ما العمل مع الأزمة المالية العالمية؟
بول كروغمان()
إن ما يحتاج إليه العالم الآن هو عملية إنقاذ. فنظام الإقراض العالمي هو في حالة تعرقل الآن، والجمود الاقتصادي يتخذ طريقه للسواد أثناء كتابة مقالتي هذه. والمطلوب الآن الإصلاح من أجل جعل الخروج من الأزمة ممكناً؛ وإن كان ينبغي الاعتراف أن هذا يحتاج إلى بعض الوقت. إن علينا أولاً التعامل مع الخطر الواضح والقائم. ولكي نستطيع مواجهة ذلك، يكون على الساسة في العالم، وأصحاب القرار، أن يحققوا أمرين: إعادة الاقتراض ونظامه الى سويّتهما، ورفع مقادير الإنفاق.
والأمر الأول، إعادة الإقتراض الى سويّته هو المهمة الأصعب؛ وبالذات في الظرف الحاضر؛ لكنها مهمة ينبغي أن تجد من يقوم بها حالاً. إذ لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع أو نقرأ أخباراً عن كارثة جديدة، بسبب تجميد القروض للمؤسسات. وبينما أكتب هذه المقالة، وعلى سبيل المثال، تتوارد الأنباء عن انهيار نظام رسائل أو تكليفات القروض Letters of credit، وهي الطريقة الرئيسية لتمويل تدفقات التجارة العالمية. وفجأة، ما عاد المستوردون من الدول النامية قادرين على المضيّ في صفقاتهم، وسفن الشحن تقف كسلى وفارغة. والمعروف أن جدول شحن البلطيق (Baltic Dry Index) وهو مقياس مستخدم عالمياً لتقدير نفقات الشحن، هبط في العام 2008 بمقدار 89%. والعلّة الكامنة وراء عصر نظام القروض، هو الاقتران بين انخفاض الثقة بالمؤسسات المالية، وتضاؤل قدراتها المالية؛ في الوقت نفسه. فالمتعاملون والمؤسسات؛ بما في ذلك المؤسسات المالية، لا يريدون التعامل مع أي أحد إلا الذين يملكون مقدرة مالية لدعم وعودهم، في الوقت الذي جرّدت فيه الأزمة كل الأطراف من مدخراتهم المالية.
إن المخرج الواضح من هذا المأزق يتمثل في ضخّ رؤوس أموال جديدة في النظام. وفي الواقع؛ فإن هذا العمل هو الجواب المعتمد في كل الأزمات المالية. ففي العام 1933 عمدت إدارة الرئيس روزفلت الى إعادة بناء الشركات المالية ومن ذلك الطريق إعادة تمويل البنوك؛ بشراء السلع ـ في مقابل السلع؛ خصوصاً تلك التي تملك أولوية من خلال قابليتها لتحقيق أرباح. وعندما دخلت السويد في أزمة مالية في مطالع التسعينات، خطت الحكومة الى الأمام، وزوّدت البنوك برأسمال إضافي يُساوي ما نسبته 4% من الناتج الوطني العام ـ وهو ما يساوي بالمقاييس الأميركية مبلغ 600 بليون دولار ـ وتملكت بالمقابل أجزاء معتبرة من ملكيات تلك المصارف. وعندما تحركت اليابان لإنقاذ بنوكها من أزمة مالية عام 1998، تملكت ما قيمته أكثر من 500 بليون في سوق السلع المفضّلة، وهو ما يُساوي بالمقياس الأميركي، تريليون دولار تُضخ في الأسواق. وفي كل تلك الحالات؛ فإن تأمين رأس مال جديد، أعان على ترميم قدرة البنوك على الإقراض، وأذاب الجليد عن أسواق التمويل.
إن إنقاذاً مالياً من هذا النوع هو الذي يجري العمل عليه الآن بالولايات المتحدة الأميركية، وبعض الاقتصادات الأخرى المتقدمة؛ على الرغم من أن تأخراً حصل في تبنّي هذا المسار (ويمكن إرجاع ذاك التردد في انتهاج هذا السبيل) الى الاعتبارات الأيديولوجية لإدارة بوش(**). وقد بدأ (التدخّل) بعد سقوط مؤسسة ليمان براذرز (Lehman Brothers)، فاقترحت الخزانة الأميركية شراء ما قيمته 700 مليار دولار من الموجودات المتهدّدة من البنوك والمؤسسات المالية الأخرى. لكن لم يكن واضحاً كيف يمكن لهذا الإجراء أن يُساعد في مثل هذا الموقف (فلو أن الخزانة الأميركية اشترت بأسعار السوق؛ فإن ذلك لن يساعد المؤسسات المضطربة. ولو أنها اشترت بأعلى من أسعار السوق لقيل إنها تُبذّر أموال دافعي الضرائب!). وعلى أي حال، وبعد تردّد دام ثلاثة أسابيع، قررت الولايات المتحدة أن تسير على خطى دول أخرى مثل بريطانيا وبعض الدول الأوروبية القارية، فتحوّل مسائل الدعم الى خطة لإعادة التمويل.
ويبقى مشكوكاً فيه ـ فيما يبدو لي ـ أن يكون ذلك كافياً لتغيير الأشياء أو إعادتها الى دورتها العادية؛ وذلك لثلاثة أسباب: الأول، إنه حتى لو خُصّصت الـ700 مليار كلها لإعادة التمويل (حتى الآن أُنفق جزء صغير من المبلغ)؛ فإن هذا المبلغ يُعتبر ضئيلاً مقارناً بالدخل الوطني أو القومي (GDP)، ومقارناً بما أنفقته اليابان في أزمة بنوكها. ويمكن التدليل الآن على أن الأزمة المالية الحالية بالولايات المتحدة وأوروبا، ليست أقل سوءاً من أزمة (البنوك) المشابهة بالنسبة لليابان (عام 1997؟). والثاني أنه ما يزال غير واضح حتى الآن، كم من أموال “إعادة الملاءة” او التعويم سوف تصل الى “جهات الظل” من وراء النظام المصرفي ـ وهي في العادة جهات غير منظمة تتضمن بنوك الاستثمار والقروض السريعة ـ وهي تقع في أصل المشكلة. والثالث أنه ليس واضحاً حتى الآن، اذا كانت البنوك ستستعمل هذه المساعدات لإعطاء القروض، أم أنها سوف تقعد عليها (وهذه مشكلة حدثت في النيوديل قبل خمسة وسبعين عاماً).
إن تخميني أن إعادة التمويل ينبغي أن تكون أكبر وأن تتّسع أكثر، وأن تكون للدول وسائل رقابة وضبط أوثق وأشد. وفي الواقع، فإن الأمر سوف يقترب كثيراً من التأميم الكامل لفترة مؤقتة لأجزاء مهمة في النظام المالي. ولكي أكون واضحاً تماماً: إن هذا ليس هدفاً بعيد المدى، أي تحويل النظام المالي الى نظام موجّه بالأمر: فالنظام المالي ينبغي إعادة خصخصته عندما يصبح مأموناً فعل ذلك. وهذا ما قامت به السويد حين أعادت النظام المصرفي الى القطاع الخاص بعد أن قامت بعملية الإنقاذ (التعويم) الكبيرة في مطلع التسعينات من القرن الماضي. أما الآن فالأمر المهم هو التمكين من الإقراض أو تسهيله بشتى الوسائل المتاحة، دونما ربط بأي عقد أيدلويودية. ولا شيء أسوأ من الفشل في فعل ما هو ضروري (لإنقاذ النظام المالي) بدافع الخوف من أن ذلك الإنقاذ يحوّل الاقتصاد الى اقتصاد “اشتراكي”.
والأمر نفسه يسري على مسار آخر في مقاربة مشكلة الإقراض: دفع الاحتياطي الفيدرالي الى العمل في السوق موقتاً، من أجل إقراض القطاعات غير المالية. لقد أظهر الاحتياطي الفيدرالي ترحيباً بشراء “الأوراق التجارية”، وهذه خطوة رئيسية في هذا الاتجاه، لكن قد يبدو ضرورياً السير خطوات أوسع في هذا المسار.
إن هذه التصرفات جميعاً ينبغي أن يجري تنسيقها مع البلدان والاقتصادات المتقدمة الأخرى. والسبب يكمن في عولمة الشؤون المالية. فهناك جزء من المدفوعات لإنقاذ النظام المالي، يمكن أن تساعد على فكّ القبضة والانكماش عن القروض في أوروبا. ثم إن إحدى نتائج التعويم في أوروبا أنها تساعد في حل أزمة القروض في الولايات المتحدة. وهكذا فإن كل الأطراف سوف تجد نفسها تفعل الشيء ذاته. فنحن جميعاً معاً (وعلى الزورق نفسه). وهناك أمر آخر إضافي: فانتشار الأزمة المالية وبلوغها الأسواق المتوسطة والصغيرة النامية، يجعل من إنقاذ الأسواق النامية، جزءاً من معالجة الأزمة المالية العالمية.
أما بالنسبة لمسائل إعادة التمويل؛ فإن جزءاً من ذلك قد حصل بالفعل في الخريف الماضي (للعام 2008). فصندوق النقد الدولي أقبل حينها على إقراض دول ذات اقتصاد مُتْعَب مثل أوكرانيا، دونما مطالب ذات صبغة أخلاقية، وإجراءات للتقشّف؛ مثلما حصل خلال الأزمة الآسيوية في التسعينات. وخلال هذه الشهور، أعطى الاحتياطي الفيدرالي خطوط تسهيلات للبنوك المركزية في عدد من الاقتصادات النامية، بحيث تستطيع الحصول على كميات من الدولار الأميركي بقدر ما تحتاج. أما في الجانب المتعلق بإعادة التمويل؛ فإن المساعي التي بُذلت يبدو أنها تسير في الطريق الصحيح، لكنها ما تزال صغيرة، ويحتاج الأمر الى بذل أكبر وأسرع.
لكن، حتى لو كانت خطوات الإنقاذ للنظام المالي قد بدأت تؤتي ثمارها، بحيث عادت أسواق الإقراض للعمل؛ فإننا ما نزال نواجه ركوداً اقتصادياً تتجمع عوامله ولحظاته. فماذا ينبغي فعله بهذا الصدد؟ والجواب، شبه المؤكد صحته، يتمثل في دعم “النقد” بحسب رؤية كينز Keynes. والآن، فإن الولايات المتحدة حاولت إنعاش النظام النقدي في مطلع العام 2008، ووقتها قالت إدارة بوش، كما قال الديموقراطيون إنها خطة لبداية جديدة في الاقتصاد. لكن النتائج العملية جاءت مخيّبة للآمال؛ وذلك لسببين؛ الأول أن جرعات الإنعاش كانت صغيرة جداً، لا تزيد في مقاديرها عن 1% من الناتج القومي (GDP). فالخطوة التالية ينبغي أن تكون أكبر بكثير، بحيث تصل الى قرابة الـ4% من الناتج القومي أو الوطني. والسبب الثاني أن أكثر الأموال التي ضُخّت في الحزمة الأولى جاءت في شكل إعادة ضرائب، وقد جرى في الأكثر اختزانها من جانب من حصلوا عليها، وما دخلت السوق بالإنفاق. ولذا فإن الخطوة التالية ينبغي أن تأتي في شكل إنفاق مُتنام ومتوسّع من جانب الحكومة الفيدرالية. أما التثبيت والتنامي فينبغي أن يأتي بصورة مساعدة للإدارة الفيدرالية ولحكومات الولايات. وأما التوسع فيحصل من طريق الإنفاق على الطرق والجسور، وأنواع أخرى من البنية التحتية.
إن الاعتراض المعتاد على الإنفاق من جانب إدارة الشأن العام، باعتبار ذلك أسلوباً في إنعاش الاقتصاد، أنه يأخذ وقتاً طويلاً حتى يحصل ويظهر أثره، بحيث إنه عندما يأتي يكون الجمود الاقتصادي قد انتهى. وهذا الهم لا يبدو مرجحاً الآن، فلا شيء يشير الى أن هناك موجة نمو جديدة قادمة في الأفق. وهذا، إلا إذا حدثت فورة غير متوقعة تحل محل انكسارات أزمة الرهن العقاري (وقد وصف عنوان في صحيفة The Onion المشكلة بشكل صحيح تماماً؛ فالعنوان نصّه: الانكماش يصيب الأمة، وهناك حاجة الى فورة جديدة للعودة للاستثمار). فإذا جرى دفع الإنفاق العام بسرعة معقولة؛ فإنه سيكون لديه وقت كثير للمساعدة والتأثير. فمن جهة سوف يجري إنفاق المال بالفعل، ومن جهة أخرى فإن أشياء إيجابية ستتحقق (من مثل الجسور مثلاً، وهذا إذا لم تسقط!). وربما اعترض بعض القُرّاء بأن الانعاش النقدي من طريق الإنفاق على الأعمال العامة، هو المسلك الذي اتّبعته اليابان في التسعينات. وهذا بالفعل ما حصل. وحتى في اليابان، على أي حال، فإن الإنفاق العام ربما حال دون سقوط الاقتصاد في وحدة الانكماش. وبالإضافة لذلك، هناك ما يدعو للاعتقاد أن الإنعاش من خلال الإنفاق العام، سوف يعمل في الولايات المتحدة، أفضل مما عمل باليابان. وذلك لأمر واحد هو أننا، حتى الآن، في شرك التوقعات الانكماشية (بعكس التضخّم)، وهذا الذي حصل في اليابان التي مضت عليها آنذاك سنوات من السياسات الاقتصادية القوية لكن غير الملائمة. وقد انتظرت اليابان طويلاً للإقبال في النهاية على إعادة تمويل نظامها المصرفي، وهي غلطة آمل أن لا نقع فيها أو نكرّرها.
إن النقطة المركزية في ما أحاول قوله هي أن نُقارب الأزمة الحالية بروحية الذين صمّموا على فعل أي شيء لإدارة الأمور بالاتجاه المعاكس للوضع الحالي. فإذا كان ما فعلناه حتى الآن ليس كافياً، فلنقم بالمزيد، ولنفعل أشياء مختلفة، الى أن تعود القروض الى التدفّق، وإلى أن يعود الاقتصاد الحقيقي الى الصحة والسلامة. وعندما تتجه مساعي الإنقاذ الى النجاح، يكون الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات جذرية: إصلاح النظام بحيث لا تحدث الأزمة ثانية.
الإصلاح المالي: قال جون ماينارد كينز (J.M.Keynes) في بداية الكساد العظيم: “لدينا اضطراب كبير”، لكن معظم الآلة الاقتصادية ما يزال في حالة جيدة. بيد أن الآلة الأخرى الموازية، أي النظام المالي، لا تعمل بالفعل. وقال كينز أيضاً: “لقد أوقعنا أنفسنا في خطأ كبير. إذ إننا أهملنا ضبط وصيانة آلة حساسة، ما استطعنا فهم طريقة عملها”. وكلا التقديرين كان صحيحاً يومها، وهما صحيحان اليوم. كيف حصل “الخطأ الكبير” في المرة الثانية هذه؟ بعد الكساد العظيم، رسمنا الآلة بحيث نستطيع فهمها، لقد فهمناها جيداً لتجنب الكوارث الكبرى. فالبنوك، وهي الجزء من النظام الذي لم يعمل جيداً في الثلاثينات، وضعت تحت وسائل وأدوات ضبط صارمة، وزوّدناها بشبكة أمان قوية. ولهذا فإن التحركات العالمية لرأس المال، والتي لعبت دوراً مقلقاً في الثلاثينات، ما كانت لها تأثيرات سلبية بارزة في الأزمة الحالية. وهكذا فإن النظام المالي ـ وبسبب الضوابط والضمانات التي استحدثت في الثلاثينات والأربعينات ـ صار مملاً بعض الشيء، لكنه أكثر أماناً بكثير. ثم صارت الأشياء أكثر إمتاعاً وخطورة ثانية. فكُتل رأس المال المتدفقة عبر العالم صارت أكثر ضخامة، ودفعت باتجاه أزمات عملات هائلة في التسعينات، وباتجاه أزمة مالية عالمية عام 2008. لقد تضخمت الكتل المالية في ظل النظام البنكي، وبدون امتداد للضوابط والمعايير باتجاهها، فهيّأ ذلك المسرح لمشهدية ملحمية في أشباه المصارف، وبوتائر عالية. وهذه السباقات والتي شاركت فيها جحافل من الفئران، وليس قطعاناً من الدببة، جرت خارج الأبواب المقفلة للمصارف، لكنها ما كانت أقل تدميراً.
إن ما يجب علينا فعله الآن، هو أن نُعيد تعلّم الدروس التي تعلمها أجدادنا من الكساد العظيم. ولا أحاول هنا أن أتناول تفاصيل خطة للضوابط وشبكات الأمان لنظام المعايير، لكن المبدأ الأساسي ينبغي أن يكون واضحاً: أي شيء يجب إنقاذه خلال الأزمة المالية، لأنه يلعب دوراً أساسياً في الآلة المالية، ينبغي أن توضع له ضوابط عندما لا تكون هناك أزمة، حتى لا يندفع باتجاه مخاطر (لا تُحمد عقباها). فمنذ الثلاثينات صار على البنوك التجارية أن تحتفظ برأس مال ملائم، وأن تحتفظ باحتياطي على الموجودات السائلة التي يمكن بسرعة تحويلها الى نقود، وفي الوقت نفسه تحديد أشكال التمويل التي تُعاد الى الضمانات الفيدرالية عندما تجري الأمور باتجاه الخطأ. والآن وقد شاهدنا شبكة واسعة من المؤسسات غير البنكية، تتجه لإنتاج أزمة توشك أن تصبح أزمة بنكية، فإن ضوابط مماثلة ينبغي أن تُمدّ على أجزاء أوسع بكثير في النظام كله.
ونحن نتجه أيضاً للتفكير بجدية في كيفية التعامل مع العولمة المالية. ففي الفترة التي أعقبت الأزمة الآسيوية في التسعينات، علت أصوات تُطالب بالحد من التدفقات الرأسمالية العالمية، وذلك على طول المدى، وليس خلال الأزمات فقط. وفي غالب الأحيان، جرى تجاهل هذه الأصوات، لصالح استراتيجية تتبنى بناء احتياطات واسعة من العملات الأجنبية، والتي كان من المفروض أن تحول دون حصول أزمات في المستقبل. ويبدو الآن أن هذه الاستراتيجية لا تعمل. وبالنسبة لبلدان مثل البرازيل أو كوريا (الجنوبية) فإنها تبدو بمثابة كابوس. فعلى الرغم مما فعلوه، يظهر أنهم يقعون من جديد في الأزمة التي عانوا منها في التسعينات. ولا يبدو تماماً الآن ما يجب أن تكون عليه الإجابة على هذا التحدّي. أما ما نستطيع تقريره الآن بكل ثقة أن العولمة المالية هي اكثر خطورة بالتأكيد من كل التوقعات.
قوة الأفكار: يمكن للقراء أن يكونوا قد استجمعوا ما أردت التوصّل إليه. فأنا أؤمن بأننا لا نعيش وحسب حقبة جديدة من الانكماش الاقتصادي على المستوى العالمي، بل وأن جون ماينارد كينز ـ المفكر الاقتصادي الذي أشعر العالم بخطورة الكساد العظيم ـ هو اليوم أكثر حضوراً مما كان عليه في أي آن. كينز Keynes ختم كتابه العظيم: النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود، بعبارة شهيرة توضّح أهمية الأفكار في الاقتصاد. قال كينز: “اليوم أو غداً؛ فإن الأفكار، وليس المصالح الفئوية، هي التي تبدو الأكثر خطراً، وفي مجالي الخير أو الشر”.
ونستطيع أن نُجادل بالطبع هل يكون ذلك صحيحاً دائماً، لكن في زمن مثل الذي نمرّ فيه؛ فإن الأفكار بالفعل شديدة الأهمية. فالعبارة الاقتصادية التي يُسلّم بها الجميع ينبغي أن تكون: “ليس هناك غداء من دون ثمن”. ومعنى هذا القول أن الموارد محدودة، وإذا كنت تريد أن تحصل على المزيد من شيء مُعيّن، فيكون عليك أن تقبل بكميات أقل من شيء آخر. وهذا يعني أيضاً أنه لا كسب من دون ألم. بيد أن الاقتصادات المنكمشة، على أي حال، فإنها تتضمن البحث في المواقف التي يمكن فيها الحصول على غداء من دون مقابل؛ وذلك بشرط أن نتصور كيفية وضع اليد عليه. وهذا على فرض وجود مصادر وموارد غير مستعملة يمكن وضعها في مجرى العمل. ولذا فإن الندرة الحقيقية في العالم (Keynes) ـ وعالمنا ـ كانت وما تزال ليس في الموارد، أو حتى في القيم والفضائل، بل في مسائل الفهم.
وهكذا لن نستطيع الحصول على الإدراك الذي نحن بحاجة إليه، إلاّ إذا كنا قادرين على التفكير بوضوح في مشكلاتنا، وأن نُتابع هذه الأفكار مهما يكن السبيل الذي تقودنا إليه. بعض الناس يقولون إن مشكلاتنا الاقتصادية بنيوية، ودونما شفاء سريع حاضر أو في الأفق. لكنني مقتنع بأن العقبة البنيوية الكأداء أمام الازدهار العالمي تتمثل في المقولات السائدة والتي تقبض على عقول الرجال.
(ترجمة: رضوان السيد) 20 نوفمبر 2008
() أستاذ اقتصادي كبير، حاصل على جائزة نوبل للاقتصاد للعام 2008. معلّق اقتصادي بالنيويورك تايمز. وقد كتب هذه المقالة الموجزة للمجلة الأميركية نصف الشهرية المسمّاة New York Review of Books, December 28,2008/ Vol.LV.No. 20.
(**) ربما يقصد الكاتب وجهة نظر اليمين الأميركي في تصغير دور الدولة، ودعم القطاع الخاص (المترجم).