وضعية علمانية-: أفكار في شأن العلمانية والإسلامية والدولة
ياسين الحاج صالح
وضعية علمانية
أنت مسلم وأنا مسيحي، أنت سني وأنا شيعي أو علوي أو درزي أو اسماعيلي..، أنت مؤمن وأنا غير مؤمن،.. لكن أنت وأنا سوريان أو عراقيان أو مصريان أو لبنانيان…إلخ؛ ما هي شروط قيام علاقة عادلة بيننا كسكان بلد واحد؟
وبالتحديد، ما هي خصائص الدولة التي يمكن أن تضمن لنا مساواة تامة في الحقوق والسيادة والاحترام، وتكفل لنا حريات دينية ومدنية متكافئة؟ وأي وضع للدين لا يمس بالمساواة ضمن هذه الدولة؟ نقترح تعبير وضعية علمانية لتعيين العلاقة القلقة في بلداننا المشرقية بين التعدد الديني والمذهبي ووحدة الدولة والمساواة في الدولة بين متحدرين من أديان ومذاهب مختلفة. هذا لأن العلمانية تقترح ضمان المساواة عبر ترتيب علاقة الدين والدولة على الفصل بينهما كنصابين مستقلين. وهو ما يعني على الفور أن هناك مقرا واحدا للسيادة والعمومية الوطنية هو الدولة، فيما يترك للدين أن يعمل بحرية في “المجتمع المدني”. ولعل من شأن الانطلاق من الوضعية العلمانية أن يخرج تفكيرنا حول العلمانية من المأزق الذي يتخبط فيه، والذي يتسم بغلبة مقاربات معيارية ومجردة تدافع عن العلمانية وتثبت شرعيتها المبدئية و..تقف عند هذا الحد. أو قد تمضي إلى تقرير أن العلمانية هي الحل للمشكلات الطائفية لكن دون تفصيل أو برهان غير دائري (نعرف الطائفية بأنها حصيلة لغياب العلمانية، فيكون حضور العلمانية هو الكفيل بزوال الطائفية).
وواضح من تعريفها أن عبء معالجة الوضعية العلمانية يقع على عاتق الدولة، خلافا للطرح السائد عربيا الذي يتصور بالأحرى أن العلمانية ليست إلا موقفا من الدين. أي أن “العلمانية رأي في الدولة وليست رأيا في الدين” . ولذلك نفضل تعريفها بأنها تأميم الدولة بدلالة تكون الأمة من جماعات دينية ولا دينية متنوعة (وبالمقابل نعرف الديمقراطية بأنها تأميم الدولة بدلالة تكون الأمة من طبقات ومصالح اجتماعية وأحزاب سياسية). وتأميم الدولة يعني في الحالين أن تغدو المعادل السياسي العام لأمة المواطنين.
لا حاجة إلى القول إن سكان بلادنا ليسوا جميعا مسلمين، وأن المسلمين منهم موزعون على مذاهب متعددة، وأن المسلمين السنيين، وهم أكثر العرب، ليسوا موحدي الرأي، وبالقطع ليست أكثريتهم إسلامية. وأن هناك علمانيين بينهم، فيما تشكل الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى قاعدة “طبيعية” للعلمانية. وأن بين العرب والمسلمين، كما بين غيرهم من شعوب الأرض، من هم غير مؤمنين ومن هم “لا أدريون”. والأهم أن الاجتماع السياسي الحديث، ونحن منخرطون فيه بلا فكاك (الفكاك إن أمكن، لا يقل ثمنه عن تدمير مجتمعاتنا على غرار أفغانستان الطالبانية) هو اجتماع مولد للتنوع الاجتماعي والفكري والسياسي، للأحزاب والحركات والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية. ومن أبرز ما ولد اجتماعنا السياسي الحديث الإسلاميين بالذات، هؤلاء الذي يجعلون من أنفسهم مبدءا لمجتمعاتنا اليوم أو أصلا لها. ليس الإسلاميون في الواقع معطى بديهيا، ولا هم الأبوة البديهية والشرعية لمجتمعاتنا الراهنة التي يشكل مسلمون أكثرية سكانها، ولا هم استمرار بسيط لإسلام أبدي متماثل مع ذاته. إنهم تشكل تاريخي للإسلام، من نتاج تفاعله مع الحداثة، حداثتنا، بدرجة لا تقل عن العلمانيين والقوميين والليبراليين. هذه مسألة يتجاوز البت فيها إطار هذا المقال. وما تواجه به من مقاومة واعتراض إنما يصدر عن أن الالتباس بين الإسلام كمرجعية محترمة في مجتمعاتنا وبين الإسلاميين هو قوام شرعية وهوية هؤلاء. لهم مصلحة لذلك في اعتبار تبديد الالتباس، أي نقد التوظيف الاجتماعي والسياسي الذي يمارسونه لهذا الرصيد المشترك، عدوانا على الإسلام ذاته.
توليد الاجتماع الحديث لانقسامات شتى (واستقلالات شتى وذاتيات شتى..) يجعل الإجماع عملية شاقة يناط بناؤها بالدولة والسياسة، لا بالدين ولا بالثقافة. إن وظيفة السياسة هي بالضبط صنع الإجماع الوطني، فيما لا يكف الاقتصاد والثقافة والدين عن صنع الفوارق والتمايزات. ولا يتعدى الإجماع المبني بمشقة كبيرة تفاهما وطنيا عاما على قيم عليا مشتركة تتصل بوحدة البلاد والانتماء لها ووحدة مؤسساتها واحتكارها السيادة في مجالها الإقليمي والتمثيل الدولي.
كما لا ترتد الوطنية الحديثة الضامنة للمساواة إلى هوية أيا تكن، دينية أم قومية. والدولة وحدها إطار العام، فيما الدين بطبيعته متحيز لجمهور المؤمنين، والقومية لقاعدتها الإثنية.
على أن الوطنية الحديثة لا تولد تلقائيا من حل الوضعية العلمانية. الواقع أن حل الوضعية هذه، بما تعنيه من رفض أية هيمنة دينية، يضمن مساواة سلبية فقط، وبين الجماعات الدينية وليس بالضرورة بين الأفراد. ما يمكن أن يضمن مساواة فعلية هو التأميم الديمقراطي للدولة فوق تأميمها العلماني.
العلمانية ونقد الإسلامية
تأسيسا على مفهوم الوضعية العلمانية، نتساءل: هل يستطيع الإسلام المعاصر، على اختلاف تنويعاته، أن يجيب على مسألة المساواة في مجتمعاتنا المعاصرة؟ هذا ممتنع منطقيا قبل أن يكون متعذرا أو غير مقبول سياسيا. فمن يستطيع أن يقترح قواعد عامة تسوي بين المسلمين وغير المسلمين لا يمكن أن يكون الإسلام. هذا بديهي، فهو مجرد صيغة أخرى للقول إن ما يمكن أن يعم المسلمين وغير المسلمين (دوما هذا يعني غير المؤمنين، والمنتمين إلى مذاهب إسلامية أخرى الذين لا يتعرفون إلى أنفسهم تحت العنوان الإسلامي، فضلا عن “الكتابيين” الآخرين) لا يمكن أن يكون الإسلام، وما يمكن أن يعم المسيحيين وغير المسيحيين لا يمكن أن يكون المسيحية، أليس كذلك؟ والسيادة لما يعم. وما لا يعم لا سيادة له. فإن انتزع خاصٌ السيادة بالقوة حطم العام وصنع مجتمعا طائفيا. ومن يجيب على المطالب الأساسية للاجتماع السياسي الوطني، وبالتحديد من يمكنه ممارسة العنف المشروع ومن يستطيع ضمان المساواة للعموم، يحوز الهيمنة ويشغل موقع العام الوطني، أي الدولة. ومن لا يستطيع يغدو طرفا اجتماعيا أو حزبا سياسيا. ولأن “الشريعة” التي يجعل الإسلاميون تطبيقها جوهر “برنامجهم” لا تضمن المساواة (تميز بين المسلمين وغير المسلمين وبين الجنسين..) فإنه لا يصح أن تدين لها السيادة، أو أن يتولى قائمون بأمرها ممارسة العنف المشروع. فإن تولتها قسرا كان قسرها غير مشروع وطنيا وتسبب في تطييف المجتمع، أي انقسامه إلى طوائف متنافرة. وهذا يمنح المطالبة بسيادة القانون في بلداننا معنى مركبا: الاعتراض على سلطات استبدادية تضع نفسها ومحاسيبها فوق القوانين، وتثقب هذه بما لا يحصى من الاستثناءات؛ ثم الاعتراض على سيادة “الشريعة الإسلامية”. بالطبع لا يمس أن يلتزم مؤمنون بما يعتقدونها إلزامات إلهية. إنه يعني فقط فقدان الشريعة صفتي العمومية والقسر، ليغدو الالتزام بها طوعيا ومحصورا في أوساط المؤمنين بها. ومعنى ذلك أن الشريعة تمسي قانونا جزئيا يتحرك في نطاق “المجتمع المدني” وليس الدولة.
والمعنى المركب ذاك هو ما يغفله على العموم الديمقراطيون العرب الذين تمحورت تجاربهم المكونة حول نظم الاستثناء وحالات الطوارئ الدائمة. يشاركهم في ذلك عموم العلمانيين الذين يدفعهم تركيزهم على معارضة الدعوة إلى “تطبيق الشريعة”، إلى إغراق نظم الاستثناء وأحكامها في الظل. ويبدو لنا أن اختصاص العلمانيين بقضايا بعينها والديمقراطيين بقضايا أخرى (والليبراليين بدائرة اهتمام ثالثة، واليساريين برابعة، والقوميين بخامسة والإسلاميين بسادسة..) ، هو من مظاهر الأزمة الوطنية المزمنة والعميقة في بلداننا. ونسميها أزمة هيمنة لكونها متولدة عن تفكك الأكثرية التي تكونت بفضل الهيمنة القومية التقدمية بين خمسينات القرن العشرين والحرب اللبنانية في أواسط السبعينات، وافتقارنا إلى هيمنة جديدة صانعة لإجماع جديد. ولعل هذا الضرب من التخصص الإيديولوجي هو ما يجعل التيارات المذكورة ضعيفة أمام الطائفية. إذ يبدو أن نتائج تفكك الهيمنة إلى تيارات إيديولوجية جزئية تلتقي بنتائج التفكك الوطني إلى تكوينات اجتماعية أهلية. ولقاء الإيديولوجي بالأهلي هو ما ينتج الطائفية ويجعلها واقعا غير عكوس. فهو ضرب من “نقل الوعي” العام إلى تكوينات جزئية تكتسب بفضله قيمة سياسية.
والإسلام طرف أو “طائفة” في مجتمعاتنا اليوم، وليس “الدولة” لأنه لا يستطيع ضمان المساواة. ولا يمكنه أن يكون الدولة إلا بتوليد مشكلات كبرى. فاستيلاء طرف اجتماعي على الدولة هو أصل التطرف. وهو يرد الدولة إلى جهاز سلطة لا يستمر إلا بقدر ما يعمل تفكيكا للمجتمع المحكوم لا توحيدا، وإلا بقدر ما يلغي حريات السكان بدل أن يضمنها، وإلا بقدر ما يلجأ للقمع المنظم بدل الرضا والتفاهم. هذه كله بديهي ومبدئي، ينبع من مفهوم الدولة الوطنية أو الدولة الأمة. ولا نعرف أساسا للنقاش غير ذلك لا يفتح باب التعنت والعسف والتعصب، أي لا يغلق باب النقاش العقلاني.
وعليه فإن الفصل بين الدين والدولة مؤسس بصورة كافية على واقع أن الدين، الإسلام، جزء من مجتمعاتنا وليس كلها، وأن ما لا يمكن أن يفكر بالكل ويستوعب الكل لا يصح أن يكون الدولة. اليوم ننتقد دولنا القائمة لكونها دولا ليست لجميع مواطنيها. الإسلاميون أنفسهم يفعلون ذلك. “الدولة” ذاتها، أي نظم الحكم القائمة، لا تستند في مفهومها لذاتها إلى غير هذا المبدأ، لذلك تزعم أنها، بلى، دولة لجميع المواطنين. فإذا كنا نرغب في تكوين تصور أولي عما ستكونه دولة إسلامية في سورية مثلا فليس لنا أن نذهب بعيدا، يكفي أن ننظر إلى الدولة “القومية” الراهنة. بل إن الدولة الإسلامية ستكون طائفية من حيث المبدأ، فيما الدولة “القومية” طائفية لأسباب عملية، تتصل بضرورات البقاء ومقتضيات تماسك نخبة السلطة. ولا يمكن للدولة الدينية إلا أن تكون استبدادية أيضا لكونها تستمد شرعيتها من مصدر فوق بشري لا يحاسب ولا يساءل. وبالمناسبة هذا يدفع إلى تصور الفصل بين الدولة والقومية، فضلا عن الفصل بين الدولة والدين، كشرط للوطنية الديمقراطية في البلدان العربية.
ليس القول إن الإسلام دين ودولة، إذن، أقل من برنامج للاستبداد والتفكيك الاجتماعي. إذ كيف لدين المؤمنين أن يكون في الوقت ذاته دولة المواطنين؟ كيف لشريعة البعض أن تكون قانون الجميع؟ هنا أيضا هذا ممتنع منطقيا، قبل أن يكون مرفوضا سياسيا. والحال هنا الخصم الأقوى والأخطر للإسلاميين: المنطق، أو الإكراهات المفهومية الأقوى من أية إكراهات سياسية أو دينية أو أخلاقية.
بكل بساطة لا يمكن للدين أن يغدو دولة دون إكراه يخرب الدين والدولة كمفهومين، قبل وفوق تخريبهما كمستويين للحياة الاجتماعية. وكذلك لا معنى لاستبعاد حق المسلم في تغيير دينه أو فقدان إيمانه به من مبدأ حرية الاعتقاد دون تخريب الحرية والاعتقاد ذاته، والعقل . هذا الخصم المفهومي الجبار يعني أن مشروع الإسلاميين يمكن أن يفوز اليوم وغدا وبعدهما، لكنه سيخسر في النهاية. فكما ما من سلطة على الإطلاق تستطيع جعل الجزء أكبر من الكل مثلا كذلك ما من سلطة أيا تكن تستطيع أن تجعل الدين دولة والشريعة الخاصة قانونا عاما. ليست هذه أحكاما مزاجية، وهي بريئة من الاستفزاز. إنها تقرير لإكراهات مفهومية مؤسسة للعقل السياسي الحديث، أثمرها التاريخ والتقدم البشري. ويمكن تعريف الطغيان بأنه اغتصاب للعقل وانتهاك لتلك الإكراهات، بل المحرمات، المفهومية العامة التي يستوي أمامها الناس والأديان والدول. فإذا غدا الطارئ دائما والجهورية ميراثا والاستثناء قاعدة والدين دولة والخاص عاما.. لم يعد ثمة شيء يحمي رأس الإنسان إلا فراغه من العقل.
والتمسك ببرنامج “تطبيق الشريعة” وبفكرة الدولة الإسلامية المبنية عليه يسوغ الشك العميق بالإعلانات الديمقراطية للإسلاميين. المسألة ليست ذاتية ولا إيديولوجية، بل هي مسألة “عقل” الاجتماع والسياسة. ووعي هذه الضرورات المفهومية هو الأساس الصخري الصلب لأي بناء فكري وسياسي متين، ولن يكون ما يبنى على غيرها غير صروح على الرمل، سرعان ما يبتلعها أساسها الرملي ذاته. وهذه هي النقطة التي يتعين أن تكون البوصلة الموجهة لتفكير المثقفين العقلانيين. وهي ما يمكن أن تخرج قضية العلمانية، بالمناسبة، من المأزق الذي أوصله إليها علمانيون مذهبيون، لا يظهرون من الاتساق واحترام الضرورات المفهومية أكثر من خصومهم الإسلاميين. فما يمكن أن ينصر قضية العلمانية هو كون العقل حليفها، أي كونها حليفة للعام العقلي، الذي لا يعرف استثناءات واستدراكات. وهي من هذا الباب وحده أهل لأن تكون حليفة للعام الاجتماعي، أي تتكون حولها أكثرية اجتماعية حقيقية. وحين نتحدث عن طرح علماني مذهبي أو علمانوي فبالضبط لأن اعتراضه المحق على الإسلاميين في وصفهم خاصا يتطلع إلى التسلط على العام، قلما يمتد إلى خواص أخرى تتسلط على العام، وتمنع قيام الدولة. ويضعف هؤلاء المذهبيون قضية العلمانية بفصل المطلب العلماني عن مطالب الحرية والمساواة، فيظهرون كطرف اجتماعي مثل الإسلاميين لكن أشد هامشية، طرف يعبر عن ذوق خاص ومعزول، بدل أن يكونوا مركز تفكير بالعام وتوليد للحلول العامة. وهذا ما يفقد اعتراضهم على الإسلاميين بالذات من أساسه العقلي، الأمر الذي يفسر تحول العلمانية ملاذا مفضلا لنزعات طائفية ونخبوية لا يوحدها غير عداء انفعالي للدين. يفسر أيضا تفضيل أهل “الاختصاص العلماني” الارتعاد هلعا من “الأكثرية العددية” المهددة والاحتماء بسلطات استبدادية من خطرها الداهم بدل المساهمة في بناء أكثرية وطنية جديدة تؤسس للديمقراطية والعلمانية ذاتها. وليست “الأكثرية العددية” غير تسمية ملطفة للأكثرية الطائفية، هذه التي لا يتصور الإسلاميون غيرها ولا يتصور مذهبيو العلمانية وقاء منها غير التلطي تحت جناح الدكتاتوريات القائمة.
في المجمل، مدار مسألة العلمانية هو إعادة ترتيب علاقات السلطة والسيادة بين الفكر والتشريع الدينين والفكر الإنساني الدنيوي والقوانين الوضعية. وبقدر ما إن هذا هو الذي يستجيب لمطلب المساواة فإنه يؤهل نفسه لموقع السيادة. بينما تنخفض مرتبة الدين ويزاح عن موقع السيادة لأنه غير قادر على توفير المساواة. ومرة أخرى لم يعد الدين يستطيع أن يكون سيدا أو دولة. ولا يمكن قيام سيادتين، أي سلطتين عموميتين ومخولتين بممارسة القسر، لأن السيادة واحدة تعريفا. وإحالة الدين إلى “المجتمع المدني” تعني أنه غدا دائرة جزئية والانخراط فيها طوعي.
لكن هل دولنا القائمة مقر للسيادة؟ ألا تظهر جميعها قصورا كبيرا عن الاضطلاع بما يوكله إليها مفهومها من مقام للإجماع والعام؟ بلا ريب. فليس ثمة افتئات في القول إن دولنا منقوصة الصفة الدولية، أي مطعونة في عموميتها وفي أهليتها على حضانة العام الوطني. ومن هذا الباب يمكن للتفكير في علمانية متحررة أن يكون قاعدة للتفكير في دولة عامة فعلا، أي تأميم الدولة بدلالة تكون الأمة من أديان ومذاهب متعددة كما سبق القول.
النهوض العام كشرط للعلمانية
على أنه لا العلمانية ولا المساواة ولا كلتاهما معا يمكن أن تحلا أية مشكلة، في غياب نهوض وطني شامل، مادي وسياسي وثقافي، يرقي سيطرة الناس على مصيرهم وينمي الثقة بين الأفراد والتقارب بين الجماعات. وتصور النهوض هذا كتفتح للروح العامة ونمو في الثقة الوطنية والروابط الإيجابية بين الناس، ما يؤسس لإجماع جديد قوي الشخصية يحيل الانقسامات الدينية والمذهبية إلى مرتبة ثانوية ويضمن مساواة أساسية، أي مساواة في السيادة (وليس في السياسة فقط) للمواطنين، أقول إن تصورا كهذا للنهوض هو الشيء الأهم من العلمانية ومن المساواة القانونية والسياسية، وهو الأساس الذي يمكن أن تنبني هاتان عليه. وليست المساواة في السيادة تلك شيئا غير الحرية، حرية الأفراد وحرية كل فرد.
فإذا كانت العلمانية العربية منقوصة فليس لأنها منفصلة عن المساواة القانونية والسياسية، ولكن لأنها علمانية بلا نهضة، أي بلا تأسيس ثقافي ورمزي جديد ومتين، بلا سيادة للأفراد.
إن من شأن نهضة وطنية متجددة وقوية الشخصية، أي قوية الروح، أن تسهم في صد الدين عن المجال العام، ليلعب دورا احتياطي روحي ورمزي يحتاجه الأفراد والمجتمع ككل أوقات المحن. هذا بينما نجزم أن صعود الدين وتطلعه إلى الهيمنة على المجال العام وثيق الصلة بالضعف الثقافي والمعنوي والسياسي لمجتمعاتنا. ونتحدث عن شخصية وروح لنقول إن التصور المجرد والفكروي للعلمانية، المفصول عن نهضة الثقافة وارتفاع معنويات المجتمع والثقة في أوساطه وحيوية النخب السياسية والثقافية، وهو السائد في ثقافتنا الراهنة، أفقر من أن يحل أية مشكلات دينية وسياسية، بالكاد تبث روحه الضعيفة تقاربا ضمن مجموعات ضيقة، فتضيف طائفة إلى طوائف بدل أن تطوي صفحة الطائفية نهائيا. إن المفاهيم المجردة والشعارات، وكذا الإيديولوجيات والقوانين، لا تحل شيئا؛ أقصى ما يسعها أن تكونه هو الوعي الذاتي بعمليات تقدم المجتمع ونهوضه وتجدد حيويته وانبثاث الثقة في ثناياه، أي سيطرته على مصيره.
هذا النقد يتجاوز النقاش حول العلمانية وينطبق على مجمل التيارات الفكرية والسياسية في مجتمعاتنا الحالية. إنه ينطبق على الديمقراطية أيضا، هذه التي تعاني بدورها من فقر الدم الاجتماعي والفكري والروحي. وكذلك على القومية. وأصله في جميع الأحوال في انحطاط قوى مجتمعاتنا المادية والمعنوية، وفي تشوش مداركها وإنهاكها النفسي المتفاقم.
إلا أنه اقل انطباقا على الإسلامية التي تستند إلى موارد روحية أغنى، لكن ليس كثيرا. وهو ما يعطي لانحياز جورج قرم إلى حرية الاجتهاد شرعيته مقابل التناول المجرد، السياسي والقانوني، للفصل بين الدين والدولة . على أني افهم حرية الاجتهاد كبعد أساسي من أبعاد تجدد ثقافي أوسع، موجه نحو رفع مستوى الثروة الروحية والمعنوية لمجتمعاتنا فوق مستوى الكفاف الحالي من ناحية، ونحو كسر احتكار الدين للروح وإضعاف تطلعاته السلطوية، بما يجعل انفصال الدين عن الدولة أقرب إلى تحصيل حاصل من ناحية ثانية.
ويبقى أنه في ظل الفقر الثقافي والروحي لمجتمعاتنا تتكور التيارات الفكرية والدعاوي الإيديولوجية على ذاتها، وتنشغل بالدفاع عن نفسها والتمايز عن غيرها. أي يغلب عليها إغراء التخصص والتحول إلى مذاهب مكتملة مستغنية، فنجد العلمانوية، الصيغة المذهبية للعلمانية، بينما تندر الصيغة المعافاة التفاعلية والمنفتحة، ونجد الصيغة الشكلية والحقوقية للديمقراطية، الديمقراطوية، بدلا من صيغة اجتماعية وسياسية أشد تركيبا وغنى فكريا وعمليا. ونجد القومية مرتدة إلى سياسة هوية، أي قوموية، ولا نجدها في صيغة شراكة قائمة على المساواة والحرية بين مختلفين اجتماعيا ودينيا وإثنيا. في جميع الحالات تتقدم وظيفة حفظ الذات في التيارات والمذاهب المعنية، بينما تضمر الوظائف التواصلية والتفاعلية التي نخمن أنها هي التي تبرز حين ينهض المجتمع والثقافة. وهذا يعيدنا إلى ما سبق أن قلناه من التقاء تمذهب التيارات الفكرية والإيديولوجية أو تحولها إلى “تخصصات”، وتجزؤ المجتمع طائفيا. الالتقاء الذي يزيد التمذهب والتجزؤ صلابة، فنحصل في المآل الأقصى على أصناف اجتماعية لا تجتمع ولا تتفاهم ولا تثق ببعضها.
من أجل نقد تقدمي للعلمانوية
ليست العلمانوية صيغة متطرفة من العلمانية، بقدر ما هي تشكل “طائفي” لها. وأعني بذلك أن تثبتها على الدين وانكفائها الثابت عن التفكير في الدولة يشل فورا قدرتها على تطوير هيمنة جديدة وتكوين أكثرية وطنية جديدة في مجتمعاتنا. ومن البديهي أن يعجز تشكل طائفي عن المشاركة في تأهيل مفهوم جديد للعام الوطني، وأن يجد نفسه في صورة ثابتة اقرب إلى السلطات الحاكمة، وهي تشكلات سياسية طائفية بدورها تحتل موقع العام هذا.
وينبغي أن يكون مفهوما أني لا أعني بالتشكل الطائفي للعلمانية استقطاب الموقف العلماني لمتحدرين من تكوينات دينية ومذهبية أقلية. فليس في مجتمعاتنا الراهنة غير طوائف وأقليات، وليس فيها “أمة” أو أكثرية وطنية تشكل أساسا للأمة. وليس اعتقاد الإسلاميين أن الأمة إسلامية أو أن الإسلام هو الأمة غير وهم طائفي لا يختلف عن غيره. إن التشكل الطائفي لمجتمعاتنا، وللصعيد السياسي فيها، هو ذاته محصلة تاريخية لتعثر عملية بناء أمة المواطنين أو لعدم اكتمالها. إني أتكلم على الطوائف والأقليات كعمليات اجتماعية تعيد تفعيل وتنشيط التشكلات الأهلية في سياق الصراع على السلطة والنفوذ والموارد العامة .
على أن نقدا تقدميا للعلمانوية مطالب بتجنب محذورين: أولهما إلحاق العلمانية بصيغتها المذهبية أو “الطائفية”، وثانيهما التخلي عن مهمة نقد الإسلامية لها. والواقع أن نقد العلمانوية مغشوش إن كنا نرفض الفصل بين الدين والدولة، وهو مجد فقط في سياق الدفاع عن العلمانية، ضد خصومها الدينيين والطائفيين. ومن جهة أخرى، يتعين التنبه إلى أن العلمانوية العربية لا تنتقد الإسلامية بل ترفضها، ما يعني أنها تتركها سليمة لم تمس. والحال إنه لا يمكن القفز فوق نقد الإسلامية في أشكالها السياسية والفكرية والسلوكية ومثالها الاجتماعي والتشريعي من أجل صوغ تصورات جديدة للدين والأمة والدولة من جهة، ومن أجل تطوير علمانية واعية بذاتها وشروطها وقادرة على المساهمة في عملية بناء امة المواطنين المتساوين من جهة أخرى، وبهدف فهم الإسلامية ذاتها وشروط نشوئها واستمرارها من جهة أخيرة.
فالنقطة المركزية في نقد كل من الإسلامية والعلمانوية هي أنهما تشكلان طائفيان متولدان عن عسر انبناء الأمة في بلادنا، دون أن يحوزا على وعي ذاتي مناسب لإدراك هذا الشرط التاريخي، ما يجعلهما غير مؤهلين للمساهمة في تكون أكثرية وطنية جديدة، هي شرط الديمقراطية والعلمانية معا.
2008 / 1 / 17