عن غزة والوضع العربي
سلامة كيلة
ما يجري ضد غزة يجب أن يطرح الأسئلة أكثر مما يثير الانفعالات. فما يجري هو مجزرة، وما من شك في أن الهدف الصهيوني منذ فرض الحصار والقتل البطيء لسكان غزة، والقصف المستمر، ثم الآن القتل والتدمير الشاملين، كلها وما سيأتي بعدها، هو إنهاء “مشكلة غزة”. الكثافة السكانية العصية على السيطرة، والعصية على الترك النهائي. حيث أن النتيجة المتوخاة هي وضع السكان في ظرف يفرض على كثيرين منهم الرحيل.
لكن، ماذا يمكن أن نفعل من أجل أن نمنع ذلك؟ هل يكفي تحرّك الشارع العربي؟ لقد تحرك في كل اللحظات المشابهة دون أن يمنعها أو يجعلها لا تتكرر.
قبل الحرب الإمبريالية الأميركية على العراق سنة 2003 جرت نقاشات عديدة في الإعلام الأميركي، وفي الإدارة كذلك، حول رد الفعل المتوقع من “الشارع العربي” (كما كان يسمى آنئذ). وكان الشعور بخطورة الخطوة الأميركية يفرض على الإدارة طرح هذا التساؤل، حيث أن احتلال العراق هو تغير إستراتيجي عميق وخطير لكل المنطقة. لكن كانت النتيجة التي انطلقت منها تلك الإدارة عي أن “الشارع العربي” سوف يعبّر عن انفعاله ثم يركد إلى السكون، لأنه ينطلق عفوياً دون هدف سوى التعبير عن الانفعال. إذن، لتكن الحرب وليتحقق الاحتلال. وهذا ما حدث.
لهذا نرى كيف يتدمر العراق يومياً و”الشارع العربي” دون فعل سوى الحسرة والألم والاحتقان. وهو ما حدث في بداية الانتفاضة الثانية وخلال مجازر جنين في فلسطين، حيث خرجت الملايين في مصر والمغرب وكل البلدان العربية. لكن دون جدوى، حيث استمر القتل في فلسطين وتصاعد، واستمر احتلال العراق، وجرى الإمعان في القتل والتدمير فيه.
هذه هي المسألة التي تحتاج إلى تفكير، ونحن نرى مجدداً مجزرة جديدة، ومجازر أخرى قادمة. حيث أن المبدأ العام الذي ينطلق منه القادة في الولايات المتحدة والدولة الصهيونية هو: سكان عرب أقل. ليس كافياً، ولم يعد مفيداً، إصدار البيانات. وليس كافياً خروج مظاهرات الاحتجاج، لكي يعود الغاضبون إلى سابق عهدهم انتظاراً لمجزرة جديدة. حيث بات رد الفعل هذا دون تأثير، وخارج حساب السياسات الأميركية والصهيونية. فالفعل مؤثر يكرس تفاقم الهيمنة، والتوسع الصهيوني، والسيطرة الإمبريالية. بينما لا يعدو رد الفعل عن أن يقول أننا نحتج. طبعاً هذه ليست مشكلة الطبقات الشعبية، فهذه هي قدراتها وهي تتعامل بعفويتها. إنها تنشدّ إلى الحدث لتتفاعل معه في حركة انفعالية عفوية. لكنها يمكن أن تتحوّل عبر هذا الفعل إلى قوة. وهذا ما يحتاج إلى طرح الأسئلة.
إن وقف المجازر الأميركية الصهيونية لا يتحقق عبر البيانات، ولا بالمناشدات، وحتى بأشكال التظاهرات التي تحدث. وهذا ما يمكن أن نكرر اكتشافه عشرات المرات خلال مسيرة الصراع على الوطن العربي. فقط يمكن ذلك عبر الصراع. وإذا كانت النظم العربية متوافقة مع السياسة الصهيونية الإمبريالية، وتعمل على التكيف مع كل آليات سيطرتها، وتقدم لها الغطاء في كثير من الأحيان. وإذا كان “الشارع العربي” كعادته يتحرك، يعبّر عن غضبه، يتألم، يكبت ألمه، ثم ينكفئ لأن “لا حول ولا قوة” له، كما يعتقد هو، رغم أنه قوة التغيير والمواجهة، وهو القوة التي يمكن أن تعدل ميزان القوى في الصراع القائم. فكيف إذن، يمكن أن تغير في طبيعة الصراع بما يسمح بتغيير ميزان القوى؟
هذا هو السؤال الجوهري اليوم؟
بمعنى، كيف يمكن أن تتحول احتقانات الطبقات الشعبية، وردود أفعالها وانفعالاتها، وبالتالي تظاهراتها، إلى فعل يغير من طبيعة الوضع القائم؟ تغير من ميزان القوى ومن التحكم الإمبريالي الصهيوني في كل الوطن العربي؟
المشكلة هنا هي أن النظم العربية هي المعنية بضبط الوضع في كل بلد عربي، وبالتالي تكبح كل ميل لمقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني. وهو الأمر الذي يفرض التفكير في هذه الوضعية ملياً. مما يفرض تحويل هذا الاحتقان، وهذه التحركات ضد النظم أولاً من أجل التغيير، في سياق بناء نظم معنية حقيقة بمواجهة الوجود الإمبريالي والدولة الصهيونية. خصوصاً وأن تلك النظم تمثل طبقات تتشارك مع الرأسمال الإمبريالي في نهب الطبقات الشعبية ذاتها، ومن الوضع الاقتصادي المزري الذي توجده.
لقد أنتجت نكبة فلسطين سنة 1948 حراكاً في كل الوطن العربي قاد إلى تحقيق تغيرات كبيرة، حيث سقطت نظم وانتهت طبقات. وإذا كان ذاك التغيير لم يؤسس ما يحقق الاستقلال والتطور، وبالتالي إنهاء الوجود الصهيوني والسيطرة الإمبريالية، فإن الوضع الراهن يفرض أن تتحقق تغيرات كبيرة، ليس فقط من أجل وقف المجازر ومنع الاستباحة التي يعانيها الوطن العربي فقط، بل من أجل الاستقلال والتطور وتحقيق مصالح الطبقات الشعبية تلك.
إن المطلوب اليوم هو تحويل الانفعالات إلى فعل، وتحويل الحشود الغاضبة إلى قوة تغيير. تغيير النظم التي هي امتداد للسيطرة الإمبريالية والوجود الصهيوني. لكي يكون ممكناً بناء القوى القادرة على تغيير ميزان القوى لمصلحة العرب، وبالتالي المنع النهائي لكل القتل والمجازر والتدمير والنهب الذي تمارسه القوى الإمبريالية الصهيونية.
والرد يجب أن يوضع في إطار مشروع تحرري عربي، يعبّر عن الطبقات الشعبية، ويسعى لتحقيق سلطتها. وهذه النقلة هي مهمة اليسار.