الانتخابات المسلّحة!
الياس خوري
في اسرائيل تجري الانتخابات على صوت قعقعة السلاح. “الرصاص المسبوك”، وهو اسم مستوحى من قصيدة للشاعر القومي الاسرائيلي بياليك، لا يزال احتمالا واردا. فإسرائيل لم تنتصر في حرب غزة لأنها لم تخضها اصلا. الانجاز الاسرائيلي الوحيد كان المذبحة. فقد ارتكب “جيش الدفاع” مذبحة جديدة لا اكثر. تعلمت اسرائيل، كما يبدو، ان زمن الانتصارات الساحقة ولّى من زمان، وان عليها الآن ان تلبس صورة “ازعر” المنطقة، القادر على الهدم والقتل والراغب فيهما.
انتخابات مسلحة، وسط ما يشبه البلبلة السياسية الكاملة. احزاب متشابهة، ببرامج غامضة، تتنافس على ارث شارون. “كاديما”، الحزب الوسطي الذي اسسه شارون، يتراجع. حزب العمل في الغيبوبة التي قاده اليها باراك عام 2000، حين اعلن ان لا وجود لشريك، ممهِّدا لتصفية عرفات. نتنياهو لا يريد سلاما ولا انسحابا، لكنه يعد الفلسطينيين بتحسين وضعهم المعيشي. وليبرمان يدعو الى طرد الفلسطينيين من اسرائيل، تمهيدا لطردهم من الضفة الغربية!
صورة غرائبية عن دولة تمتلك اكبر ترسانة عسكرية في المنطقة، لكنها تجد نفسها محاصرة بقوتها التي تجعلها تراوح مكانها. تحالف “كاديما” واليسار الذي قاد اسرائيل في حربي لبنان وغزة، لا يملك ايّ تصوّر للمستقبل. عملية السلام ماتت من زمان، وبديلها هو المفاوضات من اجل المفاوضات، التي تتخللها الحروب والمذابح. ولأن الوسط واليسار لا يملكان رؤية سياسية، فمن المرجح ان يصير رئيس حزب العمل ايهود باراك وزيرا للدفاع لدى نتنياهو. اي ان اللعبة السياسية الديموقراطية في اسرائيل صارت اشبه بلعبة الكراسي الموسيقية، لكنها تدور على ايقاع موسيقى عسكرية، ووسط بحار من الدم.
لذا لن يتغير الكثير في اسرائيل مع الانتخابات. نتنياهو سوف يتقدم الصفوف، معلنا انتقام “ليكود” من شارون الذي لا يزال في غيبوبته الطويلة. ليبرمان سيكشف المخبأ في الايديولوجيا العنصرية الصهيونية التي نشأت على فكرة “الترانسفير”، وباراك سيتابع مهمة القتل، وهي المهمة الوحيدة التي يتقنها.
الانتخابات المسلحة الاسرائيلية، تكشف معنى الديموقراطية في دولة قائمة على الاحتلال، ولا حدود لها سوى حدود القوة.
بعد ستة عقود على تأسيسها، عادت اسرائيل الى مقولة جابوتنسكي عن الدولة اليهودية في وصفها قلعة محاصرة. منطق القلعة يجعل من الجيش لاعبا سياسيا رئيسيا، ويمعن في عسكرة المجتمع، ويقضي على كل احتمال للسلام.
اسرائيل ليست معنية بالسلام. انها لا تزال في طور التأسيس. هذا يعني ان الاستيطان في الضفة الغربية، والجدار العنصري، هما اكثر اهمية لها من كل المبادرات العربية، واكثر فاعلية من اي استسلام عربي يتطلب منها ملاقاته في منتصف الطريق، والتنازل عن الأرض.
ما يبدو للمراقب وكأنه بلبلة في البرامج الانتخابية المختلفة لا يعدو ان يكون عجزا او ترددا امام قول الحقيقة. فالقيادات الحزبية المختلفة في اليمين والوسط واليسار، تراعي في لغتها حساسية الرأي العام العالمي، من اللغة الصربية الفاشية الفجة التي ينطق بها ليبرمان. لكنها في اعماقها، تريد ما يشبه الحل الليبرماني. باراك عاد الى دولة الانفاق التي طرحها في كمب ديفيد عام 2000، كشكل للدولة الفلسطينية، ونتنياهو يرفض ان يبحث في الانسحاب، وليفني تتلعثم بين ماضيها الليكودي الذي يحبذ فكرة “الترانسفير”، وحلمها بأن تكون غولدا مائير جديدة!
انتخابات دارت على الدم الفلسطيني في غزة، قبل ان تجري في صناديق الاقتراع، والنتيجة معروفة سلفا. اسرائيل قلعة تحاصر نفسها بدم ضحاياها.
لن اسأل العالم العربي كيف يستعد للتعامل مع القلعة الاسرائيلية بعد حرب غزة، لأننا نتحدث عن الانتخابات، ولا انتخابات هنا. من المرجح ان تكون شجاعة اردوغان في المواجهة الكلامية التي جرت مع شمعون بيريس في دافوس، ناجمة عن كون رئيس الوزراء التركي منتخبا من شعبه. اي ان قوته السياسية حقيقية، وليست كحال زعماء العرب، الذين يتنعمون بسلطة مفروضة بالقوة والعسف.
حديث الانتخابات لا يعني شيئا في المشرق العربي، لكنه يعني كل شيء في لبنان.
أليس غريبا ان تخوض المحاور العربية والاقليمية صراعاتها عبر الانتخابات اللبنانية؟ لا شك ان هذا يشكل تطورا ايجابيا، اذ ان المحاور العربية حوّلت لبنان، خلال اعوام الحرب الأهلية، “ساحة” لصراعاتها المسلحة. اليوم نشهد شكلا جديدا للصراع، تبلور بعد موجة الاغتيالات وبعد حرب تموز وانتهاكات 7 ايار، عبر لعبة حافة الهاوية، التي تسمّى الديموقراطية اللبنانية.
التطور من استخدام السلاح الى صناديق الاقتراع، لا يعني ان دور السلاح انتهى، او ان الدولة صارت المسؤول الوحيد عن الامن. بل يعني ان السلاح هو احتياطي هذا النوع من الديموقراطية! وهذه ليست ميزة لبنانية. انظروا الى انتخابات العراق، تجدوا ان الاحتلال الاميركي شرّع لما يمكن تسميته بالانتخابات المسلحة.
مشكلة الانتخابات اللبنانية تنقسم نصفين:
نصفها الاول، اسمه غرق الخطاب الوطني الاستقلالي في البنى الطائفية، وهذا يعود اساسا الى غياب القوى العلمانية اليسارية وضعفها الشديد. الانتماء الطائفي والمذهبي هو وصفة ضد الاستقلال، لأنه التحاق ضمني او علني بأحد المحاور الاقليمية.
ونصفها الثاني اسمه عدم التواضع. اذ لا تزال بعض القوى السياسية تتصرف كأنها قوى اقليمية فعلا. مزيج من جنون العظمة، ومن هستيريا السلطة، سيجعل الانتخابات تدور في الدوائر المسيحية وحدها، ما يجعل الديموقراطية حيزا صغيرا تحدّه احتمالات الانفجار الاهلي الطائفي.
الانتخابات المسلحة، ليست سوى دليل اضافي ان الديموقراطية ليست شكلا فقط. الاحتلال والعنصرية وايديولوجيا القلعة المحاصرة، تجعل الانتخابات شكلا لإعادة انتاج العسكريتاريا في اسرائيل. اما في لبنان، فإن عظامية الطوائف والمذاهب، وتحويل السلطة المركزية فتاتا للمنافع والنهب، تجعل من الانتخابات استراحة في قصة عذاب الوطن الصغير مع طوائفه التي لا تعرف معنى بناء الوطن.