واأردوغاناه!!!
هوشنك بروكا
كلنا سمع بصرخة تلك المرأة المسلمة التي كان الروم قد أسرها في إحدى المعارك، التي قُطعت فيها الآذان والأنوف، وسبي من النساء المسلمات، حسبما يقول بعض الرواة، أكثر من ألف إمرأة، حين استنجدت بالخليفة العباسي المعتصم بالله، مطلقةً صرختها الشهيرة: وامعتصماه! يقال أن هذه الصرخة أثرت على الخليفة العباسي الثامن، أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور المعروف بالمعتصم بالله(حكم 833ـ842)، الملقب ب”المثمن”، ك”أعظم وأهيَب” الخلفاء العباسيين، ما أدى إلى تلبيته العاجلة لندائها، قائلاً: “لبيك يا أختاه”، وخروجه على رأس جيش كبير جرار، لمحاربة الروم، وفتحه ل”أنقرة” وتدميرها، ومن ثم توجهه نحو عمورية، سنة 838م، لإعدام المدينة عن بكرة أبيها، بعد أن قتل المسلمون من أهلها حوالي ثلاثين ألفاً من أهلها. والمعروف في المعتصم بالله، هو أنه على خلاف سابقيه من الخلفاء العباسيين، الذين دخلوا مع الفرس وملوكهم في أحلافٍ، واستعانوا بهم في حروبهم، أنه كان محباً للعنصر التركي، لهذا يُقال أن خلافته شهدت، بروزاً كبيراً للدور التركي في حياة الدولة العباسية، بعد أن كان هذا الدور، على مستوى العنصر الأعجمي، محصوراً في الفرس، في عهود سابقيه. بعد صرخة غزة الأخيرة التي استغرقت 22 يوماً تحت نيران القصف الإسرائيلي، سمعنا وشاهدنا وقرأنا كيف دخل أردوغان جلباب المعتصم بالله، في قمة دافوس الأخيرة، المنعقدة بسويسرا، حين رفع أصبعه في وجه جاره الجالس إلى جانبه في الندوة، الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، قائلاً: “أنتم الإسرائيليون تعرفون كيف تقتلون الأطفال على شواطئ غزة”، متناسياً قتله لأطفال الكرد في تركيا(ه)، ليخطف فلسطين بذلك من أصحابها، ويخرج منتصراً(وإن بالكلام)، ومنتقماً، على الهواء مباشرةً، لغزة العرب من تل أبيب إسرائيل، شريكة تركيا(ه)، منذ عقودٍ خلت، في أكثر من مجال، عسكرياً واستخبارياً ولوجستياً وأمنياً. وبالرغم من أنّ “أنتفاضة” أردوغان التركية المرتدية جلباباً غزاوياً، كانت “انتفاضةً” لدغدغة مشاعر مسلميه الأتراك لصالح تركيا(ه) المسلمة، قبل الصالح الفلسطيني وصالح عربها، من المحيط إلى الخليج، إلا أنّها جاءت في المحصلة السياسية، ك”كخطاب ناري” اشتعلت به القلوب العربية، على طول وعرض البلاد العربية، من التحت إلى الفوق، ومن الشارع إلى القصر. فلم يقتصر التصفيق العربي لغضبة أردوغان على غزة، على مستوى “دول التحت”، أو دول الشوارع العربية، إلى جانب بعض دولٍ في الفوق العربي الممانع(كسوريا وقطر)، فحسب، كما هو حال الوقوف العربي المتكرر، إلى جانب غضبة إيران “الفلسطينية”، وأنما شمل هذا التصفيق، أو كاد أن يشمل كل العرب، رسميين(معتدلين+ممانعين) وشعبيين، دولاً وشعوباً، قادةً وبسطاء عاديين. ففضلاً عن اشتعال “دول” الشوارع العربية بشرارت “الحرب الكلامية” التي أعلنها أردوغان على بيريز، وانتفاضها مع “الإنتفاضة الأردوغانية”، رأينا “شبه انتفاضة” رسمية أيضاً، على مستوى الفوق الرسمي العربي، سواء من “الفوق المعتدل” أو “الفوق الممانع”. وما شهدتهما الساحتين التركية والعربية، هذا الإسبوع، من زياراتٍ وتحركات ديبلوماسية، على أرفع المستويات، بين تركيا ودول الفوقين العربيين، الممانع(قطر) والمعتدل(السعودية)، يؤكد أنّ تركيا، كلاعبٍ مهم في الشرق الأوسط، عربياً؛ تركيا أردوغان الجديدة(تركيا ما بعد دافوس)، الغاضبة على فلسطين، هي ليست أو لن تكون، أردوغانياً، كتركيا القديمة(تركيا ما قبل دافوس). النقطة الأساسية، في هذا التحول التركي، من تركيا حليفة، قلباً وقالباً، لإسرائيل في السر وفي العلن، إلى “تركيا كلامية” غاضبة على فلسطين في دافوس العلنية، هو أنه تحولٌ أراد به أردوغان قتل أكثر من عصفور بحجر تركي واحد. فهو أراد: أولاً، خطف “فلسطين السنية” من إيران الشيعية، كدولة سنية مسلمة كبيرة في المنطقة، لها أن تلعب بهذه القضية، أو ربما تجد لها فيها حقاً إسلامياً في اللعب، على أكثر من مستوى وصعيد. ثانياً، خطف فلسطين المسلمة، من عربها المسلمين، لتوظيف قضيتها، في الداخل التركي المسلم، كقضية رابحة، يمكن استخدامها، من جهة حزبه العدالة والتنمية، كحزب إسلامي، عند ركوب أية حملة إنتخابية. علماً أن هذا “الخطف” جاء في وقتٍ، تركيا هي بأمس الحاجة إليه، سواء على مستوى الداخل التركي المقبل على الإنتخابات المحلية، أو على مستوى الخارج التركي، حيث يسعى الأتراك الرسميون إلى تثبيت مكانة تركيا الإسلامية، في الشرق الأوسط المسلم، أمام أوروبا وأمريكا، كلاعبة أساسية، “معتدلة”، بديلة عن إيران الجارة الشيعية “المتشددة”. لا شك، أن من حق تركيا، كما هو من حق أية دولة، أن تركب ما تشاءه من حروبٍ كلامية، أو أجندات سياسية أخرى، تبغي من وراءها تحقيق ما يمكن تحقيقه، من حصادٍ للمصالح في الداخل والخارج، فالدول وأعمالها غير قائمة على النيات، وإنما على الممكن من السياسة لأجل مصالح ممكنة. أنّ أردوغان، بركوبه للقضية الفلسطينية، يريد، على ما يبدو، سحب البساط من تحت أقدام عربها، كما سحبت إيران ذات البساط، من تحت ذات الأقدام، من قبل، في فلسطين ولبنان والعراق، والحبل في بعض الدول الخليجية التي تعيش فيها أقلية شيعية، لايزال على الجرار. ولكن الخارج على السياسة، براغماتياً، ههنا، هو سقوط النيات العربية، الرسمية والشعبية، في فخ أعمال أردوغان، التي هي على أية حالٍ، حقٌ يراد به باطل، كما سيثبت القادم من تركيا، التي لن تضحي ب”إسرائيل اليهودية” لأجل خاطر إسلام فلسطين والعرب قاطبةً. عقب الإجتماع الأخير لوزراء خارجية 9 دول عربية، محسوبة على محور الإعتدال، الذي انعقد في أبو ظبي، قال الشيخ عبد الله بن زايد ال نهيان وزير خارجية الامارات فى تصريح لوكالة أنباء الامارات: “اننا نعمل جميعا على تجاوز هذا الوقت العصيب فى مسيرة الامة العربية ولضمان عدم تدخل أى أطراف غير عربية وغير مرغوب فيها فى شئوننا وبصورة غير ضرورية”. المقصود ب”أطراف غير عربية وغير مرغوب فيها” في جملة الوزير الإمارتي الأخيرة هذه، هو إيران المحتلة لثلاث جزر إماراتية(طنب الكبرى، طنب الصغرى، ابو موسى) منذ عام 1971، قبيل قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وبُعيد انسحاب القوات البريطانية. وهو الأمر الذي أدى إلى إثارة حفيظة إيران، وبالتالي انتقاد اجتماع وزراء خارجية العرب المعتدلين الأخير، والرد على لسان المتحدث بإسم وزراة خارجيتها حسن قشقاوي، حيث قال: “لا يوجد شيء باسم المحور العربي او الايراني، لأن المحور هو واحد وهو وحدة العالم الاسلامي في دعم الشعب الفلسطيني الذي تشكل قضيته القضية المشتركة بين جميع الشعوب الاسلامية بمن فيها الشعبان الايراني والمصري”. الواضح هو أنه لا يمكن إدراج تركيا في خانة المقصود من “الأطراف الغير عربية والغير مرغوب فيها”، لا سيما وأنّ علاقاتها مع دول المحورين المعتدل والممانع، تشهد في الآونة الأخيرة، تقدماً كبيراً في أكثر من مجال، وعلى أعلى المستويات. فهل يمكن اعتبار هذا الترحيب العربي، رسمياً وشعبياً، للدخول التركي على خط القضية الفلسطينية، من باب الإسلام، ترجمةً لصرخةٍ عربية لا معلنة، لإنقاذ العرب في “فلسطيناتهم” من التشيّع لإيران؛ صرخة ربما أطلقها العرب في كواليس اجتماعاتهم ومؤتمراتهم، التي لا تنتج سوى المزيد الإنشقاقات؟ هل بات أردوغان حفيد العثمانيين، معتصم العرب الجديد، مستصرخين به وبتركياه المسلمة: واأردوغانه!؟ أياً كان الجواب على هذه الهلات الناتئات بعيد “انتفاضة” أردوغان الأخيرة في دافوس، فإن الأكيد هو أن أردوغان العثماني لن يفعل لفلسطين وعربها، أقل مما فعلته إيران الأعجمية بهم. أما الفرق بين الصرختين، فهو كالفرق بين المعتصم بالله العربي القلب والعقل، وأردوغان الداخل في جبته، كتركيّ أكيد، قلباً وقالباً، عقلاً ولساناً.