تباشير أوباما: هل يسترّد باليسرى ما تمنحه اليد اليمنى؟
صبحي حديدي
القرارات الأولى للرئيس الأمريكي باراك أوباما تميل إلى ترسيخ حال من التأرجح الوسطي بين قطبين متضادين من الطمأنة وإثارة القلق، الصواب والخطل، أو الجودة والرداءة لمَن يشاء، وذلك في مسائل جدّية كبرى، سياسية وأمنية كونية (الشرق الأوسط، أفغانستان، ما يُسمّى بـ ‘الحملة على الإرهاب’)؛ أو في أخرى دستورية وحقوقية عزيزة على خطابه الأخلاقي (ترخيص أو حظر التعذيب في المؤسسات الحكومية الامريكية).
وإذا كان البعض، وكاتب هذه السطور في عدادهم، لا يرون ضيراً في منح أوباما فضيلة الشكّ في أنه سيتولى تنفيذ أجندة تغيير داخلية أمريكية واسعة النطاق، وهذا هو الجوهر في سلسلة الأسباب التي حملته إلى البيت الأبيض رغم محتده ولون بشرته؛ فإنّ منحه الفضيلة ذاتها بصدد شؤون العالم ما وراء المحيط، وشجون بلداننا وأقاليمنا الشرق ـ أوسطية تحديداً، ليس محطّ ارتياب شديد فحسب، بل يتوجّب أن يكون محطّ يقين بأنّ الكثير من السياسات العتيقة ستبقى على حالها في البيت الأبيض.
ففي المسائل الأخلاقية، أصدر أوباما سلسلة أوامر رئاسية تنفيذية، قضت بإغلاق معتقل غوانتانامو خلال سنة (وليس خلال الـ 100 يوم الأولى من إدارته، كما وعد أثناء الحملة الإنتخابية)، وتضمنت تعليق محاكمات المعتقلين، كما أوحت بوقف عمليات التعذيب. وقال أوباما، في مراسم التوقيع على هذه الأوامر: ‘الرسالة التي نبعث بها إلى العالم هي أنّ الولايات المتحدة تنوي متابعة النضال الحالي ضدّ العنف والإرهاب، وسنفعل هذا بيقظة، وسنفعل هذا بشكل فعّال، وسنفعل هذا بطريقة تتطابق مع قِيَمنا ومُثُلنا’. ولن يكتمل هذا التصريح إلا بالعبارة اللاحقة، الدراماتيكية: ‘أستطيع القول، دون استثناء أو مواربة، إنّ الولايات المتحدة لن تعذّب’.
هل صدق أوباما، حقاً؟ كلا، بادىء ذي بدء، لأنّ الأمر التنفيذي ذاته يحظر على سائر موظفي الحكومة الأمريكية ممارسة التعذيب مباشرة، بانفسهم، ولكنه لا يحظر إشرافهم على عمليات التعذيب في أماكن أخرى من العالم (بينها، على سبيل المثال لا الحصر، إسرائيل ومصر والسعودية والعراق والأردن وسورية (وحكاية المواطن السوري ـ الكندي ماهر عرّار هي المثال الأشهر) وأثيوبيا والباكستان وأفغانستان وأندونيسيا وأوزبكستان وتايلاند والفليبين ونيجيريا وكولومبيا… وثانياً، لأنّ الأمر التنفيذي لا يمنع المؤسسات الحكومية الأمريكية من تمويل عمليات التعذيب، وتدريب المحقّقين، وتزويدهم بالمعلومات والمعدّات، على نحو يصفه الصحافي الأمريكي ألان نايرن في صيغة الطرافة السوداء هذه: الجلاد بالنيابة يحقّق ويعذّب في غرفة، والمندوب الأمريكي يجلس في الغرفة المجاورة، ولكنه يسمع ويدوّن ويلقّن!
والحال أنّ خيار ترخيص التعذيب كما اعتمده الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، ونظّر له نائبه ديك شيني، كان قد أسقط ورقة التوت وحدها عن تراث طويل في التعذيب الخفيّ، غير المباشر أو عن طريق التفويض والإنابة، بدأ منذ قرار وقف التعذيب الذي كان يُمارس علانية في فييتنام، كما تواصل بصفة خاصة في عهود ج. ف. كنيدي (السلفادور)، وبوش الأب وبيل كلينتون (هاييتي وغواتيمالا). ولعلّه ليس من المبالغة التأكيد بأنّ هذا النسق في التعذيب أسفر عن عذابات أكبر بكثير ممّا سبّبته أو كانت ستتسبّب به طرائق التعذيب الأمريكية العلنية، سواء من حيث اتساع النطاق الجغرافي لنسق يشمل عشرات البلدان شرقاً وغرباً، أو من حيث وحشية ‘تقنيات’ التعذيب ذاتها حين يُعهد بها إلى أنظمة استبداد ودكتاتوريات عسكرية لا تسري فيها سوى قوانين الطوارىء والأحكام العرفية.
ولأنه خبير على الأرض بمثل هذه الممارسات، وسبق للسلطات الأندونيسية ان أعتقلته بسبب تغطيته لإحدى المذابح في تيمور الشرقية مطلع التسعينيات، يتوقف نايرن عند تفصيل بالغ الخطورة في الأمر التنفيذي الخاصّ بوقف التعذيب. ذلك لأنّ النصّ يشير إلى حظر التعذيب بحقّ ‘شخص في عهدة، أو تحت السيطرة الفعلية لموظّف أو مستخدم، أو وكيل لحكومة الولايات المتحدة، أو موقوف داخل مقرّ تملكه، أو تديره، أو تسيطر عليه دائرة أو وكالة للولايات المتحدة، في أيّ نزاع مسلّح…’. والخطورة ذات شقّين، هنا: أنّ الأمر لا ينصّ صراحة على منع الأمريكيين من ممارسة التعذيب في مواقع خارج تصنيف ‘النزاع المسلّح’، من جهة أولى؛ وأنّ الغالبية الساحقة من المواقع التي تشهد معظم عمليات التعذيب بالإنابة، لا تُعدّ مناطق نزاع مسلّح في كلّ حال، من جهة ثانية!
كذلك يبدو أوباما وكأنه استردّ باليد اليسرى ما لاح أنه وهب باليد اليمنى، في الشؤون السياسية الكونية: إيجابيات تسمية السناتور الديمقراطي السابق جورج ميتشل مبعوث الإدارة إلى الشرق الأوسط، أتت عليها سلبيات (لكي لا نقول: فضيحة!) تسمية ريتشارد هولبروك مبعوثاً خاصاً إلى أفغانستان والباكستان. إذْ كيف يقرأ المرء الحكمة الرئاسية التي كانت وراء تسميتين متناقضتين، في آن معاً، وفي ذات اللحظة: رجل مثل ميتشل (حسن السمعة، ليبرالي، يحظى بمصداقية معقولة، وفي رصيده نجاح باهر في إرلندا)، وآخر مثل هولبروك (سيئ السمعة، بدلالة تستّره على رادوفان كراجتش، صقر في صفوف ‘المحافظين الجدد الديمقراطيين’، وحامل فشل ذريع في تيمور الشرقية كما في البلقان)؟
إجابة أولى تقول إنّ صمت أوباما، المشين تماماً، اثناء انفلات الوحشية الإسرائيلية من كلّ عقال في غزّة، والتشديد مجدداً على انحيازات البيت الأبيض الثابتة القديمة/الجديدة حول أمن الدولة العبرية وتجميل همجيتها، كان يقتضي ذرّ بعض الرماد في عيون العرب، عن طريق إرسال ميتشل: الرجل الطيّب الوديع الذي ولدته أمّ عربية لبنانية. وفي المقابل كان يقينه المتشدد، الذي ردّده مراراً وتكراراً، بأنّ أفغانستان هي الخطر الأوّل الذي يتهدد أمريكا، يقوده بالضرورة إلى إرسال ميتشل… ليس قبل أن تتكفّل قاذفة أمريكية بقتل 15 مدنياً باكستانياً، وتكون هذه هي أولى الدماء البريئة التي تسفكها أمريكا في عهد إدارة أوباما.
ومن الطريف أنّ سجلّ هولبروك، المهني والشخصي، كان يسير على نقيض تامّ من عبارة الإطراء الجوفاء التي استخدمها أوباما في توصيفه: أنه ‘أحد الدبلوماسيين الأكثر موهبة بين أبناء جيله’. ففي الملفّ الأندونيسي يحفظ التاريخ لهذا الدبلوماسي الأريب أنه، من موقعه كرئيس لمكتب شؤون جنوب آسيا والباسيفيكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، أوصى باستئناف إرسال شحنات الأسلحة إلى نظام سوهارتو، على الرغم من الحصار الذي كان مفروضاً على أندونيسيا بعد سلسلة مذابح أودت بحياة قرابة 200 ألف نسمة. ولم يكن غريباً أنه تعاون، بشكل وثيق وعلني وصاخب، مع أحد كبار المحافظين الجدد، بول ولفوفيتز دون سواه، لإبعاد شبح الحرب في تيمور الشرقية عن مسائل السجال العامّ حول السياسة الخارجية، وذلك خلال حملات الإنتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2000.
ومن غير المستبعد أن يكون أحد مستشاري أوباما قد نصح بتعيين هولبروك بعد إقامة مقارنة حرفية بين أدواره في توقيع اتفاقية دايتون في البوسنة والهرسك، على وقع قاذفات الحلف الأطلسي، وبين احتمال نجاحه في تحقيق السلام الأفغاني ـ الأفغاني… ما دامت القاذفات ذاتها تهدر في سماء أفغانستان! وإذا جاز القول بأنّ الحلّ العسكري في البلد أسفر عن فشل ذريع إثر آخر، وانتهى إلى نتائج معاكسة تماماً، فإنّ الحلّ الآخر العسكري لن يكون في متناول هولبروك وهو يحلّ في أفغانستان مؤمناً كلّ الإيمان بقرار أوباما برفع الوجود العسكري الأمريكي هناك، عدداً وعدّة، وفرض ‘الحلّ الأمني’ عن طريق القوّة. وبالطبع، لأنه من طينة المحافظين الجدد في الحزب الديمقراطي، سوف يتعنت هولبروك في الحوار مع مجموعات الطالبان، وهذا في ذاته نذير أوّل، وحاسم، بأنّ العملية السياسية لن تفضي إلى مخرج.
ولعلّ من حقّ المرء، مانح فضيلة الشكّ إلى أوباما في أجندة التغيير الجوهري داخلياً، ومانعها عنه في أجندة التغيير الجوهري خارجياً، أن يستذكر هنا سلسلة الأخطاء التي سردها الجنرال المتقاعد أنتوني زيني، في كتابه ‘جاهزية القتال’ الذي وقّعه مع الكاتب والروائي توم كلانسي، بصدد الغزو الأمريكي للعراق. إنها تصلح تذكرة لنا، في قراءة تباشير سياسة أوباما الشرق ـ أوسطية إجمالاُ. لقد اعتبر زيني أنّ إدارة بوش الابن ارتكبت العديد من الأخطاء، بينها: القناعة بأنّ سياسة الاحتواء غير مفيدة أو معطّلة، في حين أنّ الحقائق تقول إنها نفعت مع الإتحاد السوفييتي، وتنفع اليوم مع كوريا الشمالية؛ وثانياً، الاستراتيجية في ذاتها كانت خرقاء: ‘لم أستطع تصديق ما كنت أسمعه حول فوائد هذه الخطوة الاستراتيجية، وأنّ الطريق إلى القدس تمرّ عبر بغداد، حين يكون العكس تماماً هو الصحيح: الطريق إلى بغداد تمرّ عبر القدس’؛ وثالثاً، ذلك الخطأ الذي تكرّر منذ تجربة فييتنام، أي خلق المبرّرات الزائفة من أجل ضمان التأييد الشعبي لقرار الذهاب إلى الحرب؛ ورابعاً، ولعلّه الخطأ الأكبر في رأي زيني، هو الوثوق الأعمى برهط ‘حرب عصابات غوتشي’، التعبير الساخر الذي استخدمه في وصف المعارضة العراقية التي تعاملت مع البنتاغون بصفة خاصة، ولفّقت الكثير من المعلومات، وزيّنت لرجال الإدارة أنّ المغامرة العسكرية نزهة… أو لعلّنا، في التماس قراءة أخرى، نذهب إلى زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد كارتر، والمهندس الأبرز (حسب معظم التحليلات) وراء توريط السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك ‘الصناعة الجهادية’ التي أنتجت الطالبان والأفغان العرب وأسامة بن لادن… وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم. ومنذ سنة 2004، في كتابه ‘الإختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية’، حاول بريجنسكي تحديد موقع الولايات المتحدة في هذا العالم المعولَم، والقضايا التي تجابه السياسة الخارجية الأمريكية، كما اقترح سلسلة أطروحات خلاصية، أو طهورية متسامية حكيمة عقلانية، كما شاء الإيحاء. أطروحته بسيطة، وإنْ كانت حصيلتها عكسية وعواقبها وخيمة: الواقع العالمي بعد الحرب الباردة وزلزال 11/9 وضع الولايات المتحدة في موقع فريد لأمّة قادرة على تأمين الإستقرار العالمي من خلال السيطرة العسكرية، وقادرة في الآن ذاته على تهديد الإستقرار الدولي من خلال الوسيلة العسكرية إياها. وإدارة بوش الابن، بصفة خاصة، كانت أمام واحد من خيارين: إمّا الهيمنة على العالم، أو قيادته. والمؤشرات المتوفرة قادت بريجنسكي إلى اليقين بأنّ تلك الإدارة تميل، على نحو خطير، نحو الخيار الأوّل. وممّا له دلالة خاصة أنّ السياقات التاريخية، ساعة صدور كتاب بريجنسكي (البربرية الأمريكية في سجن أبو غريب، النازية الإسرائيلية في رفح، خطاب بوش أمام ‘اللجنة الأمريكية ـ الإسرائيلية للشؤون العامة’، الـ ‘إيباك’…)، أفقدت أطروحات الرجل من معظم جدواها الفكرية، لكي لا نقول إنها سحبتها ببساطة من السجال.
من غير المرجّح، مع ذلك، أنّ تباشير سياسات أوباما الشرق ـ أوسطية سوف تتفادى ما حذّر منه مجرّبون وصقور من أمثال زيني وبريجنسكي، فكيف بالطيّبين أو الخبثاء من أمثال ميتشل وهولبروك. إذْ من الجلي أنّ تلك السياسات محكومة بثوابت كبرى عريقة راسخة، وهي بالتالي ليست سياسات من صنع أوباما تماماً، أو من تدبيره بنسبة عالية تكفي لتصنيفها في خانة الجديد الذي يرى النور… تحت أية شمس!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –