عمار البيك: ليس لدينا في السينما السورية اسم خطير
السينمائي الجديد ينتمي الى سلالة من المعتزلين
راشد عيسى
الطريق إلى بيت عمّار البيك أشبه بمتاهة مدوّخة، يصرف المرء وقتاً بانتظار أن يكون المنعطف التالي هو الأخير. ليس من السهل الوصول إلى جادة إبراهيم الخياط في حيّ باب السلام. بعد عبور هذا الطين كلّه، الذي شكّل المتاهة، إذا خطر أن يتحدث المرء عن رومانسية الطين،
فإن عمّار سيحكي عن أشياء أخرى. هذه البيوت تبدي للزائر السائح فقط ذلك السحر، ولكنها بالنسبة إلى أهلها تعني تعب الطريق، وصعوبة الوصول إلى المشفى، وحتى إلى بائع المازوت. يقول عمّار «إن تجارة المطاعم هنا سرقت روح المدينة. الصمت روح المدينة. كان هناك جو تستطيع أن تشمّه وتسمعه. صارت العلاقة مع المكان معطوبة». حين تصل إلى تلك الغرفة على السطح، تعرف أن المشوار لم ينته، بل بدأ للتوّ. أي أسى تبعثه صورة ولد يعيش مع أمه وحيدين، كان هذا عمّار على ذلك السطح، في غرفة تطلّ على سماء صغيرة، وبرج حَمَام فقير. لم نعثر من قبل على سيرةÅلأحد السينمائيين يقدّم نفسه فيه على أنه «حميماتي»، لكن عمّار لا يرى في تلك المهنة هواية سابقة فقط، بل مشروعاً مؤجلاً. فالحميماتي بطل فيلمه الروائي الطويل الذي لا يزال قيد الورق. «الحميماتي» بالنسبة إليه «معتّر»، لا صوت له، لكنه على السطح ملك المدنية. هناك يفعل كل ما هو محروم منه في القاع.
غرفة على السطح فيها المفاتيح والإشارات كلّها التي تأخذ إلى عوالم هذا السينمائي والمصوّر. الوحدة أولاً تدفعك إلى تخيّل الأشياء كلّها التي صنعها هذا الشاب وحيداً بيدين عزلاوين. لا سند عائلياً، حيث لا أحد عمل في مهنة من هذا القبيل، وصولاً إلى أفلامه كلّها التي اشتغلها بعيداً عن المؤسّسة، في بلد يندر ألاّ يخرج أحد من معطفها. في تلك الصورة، التي وضعت قبالة باب غرفته، صورة جدّه لأمه، الرجل المتصوّف الذي لا يزال عمّار يحتفظ بشريط ورقي قديم ومهترئ الحواف، هو عبارة عن شهادات وثناءات من مشايخه فيه. لكن الصورة النائية وما حولها من غبار وعناكب، تذكّر بما يحاول عمّار قوله في شغله حيث «موضوعاته الرئيسة هي البشر وتفاعلهم مع الأماكن والأثر الذي يتركه الصمت على الأماكن المهجورة». كانت غرفة السطح، الضيقة من فرط ما حُشِرت الأشياء فيها، تتسع شيئاً فشيئاً، وتنفتح على حيوات وحكايات ومشاريع. هنا صورة لعمّار مع كاترين دونوف الممثلة الفرنسية الشهيرة، الحلم كما كان يراها. وهنا صورة لأعظم ممثلي القرن العشرين: شارلي شابلن بعصاه وقبعته وتثاؤباته الخالدة. وهنا حكاية والد أمه، التاجر الشامي الذي هاجر وحيداً إلى قبرص من دون عودة أبداً، بعد أن فتح هناك صالة للسينما.
إشارة مبكرة
كيف دخل عمّار عالم التصوير؟ يقول: «تبدأ القصة من عند مصوّر الهويات أيام المدرسة، وأنت ترى وتراقب انتظار تسعمئة طالب للكاميرا البدائية التي يملك. من محل التصوير من أجل الهويات الشخصية. تبدأ الحكاية من مشهد ذلك الصباغ المتروك على أظافر المصوّر. من كاميرا رخيصة يشتريها ولد عفريت ويصوّر أولاد الحارة، وسرعان ما يبدو الأمر حقيقياً مع أنه مجرد لعب أولاد. تبدأ الحكاية من صف الثالث الابتدائي، حين تعجبك معلمة الرسم، فتركز على صورتها أثناء الحصّة، وتغمض عيناً وتفتح أخرى لتنطبع صورة المعلمة الأحب في رأسك». مع ذلك، يصعب أن يتذكر عمّار لحظة محددة بدأتْ عندها «لعبة الضوء والزمن»، كما يحب أن يصف مهنة الفوتوغراف. لو أنه يشير بخجل، أو بتواضع ربما، إلى حادثة أخرى، لئلا يفهم أنها إشارة شبه قدرية للمصير السينمائي الذي سيؤول إليه عمّار البيك: «كنت أهرب من المدرسة، ولداً بين الأولاد، لأتفرّج على تصوير فيلم «أحلام المدينة». يتعثّر المشهد قليلاً، فيلتفت محمد ملص نحو الأطفال ويناديني من بينهم. أوقفني. أمسك برأسي. كنت أحس بأصابعه تثبّتني بقوة، وهو يشرح للممثل، فيما خطوط الطبشور تروح وتجيء بخفة على الأرض وهو يرسم الحركة. تركني ملص، فعدت إلى صفوف الأولاد المراقبين. في مرة أخرى، كنت واحداً من الأطفال الكومبارس أصرخ في التظاهرة: «خود عليك خود عليك/ عبد الناصر بين إجريك». لكن الشعور الذي طغى حينها لم يعد السينما والتمثيل، فقد كنت مستغرباً طوال الوقت كيف نشتم رئيساً. لم أكتف بهذا المشهد، فتسلّلت إلى مشهد آخر في الباص، مع ممثلين كبار. هناك، بانتظار التصوير، سمعت أول أحاديث السينما، وسمعت كلمة قرطاج لأول مرة. لكني لم ألبث أن لمحت أمي تأتي من بعيد تبحث عني. أنزلتني من الباص قبل أن أصوّر المشهد، بعد أن نزعت عنّي بقرف ملابس التمثيل. لقد ظلت هذه الحكاية تطبع علاقتي مع ملص، حتى بعد أن عملت معه مساعد مخرج في فيلم «باب المقام»…».
لما كانت الحكاية تشي برغبة طفل في أن يصير ممثلاً، سألت عمّار إن بقيت لديه هذه الرغبة: «أحب أن أكون ممثلاً، لكن بالتأكيد ليس في مسلسل سوري. أحاول الدخول إلى أفلامي كما يفعل غودار، أو كما أظهر في الفيلم الذي أكمله الآن وأنا أدافع عن عملي أمام لجنة السيناريو». هنا، يستطرد عمّار في الحديث عن غودار: «له ثلاثون ثانية في فيلم بعنوان «موسيقانا» هي أشرف ما قيل عن فلسطين. كانت تلك الثلاثون محرّضي لفيلم بعنوان «القدس HD»، بعد أن صرت أرى نفسي في المنامات على أسطح مدينة القدس، حيث الصمت والحجر».Åوإذا كان عمّار قد حقّق عدداً من الأفلام، من بينها «حصاد الضوء» (1997) و«نهر الذهب» (2002) و«كلاكيت» و«Jerusalem HD»، فإن فيلمه «إنهم كانوا هنا» (2000) كان الأكثر تعبيراً عن هواجسه، حيث الشغل على الأثر والفراغ. أما فيلمه المشترك، إخراجاً وإنتاجاً، مع هالة العبد الله «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» فقد كان له صدى واسع، وهو الفيلم الذي استطاع أن يصل إلى مهرجان البندقية. أسأل عمّار عمّا إذا كان الفيلم من وجهة نظر هالة، التي لسان حالها «أنا التي تحمل الزهور..»، فأين يقف هو في الفيلم؟ يقول: «أنا الذي يحمل الزهور إلى قبره أيضاً، ولو أني لا أعرف هذا الجيل الذي يتحدث عنه الفيلم. كنت أتمنى لو أني انتميت إلى جيل اليسار الذي لم أعشه، ولا حتى أي من أفراد عائلتي. لكني في النهاية أنتمي إلى بعض علامات هذا الجيل، من بينهم بالتأكيد دعد حداد وهالة العبد الله ويوسف عبدلكي. لا شك في أن لي اختياراتي في قلب هذا الجيل».
سلالة جديدة
لأن عمّار البيك يبدو مقطوعاً من شجرة المؤسّسة، كان عليّ أن أسأله عن الإنتاج، وعن كيفية استطاعته عمل هذه الأفلام كلّها بعيداً عن المؤسسة: «الفيلم الذي أنجزه الآن شعاره «ممنوع أن يكون هناك منتج أو داعم». تستطيع في هذه الغرفة أن تصل إلى العالم. تستطيع أن تنجز فيلماً «من لا شيء وبلا أحد». ثم يقفز عمّار إلى كتاب يعبده عن السينمائي الفرنسي روبير بريسون، ليبحث فيه عن مقطع يقول: «ينتمي مستقبل السينماتوغرافيّ إلى سلالة جديدة من المعتزلين الشبان الذي سيصوّرون الأفلام بإنفاق فِلْسِهم الأخير عليها، من دون أن يسمحوا للروتينيات المادية للمهنة أن تصادرهم». في هذا الفيلم، التقى البيك بالعديد من المخرجين العالميين وصوّرهم، من بينهم مانويل دي أوليفيرا وبيرناردو بيرتولوتشي وفريدريك وايزمان وألكسندر سوكوروف وسواهم، بالإضافة إلى آخرين ينوي تصويرهم كإيليا سليمان ويسري نصر الله. وعن معلميه في السينما، قال عمّار البيك: «لا أحد من المخرجين الذين يحفزوني على الشغل سورياً. هناك الفرنسي جان لوك غودار والإيرانيّ عباس كياروستامي واليابانية نعومي كاوازي. ليس لدينا في السينما السورية اسم خطير، لكن هناك أفلام راكمت شيئاً في تاريخ السينما السورية. أغلب السينمائيين السوريين تجدهم مشاريع أدباء، وهذا بالطبع على حساب المستوى البصري».
عمّار الذي يحضّر لمعرض تصوير ضوئي سيطلقه قريباً، وصف معرضه بـ«الجِدّة، فأنا أحب أن أشتغل في عالم جديد، ومرة أخرى حسب عبارة بريسون «الجدة ليست الأصالة ولا الحداثة»..». في مشغله، أنهى الفنان عمّار البيك للتو لوحة كبيرة جمع فيها إعلانات الألبومات الغنائية التي تزعجنا في الشارع والسرفيس. من هذا الخليط غير المفهوم، عمل لوحة تركيبية من صُوَر ساذجة، وفي زاوية اللوحة وضع بورتريه له، إلى جانب تخطيط للسمع أجراه لنفسه فعلاً، وقد أسمى اللوحة «علاج للسمع»، بعد أن كان صمّم أخرى بعنوان «علاج الرؤية».
(دمشق)