسين عن انتصاراته الخارقة وهو في اسوأ حالات إنكساراته العسكرية وتدمير الشعب العراقي , سواء أكان ذلك في “أم المعارك” أم “أم الحواسم”. عقلية المستبدين واحدة ومصيبة الناس بهم واحدة والعواقب مرعبة!
إن الوعي الديني المتطرف والمتخلف والسلفي المشوه لحماس , إضافة إلى معاييرها وممارساتها , هو الذي يقف على رأسه ويصعب أو يستحيل إعادته ليقف على قدميه. ولن تساهم سياساتها , رغم النداءات , في إعادة الوحدة معها لأنها لا تريد هذه الوحدة , بل تريد فرض إرادتها على الشعب الفلسطيني , فلها أجندتها السياسية التي لا تتوافق مع مصالح الشعب الفلسطيني بغض النظر عن التأييد الذي حققته في الانتخابات السابقة , بسبب خيبات الأمل من سياسات منظمة التحرير الفلسطينية وفساد أجهزتها والكثير من قادتها وسياسات إسرائيل العدوانية والمواقف الدولية غير العادلة إزاء الشعب الفلسطيني والمتحيزة كلية لصالح إسرائيل. إن حماس لا تريد المصالحة بل تريد الهيمنة , وستعمل كل ما في وسعها لتخريب التوجه صوب المصالحة مع قوى السلطة الوطنية.
إن هذه الحلقة المفرغة التي تدور بها القضية الفلسطينية والعلاقات العربية الإسرائيلية لن تكسر ما لم تتوقف إسرائيل عن سياساتها العدوانية وتقر مشروع السلام العربي , وما لم تنه احتلالها للأرض العربية التي وقعت منذ حرب العام 1967 , وما لم تنشأ الدولة الفلسطينية الوطنية على أرض فلسطين قبل حرب 1967 وحل بقية المشكلات بما فيها مشكلة لاجئي 1948 , وما لم تتوقف القوى المتطرفة عن مواصلة عملياتها التي تساهم في المزيد من التعقيد والموت والخراب. كما يجب على إسرائيل أن تنصاع لقرارات مجلس الأمن الدولي وأن تنهي احتلالها للجولان السوري ومزارع شبعة اللبنانية.
إن من واجب السلطة الفلسطينية والدول العربية العمل على رفع دعوى قضائية ضد الدولة الإسرائيلة وحكومة أولمرت بسبب المجزرة البشرية التي مارستها وارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة تدين الشعوب استخامها , إضافة إلى التدمير الهائل لمساكن الناس الأبرياء وتشريدهم وتدمير بنايات ومؤسسات الخدمات الاجتماعية التي تسببت بها في غزة لدى محكمة لاهاي الدولية والمحكمة الدولية للجرائم التي ترتكب ضد حقوق الإنسان لمقاضاتها وإنزال العقوبات بها , كما لا بد للجمعية العامة للأمم المتحدة أن ترفع دعوى قضائية لدى الجهات الدولية القضائية ضد الحكومة الإسرائيلية بسبب ضرباتها الجوية لمؤسسات تعليمية تابعة للمنظمة الدولية وموت الكثير من الأطفال والناس الأبرياء بسببها.
ويبدو لي ضرورياً تقديم دعوى قضائية في فلسطين ضد حماس بسبب الانقلاب الذي قامت به في غزة وبسبب سياستها التي أنهت التهدئة دون العودة إلى السلطة الفلسطينية لاتخاذ قرار مشترك وقدمت بذلك الذريعة التي كانت تنتظرها إسرائيل واستخدمتها دولياً لممارسة ذلك الإرهاب الدولي ضد شعب غزة والتغطية عليه.
ربما سيكون في مقدور إدارة باراك أوباما الجديدة أن تقدم شيئاً جديداً لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والفلسطيني-العربي , خاصة وأنها بدأت بخطوات اعتبرت إيجابية في هذا الصدد. أملي أن يجد الشعب الفلسطيني في ذلك خطوة مقبولة للسير صوب حل هذا النزاع وفق القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية. والموقف الذي يفترض أن تتخذه الإدارة الأمريكية الجديدة يتلخص بالتخلي عن الانحياز المطلق لإسرائيل , حقاً أم باطلاً , والذي لا يخدم مصالح الشعبين في فلسطين وإسرائيل من حيث الأساس , كما لا يخدم مصالح تعزيز الصداقة مع الشعب الأمريكي والأمن والسلام والتقدم في المنطقة , وهو مناهض للشرعة الدولية المتمثلة بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والتي ترفض إسرائيل تنفيذها بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحلقة هي الأخيرة والتي تنهي نقاشي المباشر مع السيد سلامة كيله ولن أعود إليه , بعد أن وضح كل منا موقفه بشأن القضايا التي استوجب النقاش حولها , ولكن النقاش ربما سيبقى مفتوحاً للآخرين , وهو شأن من يرغب بمواصلته. شكراً لمن ساهم بالتعليق , سواء أكان مع ملاحظاتي أم بالضد منها. وشكراً للأستاذ سلامة كيله على حفاظه على الأجواء الهادئة والأخوية في النقاش.
25/1/2009 كاظم حبيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى