صفحات ثقافية

“آدم في الجنة” لكارلوس فوينتيس بالقشتالية

null
رواية خراب المكسيكيين في شرنقة السلطة والجريمة المنظّمة
يحتاج كارلوس فوينتيس الى المكسيك كما بالزاك الى فرنسا وديكنز الى انكلترا ودوستويفسكي الى روسيا، وإن لم تقبض رواياته على بداهات ارض الازتيك مباشرة مكتفيةً بأن تلوذ بأمور تحدث فيها. ربما لأنه مكان تُحفَظ فيه الاسرار من غدر الافصاح، ولأن الحاجب هو المحجوب في حالات كثيرة. شيّد فوينتيس من لحم كلمات جافة، جدارية ادبية قادرة ودرامية، مدينة الى نبرات عنيفة ورجال عاصفين، حيث تراءت الف عام ماضية في سابق بلاده كألف عام مقبلة.
قبل شهور عدة اعلن فوينتيس انه يكاد ينهي رواية جديدة تتمحور على “غيرييورو” كولومبي، مقاتل بإسم كارلوس بيسارو، ليفد مباغتة من حيث الاحتمال الاقل، من طريق عنوان سواه على نسق صحافي مرصود للمكسيك راهنا. ليست رواية “آدم في الجنة” في هذا المعنى آنية، ذلك انها تنتسب الى حقبة يعيد الكاتب ابتكارها وتذكّرها، لكأن مرماه التأكيد ان ليس هناك كاتب حقيقي ينصّ حكاية من أجل الحاضر، وانما كرمى المستقبل، وإن نزّت دماً من جرح مفتوح يأخذها الى انسانيتها.
يجمع كارلوس فوينتيس، مبتكر “موت ارتيميو كروث”، في “آدم في الجنة” الصادرة بالقشتالية لدى دار “الفاغوارا” الاسبانية (بعدما نشرت في الخريف الماضي في المكسيك)، الدراما والكوميديا، ويربط المقال الصحافي بالرعب والفكاهة فضلا عن الواقع والتخييل، من اجل انجاز خريطة مفصّلة تمسح العنف في القارة الأميركية في القرن الحادي والعشرين. انها رواية خراب المكسيكيين في شرنقة السلطة والجريمة المنظّمة والإتجار بالمخدرات وارباب العصابات والحقيقة الاحتجازية.
لا مفر تاليا من استخدام المؤلف للتقنيات الصحافية لتناول مسألتين من بين الاشد بعثا للاضطراب في المعيش المكسيكي والمجتمع، هما تقليد الاتجار بالممنوعات والفساد المستشري في الطبقة السياسية. في هذا المطرح يحافظ فوينتيس المكلّل بامتيازات جمة ليس اقلها “جائزة ثرفانتس” في عام 1997، على التزامه عكس واقع وطنه، فيلقي نظرة الى مجتمع معاصر لا يضيع في أزمة قيم، كما كانت حال “هالة” و”المنطقة الاكثر شفافية” و”حدود الكريستال” وسواها من العناوين، وانما يتحرك تحت سقف الصراع على المصلحة بين السلطة المستتبة والمجموعات الإجرامية السائدة. يسأل فوينتيس في الرواية عن السبيل الى التحرر من فساد يجر البلاد الى الفوضى، ومن خصم الاتجار بالمخدرات. جرّب فوينتيس في “الإرادة والحظ” مطّاً للأصداء التوراتية ورسماً للمكسيك الكلّية الوجود والفظيع، وهو يكرّر المحاولة هنا. في “الإرادة والحظ” كان ان أخذ من حكاية قايين وهابيل شطر الأخوة المتحوّلة منافسةً، ليصف من دون شفقة تأجّج الوضع الانساني، ومشكلات بلاده. اما في “آدم في الجنة” فيمنح الشخصيتين الرئيسيتين، ادان غوروسبي وادان غونغورا، اسم “ادان”، اي “آدم” بالقشتالية. هناك عودة الى المستوى البدئي، الى أساس الخلق. وليس من قبيل الملاءمات الظرفية ان تستسلم الشخصيتان الى جاذبية الغرائز الفوضوية والى “اباحة كل شيء”، شرط ان يبتكر كلٌّ منهما، على نحو فردي، عرفا اخلاقيا ذاتيا. يشخّص ادان غوروسبي وادان غونغورا الجانب الأشد تطرّفا من الفساد الأخلاقي، وفي القطار عينه يغطيان على كل شيء وعلى كل المحيطين. والحال، ان الانسان اللاحق المتمثل في أدان، لا ينتقي في وسط هذا الواقع ثمرة شجرة المعرفة كما الانسان الاول، وانما ثمرة شجرة النسيان. اما المجرمون من تجار المخدرات، فلا يصيرون اخصاما يجب ارداؤهم، وانما نماذج تستلقي براحة في رغد المدينة.
تراوح حكاية فوينتيس بين تحوّل وآخر. ينتقل ادان غوروسبي من وضع الطالب الفقير الى زعيم سلطوي بفضل نزعاته الوصولية، ويقصّ بضمير المتكلّم واقع بلاد قحطها النشاط المشبوه، حيث الحاجة الى استنباط مجموعة خاصة من اجل صرع التهديدات. في المقام الاول، غوروسبي انتهازي موصوف، من اصول مبهمة ينجز عقد زواج مع سيدة ثرية بإسم بريسيليا اولغين وابنة ملك الرقائق. يقول الراوي: “كانت بريسيليا بالكاد جميلة. كان وجهها المدور يحرر بريق عينيها الصغيرتين البريئتين، في حين لفت نقاء اسنانها والدملة في الوجه، ناهيك بأنف منمنم لم يطلب جراحات طارئة. اطلقنا عليها بيننا اسم مونيدا، ذلك انها لم تكن تفضح جمالا أخاذا وجاذبا مثل دولوريس ديل ريو او ماريا فيليكس ولم تكن قبيحة كالنساء المسنات والسمينات او تلك الطيبات الى حد بعيد او السيئات على نحو منحرف، المحرومات من مثالية كبيرة ونادرة تتمتع بها الخلاسيات المشار اليهن آنفا والمرصودات ليصرن زوجات (في سن الشباب) وإذا حالفهن بعض الحظ ربات عائلة متسامحات (في سن متقدمة). من شأن المناسك ان ترفع الانسان الى الاعلى من دون شك”. يجري وصف عالم غوروسبي بمرونة وايقاع موسيقي في الجمل، فضلا عن رشاقة وحذر في السرد. ينسحب الوصف المسلّي والنفّاذ على نحو نصف الرواية تقريباً، حيث يبدأ العمل يتقدم على نحو حيوي ومعبّر لا يمكن الفكاهة وتوقد الذهن وحدهما ان يبلغاه. يشير ادان غوروسبي الى إلحاح ان يكون المرء “اكثر اجراما منهم” (اي الآخرين)، في حين يتولّى شخص سواه في الرواية بهوية منسوخة عنه هو ادان غونغورا، تركيب استراتيجيا مفتقرة الى الرحمة. بيد ان موظف الأمن الوطني غونغورا ينتهي ملتحقا بصف مافيويين يجب عليه محاربتهم. يتحالف غونغورا مع المجرمين فيما يجهز على اولئك المتمتعين بأدنى المؤهلات. في جغرافيا، حيث يتشبث الناس بمطلق امل، اياً تكن تفاهته، ليس ثمة تردد في تصديق نبوءة طفل بجناحين زائفين يعظ عابري السبيل. يسهّل هذا المناخ التطيّري مهمة غونغورا الذي يسجن الأبرياء والمذنبين الضعفاء، ليحظى في عيون الرأي العام بموقع ضامن العدالة. عندما يقترح ادان الاول على ادان الثاني عقد ميثاق، يدرك غوروسبي انه ينبغي له التخلص من غونغورا، او على الأقل جعله غير مؤذ.
بدءا من مآسيه الشخصية، يروي ادان غوروسبي هيكلة وطنية تمثّل بالنسبة الى كارلوس فوينتيس اطارا فظّا اول حيث ينجز الواقع المكسيكي تطهّره في جوانب عدة. لا لبس هنا اذاً في القول ان ثمة اسلوبين لقراءة الرواية، يُختزلان في ما يقال وما يتم التراجع عن قوله. تكمن احدى الفضائل الاساسية لرواية الكاتب المكسيكي المسنّ، في ما يسعنا تسميته شبابها، يا للمفارقة. تتراءى “آدم في الجنة” قريبة من تلك الاعمال الاستهلالية “التكوينية” حيث النوع الأدبي لم يكن اكتسب سماته. على هذا النحو لا تتحرك وفق صرامة التحديدات التي ينطوي عليها التعريف الادبي، ولا تشير الى ما ينبغي ابعاده عن الرواية وما يجب المحافظة عليه. في وسع القارئ هكذا، ان يجد نفسه في خضمّ اعتراف او بحث او مقال رأي او نكتة او هذيان او مانيفستو، وفي الوقت عينه ان يجنح بحركة يد من الروائي الجريء والقادر، صوب نبرة فظة الى اخرى اكثر قتامة وجدية، الى حين بلوغ عالم ساحر وسوريالي.
إذا صدّقنا الكاتب فوينتيس في ادعائه في شطحات تنظيرية، بأن الرواية “مستودع قمامة” الأدب، رصدناه يذهب في هذا المنحى بامتلاء ورضا ومن دون مركبات نقص. بيد ان الحرية التي يستعرضها فوينتيس ظاهرية فحسب، تكاد تكون “قشريّة” فقط، لأنها تسقط في شرك عمل نصي بالغ في الهيكلة، لا يترك خيطاً غير مربوط بميناء، وحيث لا يبزغ التنوع في العناصر من عفوية ساذجة وانما من تقليد عريق. يمكن ومن دون جهد، تظهير تكريم فوينتيس الواضح لشغف رابليه وثرفانتس، اي الى الآباء المؤسسين. “آدم في الجنة”، نص تطويري ينزع الى التحول فيما نقلّب الصفحات، ويفرد الامكانات الأصلية للنوع الروائي. في هذا المعنى، يمكن عدّه مثالا، على ما يسمّيه كونديرا هاوي التحديثات اللغوية، في رسالة بعث بها الى فوينتيس، تحديدا “الرواية الاصلية”. انها من صنف اعمال تركّز على ما تستطيع الرواية وحدها البوح به، وتعيد انعاش امكانات تم ازدراؤها ونسيانها، وإن راكمها فن الرواية خلال القرون الاربعة الماضية.
لا ينصف الرواية، إذا قمنا بضبّها على حكاية مواجهة رهيبة، محوراها ادان غوروسبي وادان غونغورا “رجل قصير القامة بدين وصاحب وجه كلحم الخنزير المخبوز ويضع شعرا مستعارا يغطي الصلع”. تسمح المنافسة المتكئة على ابعاد شخصية في مطلع السرد لفوينتيس، بإخراج العنف والفساد والاتجار بالمخدرات في بلاده الى المنصة. الفائدة الكبرى ها هنا، في تحديد ملامح الراوي المركزي ادان غوروسبي، ذلك انه لا يتم بلوغ ذروة “آدم في الجنة” من طريق الاقصوصة وحبكة السرد فحسب، وانما عبر العرض التام لتموضع رجل مفرط الاهواء، وعالمه، ضمن نماذج اخرى متفاوتة.
“آدم في الجنة” كوميديا سوداء حيث حسّ التهكم والنسب المكسيكي النقي، يستران العنف والارباك والامواج العاتية. انها صورة بالأشعة السينية ينجزها كارلوس فوينتيس للمكسيك بحزم، بدءا من الجذور. في مؤلف سياسي النكهة هو الأكثر ايجازا في مكتبة الروائي، ذلك انه لا يتخطّى مئة وستين صفحة، تنقيب في شرور المجتمع المعاصر وفي نور وظلمة عارمين. والحال ان العمل الاحدث يندرج في اطار حلقة أدبية رسمها فوينتيس منذ سنوات وضمّت في ثناياها عنوانا من مثل “كرسي الصقر”. في تلك الرواية المنتظمة على شكل رسائل، ألقى المكسيكي فوينتيس القصة في عام2020 . انها البلاد عينها في استثناء حفنة من التفاصيل. لا يزال هناك تبعية هائلة تجاه الولايات المتحدة الاميركية، في حين تبلغ نسب الفساد في اوساط بعض الموظفين مستويات غير معهودة وتعمّ الاضرابات العمالية والتظاهرات الطالبية الشوارع وترتكب مجازر في حق الفلاحين. تقوم الشخوص في “كرسي الصقر” بتعرية الالغاز المنوطة بأصحاب الرفعة ومصادر شغفهم المطمورة عن العيون، وهؤلاء انفسهم يمسكون بزمام مقدرات البلاد.
في تلك الرواية المبكرة قذف بالقارئ الى واقع مستقبلي ليس سوى صنو الحالي. اما في “آدم في الجنة” فنحن في جوار نص من عصارة فانتازيا تنجز تنقيشا للواقع. وكما اعتاد فوينتيس، ثمة جلب لمذاق الشك ايضا. لا توفر الحكاية اللغة الزهيدة والبديهية والأرضية، لكأن فوينتيس يلفت على هذا النحو الى ان الضياع الاخلاقي ليس من دون تبعات على مجمل علامات ثقافتنا ولا سيما اللغوية. على عكس ما ينبئ به صاحبها، ليست “آدم في الجنة” مفتوحة الخاتمة وانما موثقة النهاية، حيث انحدار لطفل قديس في وسط الضوضاء فيما تحوم نجمات مذنّبة مؤرقة.
رلى راشد
مقتطف: آدم فـي الـجــنــــة
لا يسعني أن أفهم ما جرى. في عيد الميلاد السابق قابلني الجميع بابتسامة، وجلبوا لي الهدايا، وهنّأوني وتمنّوا لي عاما جديدا، عاما اضافيا من النجاحات والرضا والاعتراف. اما زوجتي فأخبروها كم انها محظوظة لاقترانها برجل “على هذا النحو”. اليوم اتساءل ما الذي عنوه بالقول “رجل على هذا النحو”. هل حدث ذلك في العام حيث انتهى أحد اوهام ذكرياتي؟ هل جرى ما جرى فعلا؟ لا ارغب في ادراك ذلك حتى.
ان جل ما اريده هو العودة الى عيد الميلاد في العام المنصرم، الى الحكاية العائلية المكرورة والمطمئنة في بساطتها (وفي غبائها الضمني) كنبوءة لاثني عشر شهرا مقبلة لن تكون مرضية على نسق ليلة عيد الميلاد، لأنها لن تكون ولحسن الحظ خالية مثل ذاك العيد في شهر كانون الاول الذي نحتفل به، من دون ان نعرف السبب، على جري العادة، لأننا مسيحيون ومكسيكيون. هناك الحرب دوما، الحرب ضد الشيطان، لأن الملحدين في المكسيك كاثوليك حتى، ذلك انه خلال الف عام من التصوير الايقوني، دأبنا على ان نجثو على ركابنا امام عذراء بيلين، في حين ادرنا ظهرنا للفاتيكان.
يجعلنا عيد الميلاد نعود الى الاصول المتواضعة للايمان. مرة اخرى، يساوي ان يكون المرء مسيحيا أن يفرّ ان يختبئ وان يضطهد. بئس حقبة نعيشها اليوم، حيث لم يعد الالحاد مسألة تشكّل فضيحة لأيّ كان. لم يعد احدهم يشعر بأن ثمة فضيحة. لماذا لا اقوم انا، ادان غوروسبي، في هذه اللحظة بإسقاط شجرة عيد الميلاد بلكمة واحدة، واجعل النجمات تتلألأ فعلا، لماذا لا اهرول صوب المدعوين واطردهم. لماذا لا افعل ذلك؟ لماذا استمر بالتصرف بتلك الدماثة المتوقعة مني؟  لماذا اتصرف كالمضيف المثالي في كل عيد ميلاد. اجمع اصدقائي والمعاونين وأوفر لهم المأكل والمشرب، اقدّم هدايا مختلفة الى كل شخص واحرص على ألا اهدي الى أحدهم ربطة عنق قمت بجلبها لآخر. علما ان زوجتي تشدّد على اعتبار هذه الفترة الأفضل من اجل التخلص من الهدايا التي لا نحتاج اليها، تلك القبيحة او المكرورة التي تلقيناها من اجل ان نُمِرّها الى آخرين سيهبونها بدورهم الى سواهم من المخدوعين، وهلمّ.
اتأمل الكومة الصغيرة من الهدايا عند قدمي الشجرة. تتملكني الخشية. افكر في ان اعيد الى احد زملائي الهدية التي قدّمها اليَّ خلال عيد الميلاد الاول والثاني والثالث والرابع. يكفي ان افكر في ذلك لأحذف مخاوفي السابقة. غير اننا لم نصل الى رأس السنة بعد. لا نزال في ليلة عيد الميلاد. تحوطني عائلتي، انظر الى زوجتي البريئة وصاحبة الابتسامة المدعية. تقوم الخادمات بتوزيع الخمر. يقدّم حموي بعض الكعك وضع على صينية.
لا ينبغي لي المضي اكثر. اليوم يبدو كل شيء جيداً، ذلك ان الشر لم يحصل الى الان. انظر عبر النافذة وانا مشتت الذهن. تمرّ نجمة مذنّبة. في حين تصفع زوجتي بريسيليا الخادمة التي تتولى توزيع المشروب، بعنف شديد. تمر نجمة مذنّبة اخرى. يتملكني شك غامر. هل يسبق النجم المضيء نوره الذاتي او ينبئ به فحسب؟ هل يتولى الضوء الاستشراف او الختام، هل يزفّ الولادة او الرحيل؟ اظن الشمس الكوكب الاساسي، في وسعها ان تحدد ما اذا كان النجم هو القَبل او البَعد. اريد القول ان الشمس هي زعيمة اللعبة، اما النجمات فجزئيات اضافية في الكون. بيد اننا اعتدنا حضور الشمس ولم نعد نتنبه سوى الى غيابها، عند كسوفها. نفكر في الشمس عندما لا نرى الشمس. في حين ان النجمات المذنّبات كانبثاق للشمس، هي حيوانات مرسلة، وتشكل على الرغم من كل شيء الدليل على وجود الشمس. من دون الرقّ لا وجود للأسياد. يُفترَض بالسيد ان يحاط بالعبيد من اجل ان يختبر حدود حياته الذاتية. انا المحامي وربّ العمل العصري، اقرّ بكينونتي ووجودي خمس مرات في الاسبوع (ذلك ان السبت والاحد يوما عطلة). اجلس في موقعي على رأس طاولة المفاوضات، الى جانب مرؤوسيَّ، المرؤوسين جدا، واتصرف كزعيم عصري، غير اعتباطي، انا شمس ترغب في ان تدفئ وليس ان تحرق. على الرغم من كل شيء، أليس صحيحا اني الزعيم لأنهم يقبلون بأن يكون الوضع على هذا النحو؟
أليست النجمات المذنّبات المسؤولة عن جعلنا نفكر في الشمس؟ أليست هي التي تمنح الشمس الحياة؟ لا اعرف ما اذا كان مطلق أيّ شخص في موقعي يتأمل هذه المسائل. لا اظن ذلك. في الاجمال يعتبر صاحب السلطة ان سلطته امر مقدر ومحسوم لكأنه لم يلد عاريا وانما متوّجا ومتدثرا بالثراء. انظر الى مرؤوسيَّ الجالسين حول الطاولة وارغب في ان اسألهم، هل انا الشمس ام انا الأحد؟ هل اتمتع بالسلطة من تلقاء نفسي ام لأنكم منحتموني اياها؟ من دونكم هل كانت لأفتقر الى السلطة؟ هل اصحاب السلطة هم اولئك الذين يمنحونني السلطة ام انا الذي امارسها؟ يبقى مذنّب هذا اليوم مذنّبا لأنه مرئي. كم يبلغ عدد النجمات التي تسبح في السموات يوميا من دون ان نتنبه اليها؟ هل نحن نجمات تسبق او تلحق؟ في حال كنت نجمة، كيف كان ليبدو ذيلي؟ مشتتا كل وميض في وجهة؟ هل كنت لأكون نجمة يتم ترقبها من دون جدوى او نجما دوريا، نجما استثنائيا يصعب تخيّله الى حين يظهر، او نجما يسهل توقعه، وتاليا مضجرا، او لنقل ادنى من ان يكون في مصاف النجوم؟
هل ايام السبت والأحد ايام عطلة في الواقع؟ ام هي ايام راحة فحسب ام ايام متقلبة للكسب التجاري؟
لن افصح في هذا اليوم واتمنى الا اضطر الى الافصاح، غير اني، نظرا الى كوني رئيس مجلس الادارة، اسمح لنفسي بترف واع ومصمم بأن اكون الوحيد يدلي ساقه فوق ذراع الكرسي ويحرّكها بعصبية. حسناً، هل ثمة شخص اخر يتجاسر على فعل ذلك؟ وانا هل اجرؤ على ان افسر لنفسي سبب نجاحي؟
لماذا تزوجت بها؟ لأعيد تموضع الامور وتموضع نفسي ايضا. كنت في مطلع مسيرتي المهنية، ادرس الحقوق ولم اكن اتممت تدرجي بعد، الذي يمكنني من الحصول على اللقب الاثير. بكلمات يسيرة لم اكن احدا.
اما هي فكنت ارى صورها تنفلش في الصحف يوميا. كانت ملكة الربيع. كانت تمر عبر جادة ريفورما، في العاصمة مكسيكو في سيارة، وكان الفرق واضحا بينها وبين الاخرين المشاة. كانت اميرة كرنفال مازالتان، وراعية حدث “ثيرفيسيريا تيزوزوموك” الذي اقيم لجمع الاموال لمأوى المسنين. تولّت افتتاح المحال التجارية وصالات العرض والطرق والكنائس ومطاعم المؤسسات، ولم يكن السبب لأنها الاجمل.
كانت بريسيليا اولغين بالكاد جميلة. كان وجهها المدوّر يحرر بريق عينيها الصغيرتين البريئتين، في حين لفت نقاء اسنانها والدملة في الوجه، ناهيك بأنف منمنم لم يطلب جراحات طارئة. اطلقنا عليها بيننا اسم مونيدا، ذلك انها لم تكن تفضح جمالا أخاذا وجاذبا مثل دولوريس ديل ريو او ماريا فيليكس. ولم تكن قبيحة ايضا كالنساء  المسنات والسمينات او تلك الطيبات الى حد بعيد او السيئات على نحو منحرف، المحرومات من مثالية كبيرة ونادرة تتمتع بها الخلاسيات المشار اليهن آنفا والمرصودات ليصرن زوجات (في سن الشباب)، ويصرن إذا حالفهن بعض الحظ، ربات عائلة متسامحات (في سن متقدمة). من شأن المناسك ان ترفع الانسان الى الاعلى من دون شك. على هذا النحو مثّلت بريسيليا اولغين الوسط العادل. لم تملك الكثير من القباحة، ولم تملك من الجمال سوى القليل القليل.
كانت من صنف يسمّى الانيق. لم يكن مظهرها يهين القبيحات او ينافس الجميلات. كانت في هذا المعنى العروس المثالية. ذلك انها لم تتهدد احدهم. جعلها غياب الخطر اكثر جاذبية من تلك المفترسات القاتلات ومن المكائد من دون طعم حتى. ناهيك بأن اناقتها لم تنحصر في ان تسيطر كالملكة على الحفلات الضرورية. في حال شككت في هباء ملكها، عمدت الى تزيينه. على هذا النحو وفي اعقاب تتويج احداهن ملكة لذاك او اميرة لذلك، راحت تتمتم غناء “اكذب عليَّ اكثر، لكي تجعلني ظلاميتك سعيدة”، او “هناك في المزرعة الكبيرة، هناك حيث عشت” او “ليس ثمة بوابون او جيران” او “الى جانب ضفة ايباكاراي الزرقاء”.
لم يكن ايٌّ من هذا في الحسبان، غير ان الجميع ترقبّوا ردود فعل بريسيليا كأنها ادت الأغنية الأخيرة من اجل البوح بشيء معين. كأن تقول ان ملكها لا يُختزل بجمالها وهو موضوع نقاش، وانه مكافأة على موهبتها في اداء الاناشيد الشعبية. ربما ارادت قول امر على نقيض ذلك، كإعلان انها في المقام الاول مغنية وان تتويجها كان حادثا عرضيا فحسب، نوعا من الترقية في مجالها الفني. او ان تؤكد أن الغناء يعوض عن فقد الجمال المبهر، بمعنى انه القادر على اجتذاب الاهتمام. لم يكن ذلك من دون جدوى، كنت اراقب واضحك وانا اتأمل الشبان الاكثر ثراء في المدينة يتوددون اليها، ناهيك بورثة الاقطاب الصناعية، واولئك الذين ركبوا سيارات من نوع “مازيراتي”. ألم تكن بريسيليا صديقة السيارات المكشوفة الدائمة، واليخوت في اكابولكو والجالسة في الصفوف الامامية في مباريات مصارعة الثيران؟ ألم تكن في المحصلة بعيدة المنال خارج صفحات المناسبات الاجتماعية في “نادي ريفورما”؟ كيف السبيل الى بلوغها مباشرةً وجسديا خارج وسائط اللياقات؟
ترجمة ر. ر.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى