العثمانيون الجدد يحثون الخطى في حقل الألغام المشرقي
د. بشير موسى نافع
قبل زهاء الخمس سنوات، نشرت في هذا المكان مقالة تعالج السياسات الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية، وذلك في نهاية زيارة طويلة لتركيا، واصفاً رئيس الوزراء أردوغان وحكومته بالعثمانيين الجدد.
خلال السنوات القليلة التالية، شاع استخدام هذا المصطلح، بوعي وفهم وإدراك أحياناً، وفي شكل سطحي، في أحيان اخرى. ما يدفعني الآن إلى هذا الاستدعاء، كان التظاهرة التي شهدتها مدينة غزة مؤخراً، دعماً وتحية لأردوغان. والملفت في تلك التظاهرة بلا شك كان رفع العلم التركي على أرض عربية، بروح من الإعتزاز والولاء والاحترام، وبأيدي جموع عربية. هذا العلم هو بالطبع ليس علم الجمهورية التركية وحسب، بل كان أيضاً علم الدولة العثمانية؛ وهو من الرموز القليلة للسلطنة العثمانية التي لم يقم النظام الجمهوري بتغييرها. تحت هذا العلم، قاتل الجنود العثمانيون، الأتراك والعرب والأكراد، في حرب تلو أخرى، وتحته استشهدوا بمئات الآلاف في معارك الحرب الأولى الكبرى. إن لم أكن مخطئاً، فهذه هي المرة الأولى التي يرفع فيها العلم التركي العثماني في شوارع مدينة عربية بمثل هذا الاعتزاز منذ انهيار السلطنة، وتقسيم أراضيها في نهاية الحرب العالمية الأولى إلى دول المشرق التي نعرفها اليوم.
ما أدى إلى ان يرفع الغزيون العلم التركي ـ العثماني في شوارع مدينتهم، كان بالطبع وقوف الحكومة التركية العلني إلى جانب الفلسطينيين أثناء حرب الأسابيع الثلاثة على القطاع. وقد تتوج التعاطف التركي الرسمي والشعبي بالموقف التي اتخذه رئيس الوزراء التركي، في ملتقى دافوس، من الكلمة التي ألقاها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس، ومن ثم مغادرة أردوغان الجلسة احتجاجاً على عدم توفير فرصة كافية له للرد على مقولات بيريس. أبدت الحكومة التركية اهتماماً متزايداً بالشأن الفلسطيني منذ تولي حكومة العدالة والتنمية الحكم في نهاية 2002، ولكن هذا الاهتمام بلغ درجة غير مسبوقة خلال الحرب على قطاع غزة. أحد أسباب هذا الاهتمام، كان بالتأكيد الدور الذي تلعبه أنقره منذ شهور في المفاوضات غير المباشرة بين سورية والدولة العبرية. وقد رأى أردوغان، الذي تعامل مع حدث الحرب بدرجة عالية من الغضب، أن قيام حكومة أولمرت بالهجوم على غزة حمل إهانة مباشرة لتركيا، سيما وأن أولمرت استقبل في أنقره قبل أيام قليلة فقط من بدء العدوان، في زيارة كان من المفترض أن تمهد لمزيد من التقدم في مسار السلام مع سورية. بين الأسباب الهامة أيضاً خلف هذا الموقف الرسمي التركي، غير المسبوق منذ تأسيس الجمهورية، كان التحرك الشعبي الهائل للتضامن مع أهالي غزة، ليس في اسطنبول، المركز الرئيس للتيارات الإسلامية واليسارية ذات التاريخ الطويل في التعاطف مع القضية الفلسطينية، وحسب، ولكن أيضاً في عشرات المدن التركية الأخرى. في الحقيقة أن تركيا لم تشهد منذ عقود تحركاً شعبياً بهذه الضخامة والاتساع؛ وأردوغان، الزعيم السياسي الذي يحمل حساسية عالية للتوجهات الشعبية، أدرك منذ بداية الحرب أن الشعب التركي لن يقف صامتاً أمام مشاهد الموت والدمار في غزة.
بيد أن هناك عاملاً آخر خلف هذا الموقف، عامل يتعلق بمجمل السياسة الخارجية التي اتبعتها حكومة إردوغان طوال السنوات الست الماضية: العثمانية الجديدة. بالرغم من الوتيرة العالية التي ميزت الموقف التركي من الحرب على غزة، فإن من الضروري ربما رؤية هذا الموقف ضمن سياق أوسع من التحرك التركي النشط في الجوار العربي: الدور التركي الهام في العراق؛ المصالحة التركية ـ السورية التاريخية، ومن ثم تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية بين دمشق وأنقرة؛ اتفاقية إلغاء التعرفة الجمركية بين مصر وتركيا، وتدفق رجال الأعمال والصناعة الأتراك للعمل في مصر؛ علاقات تركية وثيقة مع قطر وعلاقات تزداد عمقاً مع السعودية؛ مسؤولون أتراك في زيارات متواصلة للعواصم العربية، وشركات بناء تركية تنشط في كافة المناطق العربية. ولأن حزب العدالة والتنمية يعود في جذوره إلى أصول إسلامية، فإن حكومته أقدر على التواصل مع القوى الإسلامية العربية، بما في ذلك حركة حماس. ولعل رفع العلم التركي ـ العثماني لم يكن السابقة الأولى التي تشهدها العلاقات العربية ـ التركية منذ ثمانين عاماً؛ ففي أعقاب حرب صيف 2006، أبدى الأتراك استعدادهم للمشاركة في قوات حفظ السلام الدولية على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية. هذه المشاركة أعادت الجنود الأتراك للأرض العربية من جديد، ولو تحت مظلة الأمم المتحدة.
تركيا، بالطبع، هي دولة عضو في حلف الناتو منذ مطلع الخمسينات؛ بل أن جيشها يعتبر ثاني أكبر قوة عسكرية في الحلف بعد القوة العسكرية الأمريكية. وبعضوية الناتو، أصبحت الجمهورية التركية جزءاً رئيسياً وبالغ الأهمية في الكتلة الغربية، كما في الاستراتيجية الغربية خلال عقود الحرب الباردة. وحتى أثناء الأزمة الجورجية في صيف العام الماضي، التي وقفت أنقرة منها موقفاً حيادياً ومتوازناً، لم يكن خافياً أن تركيا ساهمت في تسليح جورجيا خلال الفترة السابقة على الأزمة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وتركيا أيضاً هي أول دولة إسلامية اعترفت بالدولة العبرية، وأقامت علاقات دبلوماسية معها. وقعت أنقرة اتفاقية تعاون عسكري مع الدولة العبرية في 1996، وتنشط في تركيا اليوم عشرات الشركات الإسرائيلية.
إضافة إلى ذلك، تبذل تركيا منذ زمن جهوداً هائلة من أجل التقدم في المفاوضات من أجل عضوية الاتحاد الأوروبي. هذا التباين، على الأقل من وجهة نظر المسألة الفلسطينية والعلاقة بالغرب، هو ما يطرح السؤال حول تعقيدات الهوية والخيارات التركية في عهد العدالة والتنمية. قبل عقد أو اثنين، لم يكن هناك من داع لهذا السؤال. بعض من الحكومات التركية السابقة، مثل حكومات أوزال واجاويد، أبدى تعاطفاً واضحاً مع القضية الفلسطينية، واهتماماً بتوسيع نطاق العلاقات التركية مع الجوار العربي؛ ولكن أياً من رؤساء الحكومات، منذ الحرب الثانية على الأقل، لم يكن يفكر بمستقبل تركيا خارج النطاق الأوروبي والتحالف الغربي.
ما تشهده السياسة التركية منذ صعود العدالة والتنمية سدة الحكم هو تغير نوعي على هذا الصعيد؛ وهنا يمكن أن ترى المفارقة، أن يرى الأزدواج، والتباين والتعقيد.
تعمل حكومة العدالة والتنمية بجدية بالغة من أجل التقدم في مفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي، آخذة مصالح تركيا والوجود الإسلامي المتزايد في أوروبا في الاعتبار. وتساعد هذه المفاوضات في شكل ملموس على جعل تركيا أكثر ديمقراطية وإنسانية، أقل تطرفاً في رؤيتها العلمانية الراديكالية المكبلة، كما تساعد على وضع حدود لتدخل المؤسسة العسكرية في السياسة. ولكن قادة تركيا الحاليين لا يتعلقون بالأوهام، ويدركون أن أوروبا قد لا تقبل في النهاية بعضوية تركية كاملة في الاتحاد، على الأقل في المدى المنظور.
ولذا، فما يراه هؤلاء الأتراك أن مستقبل تركيا الحقيقي، والواقعي، هو في الفضاء العثماني ـ التركي، في المنطقة العربية، في البلقان، وفي القوقاز ووسط آسيا. ولكن هؤلاء الأتراك لا يتحركون بطموحات إمبراطورية مستدعاة؛ وهم لا يعترفون بقوة الرابطة القومية في المنطقة وحسب، بل ويقرون أن الجمهورية التركية نفسها أقيمت على أسس قومية، وستبقى كذلك إلى أمد بعيد. النزعة التركية لتعزيز الارتباط بالجوار، بالفضاء العثماني السابق، ليست نزعة امبراطورية جديدة، بل محاولة لاستعادة الوجود التاريخي، للبناء في الفضاء الجغرافي الطبيعي، بدون امبراطورية. ولكن ثمة بعداً آخر للسياسة التركية الجديدة، بعدا يرتكز إلى المحتوى الثقافي للهوية والعلاقات، لا المحتوى القومي ـ الإثني فقط. ما يدركه بعض من صناع السياسة الأتراك النافذين أن الهوية لا يمكن تعريفها ببعد وحيد. التركي هو تركي قومياً، ولكنه قد يرى نفسه كمسلم أيضاً، ككردي أو عربي، أو كإبن للشرق، كصوفي أو كحنفي (وكعلماني، أو أوروبي، كذلك). وما ينطبق على الأتراك، ينطبق على العرب السوريين والمصريين، وعلى كافة شعوب هذه المنطقة بالغة التنوع. وعلى المشترك الثقافي الكبير الذي يجمع الأتراك بأبناء المنطقة من حولهم، يسعى هؤلاء الأتراك إلى بناء علاقات من نوع جديد.
إن من التبسيط، بالطبع، نفي الميراث التاريخي في صورته الإمبراطورية كلية. قطاع واسع من الأتراك، بما في ذلك قطاع في صفوف الحزب الحاكم، يرى أن تركيا الحالية الوريث الأكبر للميراث العثماني الإمبراطوري. ولكن من الظلم ترجمة هذا الشعور إلى سياسة توسعية فجة. الأصح، ربما، أن هذا الشعور يعزز الإحساس التركي بالمسؤولية تجاه الجوار، وأن هذا الإحساس بالمسؤولية يتزايد كلما ازداد الشعور التركي الجمعي بالتقدم الاقتصادي والقوة والاكتفاء الذاتي، وكلما تعززت الثقة التركية بالذات.
بيد أن تركيا الجديدة ترى نفسها أيضاً في قلب العالم، وفي قلب العالم الغربي، لا في قطيعة معه. ترى نفسها جمهورية علمانية، حتى وهي تسعى لإصلاح النظام العلماني وجعله أكثر إنسانية وتسامحاً وحرية. تركيا العدالة والتنمية لن تترك حلف الناتو قريباً، ولن تقطع علاقاتها بالدولة العبرية في رد فعل سريع، حتى وهي تنتصر لأبناء السلطنة السابقين في فلسطين.
تركيا ليست طرفاً في المحاور العربية؛ وهي ترفض الاستهدف الغربي لإيران، ولكنها ترفض التوجهات الإيرانية التوسعية كذلك. وأولوية الحكومة التركية هي بالتأكيد رفاه الشعب التركي، وتعزيز اقتصاده، والاستجابة لحاجاته؛ وسيحكم هذا المحدد أغلب، إن لم يكن كل، النشاطات الاقتصادية التركية في الجوار. وتركيا الجديدة لم تغادر الأسس القومية التركية للجمهورية، حتى وهي تحاول أن تفسح مجالاً أوسع للتعددية الإثنية والثقافية في صفوف الشعب التركي.
ولعل هذا البعد القومي الضيق للهوية التركية الجمهورية سيظل مصدر قلق تركي داخلي لفترة ليست قصيرة قادمة.
هذا كله، على أية حال، ما أقصده بالعثمانية الجديدة.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي