قمة دمشق والطرف الثالث في التشابك
بدر عبد الملك
تناست الصحافة عشية القمة، لغة الدبلوماسية بين أنظمة متشابكة مؤقتا، وهبطت إلى سوقية التعبير والتلاسن في شوارع شعبية، وتبعهم إعلام لم يسأل الطرف الثالث «المغيب»: ألا تنطق برأيك بشأن هذا النزاع ونسمعك فربما تكون راضياً أو صرت تفضل صمت «أبي الهول» بإخفاء معاناتك بشأن نزاعات رسمية لا ناقة لك فيها ولا جمل؟
دخلت قاعات دمشق وفودنا الرسمية بحفظ الله ورعايته وخرجت من القاعات بحفظ الله ورعايته!، ومثلما استقبلت بحفاوة وتكريم ودعت بمثلها وربما بأحسن منها، فالمؤتمر كان ناجحا بالمعيار السوري، فالبيان الختامي التاريخي الذي تم تسميته بإعلان دمشق، ولا نعرف لماذا صار البيان الختامي اعلان دمشق؟! هل لأنه كان مؤتمرا استثنائيا لأن اكثر من نصف الزعماء العرب لم يحضروا؟ وكأنهم يعلنون انهم كتلة معارضة تقف مع دولة غابت تماما عن المؤتمر، وهي التي كانت بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير.
وحاشا لله ان تكون امتنا العربية بعيرا مازال تائها في صحارانا العربية من صحراء موريتانيا والمغرب والجزائر، والصحارى المتنازع عليها حتى صحارانا في الجزيرة العربية، الغني باطنها بالنفط الوفير.
غير اننا لم نحسن كيف بهذا النفط ان نبني انسانا مستعدا للقرن الواحد والعشرين، وهي الكلمة التي قالها في الرياض رئيس وزراء سنغافورة السابق، «لي كوان يو» فقد تحدث عن تجربته، كيف نقل بلاده الفقيرة الى مصاف دول العالم المتحضرة. ما تم اذاعته وكتابته في قمة دمشق لم يكن نقلة تاريخية «عظمى»، فالذين حضروا والذين بعثوا ممثلين بمستوى منخفض اعلنوا بوضوح انهم ليسوا مع سياسات سورية في لبنان والعراق، والاكثر من ذلك اوضحوا ان المسألة ليست كما يعلنها الاخوة في دمشق ان الازمة اللبنانية مسألة داخلية بين طرفين، وبذلك يقتنع العارفون ببواطن السياسة،ان النزاعات الداخلية لا تحكمها قوى اقليمية ودولية، فهي مجرد مجرات في الفراغ الكوني، وبما ان سورية ليل نهار تردد انها قوة اقليمية لا يمكن عزلها، ولها تأثيرها في المعادلة، يعني فهم المسألة بصورة خاطئة معكوسة، فكيف يفهم الساسة تناقض هذه الحقيقة.
والأمر الثاني والاكثر اهمية الحضور الايراني في لبنان بكثافة مالية وعسكرية، وهي الحصن المنيع لـ«حزب الله» وقوته، فكيف تتملص سورية من دورها المعارض او المؤيد لهذا الحضور؟!، إذ إن الأسلحة الغزيرة تمر عبر الاراضي السورية، فهل بإمكان فهم معادلة من هذا القبيل؟ ومن ثم تسهيل وتبسيط مسألة الخلاف داخل البيت اللبناني!
دون شك الحاضرين مع العبارات العربية التاريخية والعاطفية التي رفعت منذ وقت طويل حول شعار «التضامن العربي» فهو يذكرنا بتضامنات عدة تم رفعها ثم تبخرت، لكونها شعارات براقة لم تعرف من يصونها ويقدسها، فكان صدام اول من هشم ذلك التضامن الى حد الخزي، بينما الخلافات العربية- العربية كانت تربة لتهشيم ذلك الشعار النبيل والقدسي المعلق في بيت دون سقف.
وهناك عناوين كثيرة في اعلان دمشق تمر كعادتها في كل القمم العربية لكونها مطاطة وعامة ترضي الجميع كما ترضي امينها العام! الذي قال بعظمة لسانه للإعلام «انه حمَّال الأسية» وكأنه يبعث ببرقية للزعماء العرب من جهة وللجمهور العربي (الطرف الثالث) في النزاع، وهو طرف صامت على الدوام، ليقول له «لاحول ولا قوة الا بالله».
من قبلوا ان يطالبوا بمؤتمر دولي لتعريف الإرهاب، نسوا ان المجتمع الدولي ليس مجرد صبية صغار يمكن التأثير فيهم لكي يفسروا الإرهاب بطريقتنا، اذا كانت الغاية من هذا الغرض اعادة تذكير العالم بأن الارهاب متعدد الاشكال بما فيه إرهاب الدولة!، وبذلك نطوق اسرائيل دوليا ونحرج اميركا! وبذلك ننجح في نقل التهم المتبادلة او الصمت بشأنها.
بكل هذه البساطة سيجلس العالم في قاعة الامم المتحدة ليقرروا ما نرغب، بينما تناسينا ان كل دول العالم مقتنعة بالتفسير «الأميركي» حتى ان كان بهتانا، فهل بإمكاننا التأثير في ما تصنعه اميركا دوليا اولا، لكي نتمكن من اقناع الدول لتصوت لنا؟! متناسين ان قمة دمشق وقاعاتها والجامعة العربية ليست هي قاعات الامم المتحدة، فهناك نصبح قوة متشظية الى عدة جامعات، تحكمها مصالح عليا تفوق شعارنا العاطفي (التضامن العربي) الذي كان قويا باسناد دول عظمى له يوم كان التضامن الاسيو- افريقي له ثقله ويوم كان دول عدم الانحياز تعني زوبعة تخيف الإمبريالية.
ترى اليوم اين عالمنا ذاك بحيث بإمكاننا ان نضع رأسنا على صدره الحنون؟! وتناست الصحافة عشية القمة، لغة الدبلوماسية بين انظمة متشابكة مؤقتا، وهبطت الى سوقية التعبير والتلاسن في شوارع شعبية، وتبعهم اعلام لم يسأل الطرف الثالث «المغيب»: ألا تنطق برأيك بشأن هذا النزاع ونسمعك فربما تكون راضيا، او صرت تفضل صمت «ابي الهول» بإخفاء معاناتك بشأن نزاعات رسمية لا ناقة لك فيها ولا جمل؟، فما عدت ممثلا في اروقة رسمية وليس كل ما يدور تعبيرا عن ديموقراطية تمثيلية.
ان الصمت تعبير عن غياب الغائب، في مجتمعات لا ترى في شعوبها الا إعلاما يقول نعم ولا، وقتما تتشابك الأنظمة العربية، وعلينا ان نقرأ سطور المهزلة!
* كاتب بحريني