صفحات سورية

شيء أفضل من لا شيء!

null


أمجد ناصر

كشفت القمة العربية التي انعقدت في دمشق عن حجم التمزقات في العمل العربي المشترك، كشفت، كذلك، عن استفحال سياسة المحاور داخل النظام الرسمي العربي علي حساب سياسة التكامل والتضامن، ولكن المفاجيء فيها هو كشفها عن قدر من الواقعية السياسية لدي القوي التي كانت توصف بالتشدد، أو الممانعة.
كان هذا مفاجئا فعلا. فقد توقع الجميع ان تلجأ تلك القوي، بما فيها الدولة المضيفة، الي قصف الذين حاولوا تعطيل القمة، أو خفض وزنها السياسي، بأعيرة ثقيلة من ترسانة التخوين. المفارقة ان من فعل ذلك هم المعتدلون . اصحاب سياسة التضامن هم الذين انقلبوا علي التضامن، القائلون، تقليديا، ان شيئا أفضل من لا شيء هم الذين قالوا، هذه المرة، كل شيء او لا شيء. عادة، كانت المقاطعة، أو خفض التمثيل، من عمل المتشددين الذين يذهبون الي برنامج الحد الاقصي دفعة واحدة، هذه المرة، انقلبت الآية، حيث تحلوا بقدر من المرونة التي كان يوصف بها غيرهم.

من نافل القول ان القمة لم ترض المواطن العربي، ليس لأن تمثيل الدول العربيــــــة الفاعلة كان منخفــــــضا، بل لأنه يعرف انها قمة اقوال لا قمة أفعال. لانه يعرف انها لن تشكل منعطفا في الموقف العربي الذي بلغ حدا من الرثاثة يصعب علي الكافر، ولن تغير شيئا يذكر من عيشه الذي يزداد مرارة مع الايام. القمم العربية سياسية، وليست اقتصادية او تنموية حتي وان مرت علي الاقتصادي والتنموي مرور الكرام. والمواطن العربي يعرف ان أمور السياسة، المصيرية خصوصا، ليست بيد قادته. كان يمكن للنظام العربي من قبل أن يتخذ قرار الحرب، مثلا، انطلاقا من ارادة ذاتية. الآن لا يستطيع ذلك، اللهم، الا اذا كان في إطار قوي التحالف إياها. حتي قرار السلم الذي اتخذته قمة بيروت لم يستطع النظام العربي، بكل ثقله الاقتصادي وتحالفاته الدولية، ان يدفع به مترا واحدا الي الامام.

لكني اظن، مع كل ما سبق، ان المواطن العربي اراد لهذه القمة، بالذات، ان تنعقد وان تنجح، لأنه رأي ان البديل عن عدم انعقادها هو مزيد من التمزق في الجسد العربي ومزيد من المحاور المتصارعة.

فبعد كل شيء، بعد أن بلغ التمزق العربي الرسمي حدودا تكاد أن تكون غير مسبوقة، أصبح مذهب المواطن العربي الحريص علي بقاء اطار للعمل المشترك بين اثنتين وعشرين دولة متنابذة متخاصمة، ان شيئا أفضل من لا شيء. ان مجرد بقاء الهيكل خير من زواله تماما، ان وجود مؤسسة القمة، التي طالما أوسعها هجاءً، أفضل من عدمه. ذلك هو مذهب الحد الأدني، لأن عكس ذلك يعني زوال الرابطة الوحيدة التي تجمع الرسمي العربي لصالح العدم والفراغ. إذ ليس هناك من بديل شعبي جامع للعرب اليوم سوي الأنين، والأنين لا يصنع سياسة ولا يغير مجري سياسة، ولا يبدل السيئ بالأفضل. إنه، فقط، صوت الألم الطالع من جسد منهك.

لعله من المفارقات ان يذهب المتشددون الي اعتبار مجرد انعقاد القمة العربية، بكل الغيابات الرسمية، بكل اللغط السياسي الذي رافق خفض التمثيل والتوقعات والآمال، حدثا بحد ذاته، ومكسبا في ظل سياسة الخسران والغياب وانعدام الفعالية التي يمعن فيها الوضع العربي رسميّه وشعبيّه!

ليس كثيرا علي الرسميين العرب ان يلتقوا تحت قبة القمة، المؤسسة التي تعالج شؤون انظمتهم والمخاطر التي تتعرض لها. فالقمة العربية، ليست، أصلاً، صدي لموقف الشارع العربي، وهي بالكاد توصل صوت شعوبنا الي العالم، ولكن التفكك الرسمي العربي واستفحال سياسات المحاور والاستقواء باللحظة الدولية المهيمنة علي مصائر العالم، يجعل اي لقاء عربي مكسبا ، واستمرارا لرابطة يراد لها ان تنتهي وتتبدد لصالح روابط خيطية مع روما العصر والأوان.

لم يكن صعبا علي أي مراقب للوضع العربي وارتباطه بنبض السياسة الامريكية الضارة بمصالحها نفسها، ناهيك عن مصالح الآخرين، ملاحظة عدم رضا واشنطن عن انعقاد القمة في دمشق، وعن امكانية اعادة النظر بما يسمي مبادرة السلام العربية التي طرحت مجازر غـــزة وتواصل الاستيطان والصلف الاسرائيلي، امكانية تصليبها أو التهديد بالتراجع عنها. كان الوضع العربي مهيئا لهكذا امكانية، والناس تري علي شاشات التلفزة قتلا يوميا للفلسطينيين وهبوبا سافرا للاستــــــيطان علي ما تبـــــقي من الارض الفلسطينية وتهديدا فعليا للقدس وديموغرافيتها ومعالمها الروحية.

ولم يكن مجيء ديك تشيني، رجل الحرب الامريكي وعراب المحافظين الجدد، الي المنطقة قبل ايام من انعقاد القمة مصادفة. إذ لا مصادفات في زيارات رفيعة المستوي كهذه. فهو لم يعرج علينا من سفرة بعيدة، ولم يحط ركابه في ديارنا للسلام والكلام. الزيارة كانت مقصورة علي الدول العربية ذات النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة، فضلا عن اسرائيل، الحليف الامريكي الرسمي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، او استبداله بأي حليف عربي آخر مهما بذل من جهد سياسي واقتصادي في سبيل دعم السياسات الامريكية في الشرق الاوسط.

انعقاد القمة العربية، إذن، هو الحدث، ويا له من حدث، أما قراراتها فلم تكن سوي تحصيل حاصل. فلم يتوقع احد، حتي لو كان التمثيل العربي فيها علي مستوي القادة تاما، ان تأتي برأس كليب. ويبدو ان الخلاف العربي علي القضايا الرئيسية (باستثناء لبنان) كان محدودا. كل ما يأمله العربي، الآن، ان لا يفجر الوضع اللبناني الذي جعل القمة منخفضة التمثيل، ما تبقي من روابط عربية.. والأهم أن لا تتفجر الأوضاع في لبنان بحيث تخرج عن السيطرة.

فهذا التخوف ما يزال قائما، بل لعله صار محتملا أكثر بعد قمة دمشق التي أعادت التأكيد علي مبادرة مختلف عليها. كلنا نعرف ان قبول المبادرة العربية او رفضها من قبل طرفي النزاع في لبنان ليساً وقفاً عليهما. وهذا يعني ان الحل ليس في المبادرة نفسها، ولا في جولات عمرو موسي الماراثونية، بل في دمشق والرياض. والرياض اختارت ان لا تحضر قمة دمشق. فكيف سيكون الحل؟
03/04/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى