برهان غليونصفحات سورية

إلى ميتشل: من يشعل الحرب؟

null
د. برهان غليون
في كلمته التي أعقبت تعيينه مبعوثاً للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، قال جورج ميتشل: لا يوجد نزاع لا يمكن حله، لأن النزاع لا ينشأ تلقائياً ولكنه يبعث ويصنع ويغذى باستمرار. وهذه في نظري بداية مشجعة للمبعوث الأميركي إذا كان يعني بالفعل ما يقوله. ويكاد يختلف هذا الكلام إلى حد التناقض مع ما تضمنه خطاب رئيسه الذي وقع قرار تعيينه في منصبه، والذي كان أقرب في التصور الذي أعلنه إلى الرئيس السابق جورج دبليو بوش في تأكيده على تعهد الولايات المتحدة بالدفاع عن إسرائيل وضمان أمنها من دون أي إشارة إلى أصل المشكلة وجوهرها، أعني الاحتلال الإسرائيلي.
السؤال الرئيس يبقى بالفعل: من المسؤول عن خلق النزاع العربي الإسرائيلي وإدامته؟ هذه في اعتقادي هي نقطة البدء المنطقية والعملية لأي مبادرة تستهدف إنهاء النزاع والتغلب على عوامل استمراره.
بالنسبة للأميركي العادي، وجميع أولئك الذين يناصرون إسرائيل ويحرصون على إرضائها، يظهر العرب وكأنهم السبب في تفجير النزاع واستمراره، لرفضهم الاعتراف بإسرائيل منذ البداية، ومعاملتهم كدولة مختلقة، ولدت في أذيال السيطرة الاستعمارية، وشنهم حروباً متتالية، نظامية وفدائية، عليها. فرفض العرب إسرائيل التي ولدت بقرار أممي، ثم التدخل عسكرياً، لدى ولادتها، لمحوها من الخريطة، هو الذي يفسر في نظر هؤلاء جميعاً ولادة استراتيجية الردع العسكري الإسرائيلية، وتبني تل أبيب، قبل إدارة بوش بعقود طويلة، نظرية الحروب الوقائية التي لم تكن حرب غزة الأخيرة سوى مثال ساطع لها، وانخراطها في سياسات الاحتلال وتطويرها المشاريع الاستيطانية، لتعزيز قوة الدولة العبرية وتمكينها في المنطقة، وإجبار العرب على التعايش معها، وربما الخضوع لأوامرها والانصياع لإرادتها.
تسيطر هذه النظرة على الرأي العام الغربي، الرسمي والشعبي، وتتجلى عبر تصريحات مسؤولي الدول الغربية وسياساتها اليومية، حتى ليكاد المسؤول الغربي لا يشعر بأي تناقض ولا تمييز عنصري في تبني معادلة تتجاهل كلياً الحقوق العربية مختزلةً حقوق الشعب الفلسطيني فى تأمين الحاجات الإنسانية، بينما تركز على تحقيق الأمن المطلق لإسرائيل، وتتعهد في سبيل ذلك بالابقاء على تفوقها العسكري والاستراتيجي الساحق كشرط للاستقرار والسلام. وهذا ما يفسر تدجيج إسرائيل بالسلاح وإشراكها في ثمار التقدم العلمي والتقني، وتوفير الغطاء السياسي والدبلوماسي لحروبها وحملاتها على جيرانها. فإسرائيل مهما كانت قوتها العسكرية تبقى في نظر الغربيين مهددة، ومحتاجة إلى الدعم والتعزيز. أما العرب فهم مصدر تهديد لإسرائيل مهما ضعفت حيلتهم العسكرية وتعددت انقساماتهم الداخلية. ومن هذا المنظور كل ما تقوم به إسرائيل مشروع ومطلوب: من مراكمة الترسانة العسكرية، وضمنها السلاح النووي المرفوض لغيرها، إلى شن الحروب الوقائية، إلى احتلال الأراضي العربية والتمسك بها، إلى شن الحملات الانتقامية لإرهاب المدنيين وردع الشعوب العربية.
في هذا المنظور لا تنتفي أي شرعية للكفاح العربي ضد السيطرة الإسرائيلية فحسب، بل أكثر من ذلك تتحول كل مقاومة للقهر أو للتوسع أو للحروب الإجهاضية والانتقامية الإسرائيلية إلى تأكيد على “الخطيئة” العربية الأصلية التي هي رفض وجود إسرائيل وقيامها. يجعل هذا التفكير كل شيء مبرراً: الاحتلال والحرب والقتل الجماعي معاً. وهذا ما حصل ويحصل يومياً منذ أكثر من نصف قرن بين العرب والإسرائيليين.
من هنا لم يتردد مسؤول غربي واحد في تأييد الحملة الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، ولم ير في القتل الذي تعمدت أن يكون وسيلتها للردع، أمراً منافياً للقانون الدولي أو للقيم الإنسانية، بل “حرباً دفاعية”، كما ذكر رئيس الاتحاد الأوروبي للدورة الحالية. وكما سيذكرنا بذلك الرئيس الأميركي الجديد الذي تعهد بضمان واشنطن أمن إسرائيل وحمايتها، وأكد على حقها في الدفاع عن نفسها ضد الفلسطينيين، مقابل تعاطفه مع المدنيين الفلسطينيين! فهذه المعادلة لم تتغير ولا يمكن أن تتغير طالما أن العرب هم الظالمون والإسرائيليين ضحاياهم! فإسرائيل محقة في حربها حتى لو ارتكبت مجازر جماعية، طالما أنها تدافع عن قضية عادلة هي وجودها نفسه، أما الضحايا من المدنيين فهم يندرجون في خانة الخسائر الجانبية!
ما ينقص هذا التصور حتى تنقلب المعادلة رأساً على عقب هو ما يتجاهله جميع هؤلاء، وما يشكل أصل المشكلة، أعني الاحتلال. ففي هذا التجاهل الإرادي أو غير الإرادي يكمن فساد التصور الغربي بأكمله وعجزه أيضاً عن تصور أي مخرج ممكن للأزمة، وتأكيد ساسته ودبلوماسييه باستمرار على التعقيد الاستثنائي لوضع الشرق الأوسط وغياب إمكانية التوصل إلى حل. والواقع أنه لا يمكن الخروج من حلقة العنف إذا استمر المرء في تجاهل احتلال عام 1948 وإعلان الدولة اليهودية من جانب واحد وتشريد الفلسطينيين، كما لا يمكن التغلب على النزاع العربي الإسرائيلي إذا رفضنا الاعتراف باحتلال عام 1967 وما بعده ونظرنا إليه كمجرد إمساك بالأرض كوسيلة لردع العرب عن العدوان، وكذلك لا يمكن إدانة الاستيطان اليهودي في الأراضي العربية المحتلة إذا نظرنا إليه على أنه وسيلة لتعزيز فرص إسرائيل في حماية نفسها وضمان وجودها؟
استمرار السياسة الغربية في تجاهل واقع الاحتلال وحذفه من أي تصور للنزاع مقابل التركيز على التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها إسرائيل ليس برئياً ولا يعبر عن سذاجة سياسية، إنه أساس الاستراتيجية الغربية التي تعتمد على إسرائيل وتراهن على تفوقها العسكري والاستراتيجي للابقاء على نفوذها في أكثر منطقة حساسية جيوستراتيجية في العالم، وعدم السماح لشعوب بالاستقلال بشؤونهم والخروج من الفلك الذي فرض عليهم أن يظلوا يسبحون به. وهذا الغرب الذي يتجاهل احتلال إسرائيل، كما تجاهل احتلاله للمستعمرات السابقة، هو الذي خلق النزاع، وهو الذي يغذيه ويشعله متى يشاء، ويطفئ لهيبه عندما يشاء، وهو المستفيد الأول والأخير منه.
ما لم يعترف الغرب بأولوية مشكلة الاحتلال، لا يمكن التوصل إلى أي تسوية أو حل للنزاع، لا في عهد أوباما ولا في عهد من سيعقبه. فالاحتلال الأول الذي دمر المدن والقرى العربية وشرد أهلها وحول الجزء الأكبر من شعبها إلى لاجئين هو منطلق النزاع ومفجره، والسعي إلى الحفاظ على الوضع القائم والتوسع في الاستيطان، وإجهاض أي جهد عسكري أو سياسي عربي ودولي للتوصل إلى تسوية تضمن إرضاء الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية الشرعية، أي إقامة دولة فلسطينية لا تزال تل أبيب ترفض الاعتراف بها، وتحتل أراضيها، هو الذي يغذي النزاع ويديمه. إن إسرائيل المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالحلف الغربي الأطلسي هي التي تزعزع أسس الحياة السياسية والاقتصادية والإنسانية للشعوب العربية، وفي مقدمها الشعب الفلسطيني.
من دون الاعتراف بهذه الحقائق البسيطة سيكون بإمكان الغرب أن يبرر كل الخروقات السافرة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، بل ويغض النظر عن مشاريع نظام التمييز العنصري والتطهير العرقي التي لا مهرب لإسرائيل منها طالما بقيت متعلقة بالاحتلال ورافضة لأي مراجعة لسياستها التوسعية، أي طالما بقي الغرب ينظر إلى سياساتها الاستعمارية كدفاع عن النفس، ويجنبها أي ملاحقة قانونية أو مساءلة أخلاقية.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال ممتاز يكشف زيف أخلاقيات الغرب حين يتعلق الأمر بالعرب أو القضية الفلسطينية بشكل خاص, وفي الواقع يمكن الإبتعاد أكثر من ذلك بالقول بأن الغرب هو إسرائيل وإسرائيل هي الغرب, مع كل التقدير للحركات الإنسانية وتظاهرات المجتمع المدني في معظم الدول الأوربية التي أبدت إستنكارها لهمجية إسرائيل والحروب المتكررة على العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى