أردوغان، خاطفاً لفلسطين
هوشنك بروكا
“إنتفاضة” رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ضد مداخلة رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، الذي دافع عن “مشروعية” حرب بلاده الأخيرة على غزة، احتلت أمس الخميس العتاوين الرئيسية لأخبار المنتدى الإقتصادي العالمي المنعقد في دافوس بسويسرا.
أثناء مداخلته، التي جاءت في مجملها، كردٍّ مباشرٍ على كلام أردوغان، الذي وقف مع غزة ضد “بربرية” إسرائيل، توجه بيريز إليه بالسؤال الجوهري التالي: “ماذا كنت لتفعل لو سقطت عشرات الصواريخ كل ليلة على اسطنبول؟”
“قساوة” خطاب بيريز، وإسلوبه المباشر في الرد، على حد قول البعض، أو رفعه لصوته بين الحين والآخر، هو الذي أثار حفيظة أردوغان، وأدى، تالياً، إلى انسحابه الغاضب من قاعة المنتدى.
مهما تكن الأسباب البعيدة والقريبة لهذا الإنسحاب الأردوغاني من منتدى اقتصادي عالمي مهم، كدافوس، والذي ينعقد سنوياً، بمشاركة نخبة كبيرة من القادة السياسيين، وذوي الشأن، والخبراء الإقتصاديين ورجال الأعمال والشركات المتعددة الجنسيات، من مختلف أنحاء العالم، فإن الموقف سيسجّل، دون أدنى شك، لصالح أردوغان، وسيزيد من أسهمه السياسية، سواء في الداخل التركي(حيث الإنتخابات البلدية التي ستجري في أواخر مارس القادم، هي على الأبواب)، أو خارجه، لا سيما في العالم الإسلامي، والعربي منه على وجهٍ أخص.
ولعل استقبال الألاف من أتراكه له، في اسطنبول اليوم الجمعة، “استقبال الأبطال”، قادماً من نشوة “النصر الكلامي” على بيريز، هو بداية الدخول في “النصر السياسي”، الذي سيُسجّل في رصيد حزبه، في القادم القريب من تركيا الإنتخابات البلدية.
وبالرغم من أنّ الموقف قد سُجّل لأردوغان “تركيا العدالة والتنمية”، في كونه موقفاً لأجل “غزة المسلمة”، إلاّ أنّ تفاصيل الموقف تكشف أيضاً، بأنه كان موقفاً من قبيل “رد الفعل”، على “منظمي المنتدى”، بالدرجة الأساس، الذين “منحوا بيريز 25 دقيقة للكلام، بينما منحوا المشاركين الآخرين وقتاً أقل”، كما جاء في تصريحاته. فضلاً عن أنه كان في أساسه، “انتفاضة رد فعل” على “عدم لباقة” إسلوب بيريز الذي خرج عن “أعراف الكلام الديبلوماسي”، حيث كان “يستدير وينظر الى إليه مباشرة بينما كان يلقي كلمته”،” و ذلك “يتنافى مع روح النقاش الحر في دافوس”، على حد قول أردوغان.
ومن تابع وقائع جلسة المنتدى، أثناء نشوب المشادة الكلامية بين بيريز وأردوغان، سيلحظ بأنّ هذا الأخير، ظلّ هادئاً، ولم يقاطع محاوره، طيلة مداخلته، والتزم الصمت إلى أن أنهى بيريز كلامه الذي قوبل بتصفيقٍ حار من الحضور، ثم رفع يده، مستأذناً من مدير الجلسة، ب”دقيقة واحدة”، للتعقيب والرد على الرئيس الإسرائيلي. وحين شعر أردوغان ب”انحياز” مدير الجلسة، لبيريز، بإعطائه وقتاً أكثر(25 دقيقة مقابل 12ـ15 دقيقة له وللآخرين)، انتفض أردوغان وقال كلمته، متهماً منظمي المنتدى، بأنهم “منعوه من الكلام بالرد على مداخلة بيريز الطويلة”، وانتقد الحضور قائلاً: “من المحزن جدا ان يصفق اشخاص لموت الكثيرين واعتقد انهم مخطئون بالتصفيق لاعمال قتلت اشخاصا”، ليسجّل بذلك موقفاً ذكياً، ويقول كلمته ويمشي، منسحباً من القاعة وسط دوي التصفيق أيضاً.
فالملاحظ من مجريات المشادة الكلامية وتصريحات أردوغان بعدها، هو أنه لما كان اتخذ موقف “الإنسحاب” من دافوس، لولا “انحياز” المنظمين إلى بيريز، على حدّ قوله.
ولكن “الموقف الذكي”، يبقى موقفاً يسجل للرجل، على امتداد الشوارع الإسلامية، التي تنتفض وتثور مع أيّ كلامٍ ينتفض فيه صاحبه لأجل “شرف الأمة”، و”مقدسات الأمة”، و”فلسطين الأمة”، وغيرها من “ثوابت الأمة”، التي آلت إلى “شماعاتٍ سياسيةٍ”، سواء داخل “تركيا المسلمة”، أو خارجها، في العالمين، العربي بخاصة، والإسلامي بعامة.
لا شك، أنّ لا استغراب في “انتفاضة” أردوغان التي “أحسن” فيها ب”الردّ المناسب”، وربما في الزمان والمكان المناسبين، على بيريز، وذلك بالإنتقام لمكانته كرئيس وزراء ل”تركيا الشمس” ب”غزة فلسطين”.
فهو، ركب الموقف ك”رئيس مسلم”، سياسياً، بالرد الكلامي على بيريز، في مشادةٍ كلامية، سوف لن تتطور إلى مشادات تركيةـ إسرائيلية أخرى أبعد منها، كما قد يُعتقد، واستغل “اللحظة الإسلامية” في داخل تركيا قبل خارجها، خير استغلالٍ، ليصبح ليس “بطلاً تركياً في تركيا المسلمة”، فحسب، وأنما بطلاً للأمة العربية أيضاً، لا بل “أميراً للمؤمنين”، كما سمّته بعض المواقع والجهات الإسلامية الإلكترونية.
ففي الوقت الذي يتظاهر فيه أردوغان ب”الأممية الإسلامية” العابرة للدول، ويعبر بإسلامه حدود تركيا(ه)، إلى فلسطين، ويضيف “نصراً نبيلاً” آخر، ل”انتصارات” المقاومة في غزة، كما جاء في بيانٍ لحماس، لماذا ينسى “أمير المؤمنين” هذا، أن يكون الإسلام ذاته، ولا يطبّق المبادئ والتعاليم الإسلامية، التي ينصر فيه المسلم أخاه المسلم(ظالماً أو مظلوماً)، ذاتها، مع أكراده المسلمين الخلّص، ويرفضهم ولا يقبلهم في تركيا(ه)، إلا أن يكونوا “أتراكاً”، في تركيا واحدة، بلسان واحد، وعلم واحد، ودستور واحد، حيث التركي فيه يساوي العالم؟
لا شك، أن غياب الموقف العربي الموحد مع فلسطين لمواجهة إسرائيل موحدة، فضلاً عن غياب الأفعال العربية الحقيقية، إزاء هذه القضية العربية المركزية، يشكل الأرضية المناسبة لصناعة “أبطال كلام”، مسلمين حصراً، عابرين للحدود، يخطفون فلسطين من عريها، ويستخدمونها مطيةً، للعبور إلى أهداف وأجندات سياسية في بلادهم.
هكذا، خطفت إيران(عبر شقيقتها سوريا) فلسطين ولبنان والعراق من العرب، وسحبت البساط من تحتهم، لتصبح اللاعب الأكبر في المنطقة، وتلعب بالعرب ضد العرب. والأن، يخرج علينا أردوغان، من جهة العرب الأخرى، ليخطف فلسطين ذاتها، في سويسرا، من جامعة عمر موسى العربية، ليُعلن، وهو التركي العثماني، “بطلاً” للأمة العربية قاطبةً.
وسط غياب الفعل العربي في فلسطين، من الطبيعي جداً، أن يزيد هذا “الموقف الكلامي الأردوغاني”(والذي لن يذهب أبعد من الكلام، وإن ذهب فسوف لن يخدم فلسطين، بالتأكيد، أكثر من “خدمة” إيران لها الآن، التي تجيّش فلسطين ضد فلسطين، وتسلح غزة ضد الضفة) من حماسة العرب والمسلمين، خصوصاً وأن الموقف تُرجم سياسياً، في المنتهى، إلى موقفٍ مع غزة ضد “بربرية” إسرائيل.
من الطبيعي، وسط هذا الفراغ العربي، إذ يعبره هكذا “كلام منتفض”، أن تشيد الشوارع الإسلامية ب”شجاعة” أردوغان، وأن تصفه ب”المسلم الحقيقي”، أو “بطل الأمة”، أو “أمير المؤمنين” المعاصر، وأن ينتفض المسلمون في “انتفاضته”، ويشكروه كما يشاؤون ك”مسلم عثماني عريق”، أو “تركي مسلم أصيل”، أو ما شابه ذلك من أوصاف ترفعه إلى مصاف “شرفاء” الأمة.
ولكن في المقابل، هناك أكثر من 18 مليون كردي مسلم، يسألون أخوتهم في ذات الإسلام، و”أميرهم المسلم الجديد” أردوغان: وأين هي نصرتكم الإسلامية، ل”غزاتنا”، ناهيكم عن “غزات” الأرمن وسائر الأقليات الأخرى اللاتركية، في تركيا المسلمة؟
لماذا لا يغضب أردوغان، ذات “الغضبة الإسلامية”، على مسلميه من الأكراد، في تركيا(ك) ولا يعطيهم حقوقهم المشروعة، وفقاً لشرائع ذات الإسلام، بينما هو يطالب، ك”مسلم عابر للحدود”، إسرائيل “البربرية” بحقوق غزة والفلسطينيين، الذين ضاعت حقوقهم بين “الإسلامات الكثيرة”: “إسلام زيد وعبيد”، و”إسلام العرب المعتدلين”، و”إسلام العرب الممانعين بزعامة إسلام دمشق”، و”إسلام طهران”، و”إسلام أنقرة” الآن؟
جميلٌ بدون أدنى شك، أن ينصر المسلم أخاه المسلم(لا ظالماً بل مظلوماً).
وجميلٌ، أن يعلن أردوغان المسلم عن وقفته الإسلامية مع غزة المسلمة، ولكن الأجمل أن يقف الوقفة نفسها مع أكراده المسلمين بملاييينهم الكثيرة، وهم “أقرب إليه من حبل الوريد”(أو هكذا من المفترض أن يكون)؟
ثم أوليس “الأقربون أولى بالمعروف”، كما يصدقها كتاب الله: “وانذر عشيرتك الأقربين”(الشعراء: 214)؛ و”يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ”(الشعراء:215)”، وكذا السنة النبوية: “القرابة أحوج إلى المودة، من المودة إلى القرابة”؟
يقال “أنما الشيطان يكمن في التفاصيل”.
المتن؛ متن المشادة الكلامية التي نشبت بين “رمزين” لدولتين، حيث لن تذهب أبعد من الكلام(كما سنرى، في القادم من يد تركيا في يد إسرائيل)، والتي لعب فيها أردوغان دور “البطل المنتصر” لأمة القرآن، لم يستوقفني كثيراً، لا سيما وأنّ تاريخية العلاقات التركية الإسرائيلية، على مستويات كثيرة، هي أكبر وأبعد وأعمق بكثير، من هكذا كلام وكلام مضاد، كالذي جرى بين أردوغان وبيريز.
ولكن ما استوقفني، هو موقف الأمين العام للجامعة العربية، الذي من المفترض به أن يمثل كل العرب، أو لنقل العرب الرسميين وحكوماتهم الرسمية هناك، حين وقف “نصف وقفة” طافحة بالخجل، أمام أردوغان “الخاطف” لفلسطينه، وهو يقول انسحابه ل”عيون غزة فلسطين”، ويسجل انتصاره التركي عربياً، ويمشي.
ما استوقفني، هو الوقفة الخجولة جداً، المترددة، القلقة، لرأس الجامعة العربية أمام حفيد العثمانيين الذين احتلوا “بلاد العرب أوطاني” أربعة قرونٍ من الزمان التركي، وهو يوقف “قدس العرب” إلى جانب إسمه، كأكبر رأس رسمي لتركيا، وذلك حين استطاع، أوان حضور غزة في دافوس، أن يسجّل هدفاً سياسياً في مرمى إسرائيل، لصالح تركيا قبل فلسطين، وأن يقول مصلحة تركيا(ه)؛ “تركيا حزب العدالة والتنمية”، أو “تركيا أردوغان” ب”فلسطين عرفات”.
موسى، كان “مزدوجاً أكيداً” أو ربما أكثر، في تلك الوقفة، حين صافح أردوغان، بحرارةٍ خجولة، ربما ك”بطل تركي للأمة العربية”، مباركاً إياه على موقفٍ، هو لا يستطيع إليه سبيلاً، على أية حالٍ. فهو، كرئيس لجامعة عربية كسيحة، أراد، على الأغلب، أن يلعب في وقفته الرخوة تلك، دوراً مزدوجاً: دور “الإنتصار لغزة حماس” مع أردوغان المنسحب ب”إنتصار تركي”، ودور “المندحر” و”المنكسر” و”المنقهر”، و”المستتر” الذي يعيش، كرئيس لا يملك القرار إلا بإجماع كل عربه، حالة اللاموقف، أو حالة اللاإعراب في جملة القرار العربي الرسمي.
وهو الأمر الذي أدى به في المنتهى، بعد إيماءةٍ من الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون، إلى معاودة الجلوس في مكانه “الرزين والمعتدل”(بعكس أردوغان المنتفض) في الجلسة، ك”مفعول به”، بدلاً من “فاعل”، ربما تجنباً لكشف أو فضح المستور الباقي من “عوارت” جامعته..ف”ذاك الرأس الأقرع تستره هكذا قبعة”، كما يقول المثل الكردي.