صفحات العالم

الإنتخابات المحلية العراقية: إنفراط الهويات

فالح عبد الجبار
انتخــــــابات مجـــالـــس المحافظات اواخر كانون الثاني (يناير) الماضي، تحمل مفاجآت قليلة، باستثناء طابعها السلمي، اي خلوها من العنف. وهذه نعمة لمن يرغب في التغيير ولا يملك سوى الكلمة، ولمن يتوق الى تجاوز الهويات الجزئية المحتربة.
الانتخابات كشفت امورا واوجها حميدة وجديدة في احوال العراق واهواله.
فاولاً، الهويات المذهبية (الطائفية- شيعية وسنية) لم تعد ادوات فعالة في التعبئة السياسية الجماهيرية، الشعبوية، كما لم تعد اطاراً يعتد به في انشاء كتل سياسية كبرى. لقد ادى تسييس الهويات المذهبية الى تحطيم الهوية العراقية العابرة للطوائف والجماعات المحلية، ولكن هذه الهويات المذهبية عينها تتفتت الى جزئيات سياسية.
كانت الهوية الشيعية تقوم على حرمانات من المشاركة في السياسة والاقتصاد، وحرمانات في ممارسة الشعائر. اليوم لم تعد هذه الحرمانات قائمة. ولم يعد بوسع من يريد طرحها ان يجني شيئاً. ستبقى التمايزات الشيعية – السنية القديمة قدم الاسلام قائمة في المجال الفقهي، والطقوس وما شاكل، لكن حضورها الطاغي الموحد في المجال السياسي مرشح للتلاشي المتدرج، على مدى زمني يطول او يقصر.
وثانياً، فقدت الاحزاب الشيعية وغيرها الرعاية الخاصة للمرجعية العليا في النجف، التي وقفت ضد استخدام اسمها ورمزها في نشاط انتخابي دنيوي يدور على المقاعد، ولم يعد الناخب يقترع لرمز كبير لا يقرر تفاصيل السياسة، بينما تؤدي الانتخابات الى مجيء رموز اخرى تصنع السياسة دون الرجوع الى الرمز، بل الرجوع الى مصالحها وحدها.
وثالثاً، فتحت الانتخابات لاول مرة المجال العام لتكشف امام الملأ حقيقة وزن كل حزب. ولم يعد توزيع المقاعد بين احزاب الكتل الطائفية لعبة في الغرف المغلقة، بل تنافساً مكشوفاً يقرره الناخبون.
ورابعاً، الانحسار النسبي للقوائم التي تمثل الحركة الصدرية وغريمها الأرأس المجلس الاسلامي (عزيز الحكيم)، اعلان بافلاس التطرف المذهبي الذي يتبناه الاثنان بصيغ متباينة، مثلما هو انتصار لمبدأ ولاية الامة. ولعل ابرز دليل على ذلك ان التصويت الكبير لصالح المالكي تحقق، في جانب منه، بفضل خطابه الحداثي: دولة القانون، وليس بفضل الخطاب الاصولي او المذهبي.
وخامساً، انحسار الميليشيات اتاح للناخبين التحرك بحرية، وكشف بوضوح ان حرية الاختيار تقف في تضاد صارخ مع حملة المؤسسات اياً كانت هويتهم.
فالخوف نقيض الحرية، والميليشيا نقيض الدولة، مثلما الفوضى نقيض القانون. و»الثوري المزعوم، حامل السلاح، يتوفر على الحق في فرض ما يريد لمجرد انه يمتلك السلاح، وعلى الحق في ابادة مخالفيه لمجرد اعتقاده بشرعية اهدافه. فهذه عبودية فصيحة لا يمكن سترها بمعسول الشعارات.
وسادساً، الانتخابات كانت مناسبة لتوكيد آراء السيد السيستاني بأن «ولاية الفقيه غير واردة»، وهذه رسالة قوية ليس ضد العقائد الاصولية ومريديها فحسب، وانما ايضا ضد اقحام الدين في السياسة، او الدخول الى السياسة بستار الدين، ستار الشرعية المقدسة اللاجم للحرية، او بتعبير آخر انها رسالة قوية لمبدأ «ولاية الامة» بوصفه قاعدة فقهية للنظام الديموقراطي، التعددي، الدستوري.
وسابعاً، عودة الحركات والقوى والبيوتات القبلية في المحافظات التي يغلب عليها الطابع الريفي- العشائري، والتي تشكل، بصورة مباشرة او غير مباشرة، تنافساً (او تحدياً) للهويات المذهبية وممثليها الاسلاميين، مثلما هي تنافس (او تحدٍ) لرجال الدين السياسيين، وتعبير عن المصالح المحلية للمحافظات التي اهملت دهراً نتيجة المركزية الشديدة.
وثامناً، في حدودٍ، انحسار الخطاب الاسلامي -المذهبي، وانحسار بعض الاحزاب الاسلامية الشيعية (فقد بعضها 90 في المئة من مقاعده في مجالس المحافظات المنتخبة عام 2005) بسبب ضعف ادائها في مجالس المحافظات، وفسادها المالي (نهب نفط البصرة مثلاً) واعتمادها على الاستعراض الصارخ لعضلات ميليشياتها، واساليبها السلطوية في فرض قواعد اخلاقية متزمتة في السلوك والمأكل والملبس والمشرب، من الاعتداء على النساء، الى منع الانترنت، وغلق محلات الموسيقى وصالونات تصفيف الشعر للنساء، والفصل بين الجنسين في الجامعات، وانتهاك الحرم الجامعي، وتحريم المشروبات الروحية، الخ.
ادى ذلك كله الى تزايد استياء الفئات الحديثة في الطبقات الوسطى. لعل اكبر مصدر للنقمة على جلّ الاحزاب الاسلامية هو صراعها العنيف والجشع على السلطة الذي هزّ الوضع الامني وحطّم الاستقرار. من هنا شعبية المالكي في حملته على الميليشيات التي ضمنت له موقفاً متيناَ في هيئات الحكم المحلية في المحافظات.
وتاسعاً، ان الاتخابات داخل المحافظة كأطار قانوني اطلق التنافس بين القوى المحلية على صعيد هذه المحافظة، وهي قوى ذات مذهب واحد في المحافظات المتجانسة، ما ابعد الصبغة الطائفية، وازال القداسة المزعومة عن العملية الانتخابية، مرجعاً اياها الى ما هي عليه: تنافس دنيوي على السلطة.
وعاشراَ، تحسن نسبي في حظوظ القوى العلمانية الحديثة التي تتبنى خطاب الوطنية العراقية العابر للطوائف والاثنيات، كما تتبنى فكرة دولة القانون. ويلاحظ ان هذا التحسن في المحافظات التي يغلب عليها الطابع السني كان اكبر مما في المحافظات التي يغلب عليها الطابع الشيعي. ولكن في كل الاحوال، فخطاب القانون والدولة والمواطنة يفرض نفسه على السياسة العراقية وعلى عقول السياسين العقلانيين، وهو يمثل تطلعات الغالبية في الطبقات الوسطى المتعلمة التي ترى في الانقسامات الطائفية والاحترابات المدهبية شراً مطلقاً.
وحادي عشر، ان قانون الانتخابات سمح للمصوتين اختيار القائمة، واختيار مرشح فرد من هذه القائمة. فالتصويت لم يكن تصويتاً على القائمة باجمال، بل على افراد فيها، وهذا يتيح للناخب حرية اختيار اوسع ويكشف المرشحين امام تمحيص وتدقيق المقترعين، ويحدّ من «سحر» القادة الكارزميين.
واخيراً، ان انخفاض نسبة المشاركة (51 في المئة) بالنسبة الى الانتخابات السابقة (60 في المئة) مؤشر على تدني الثقة بالاحزاب الحاكمة، عموماً.
لقد اكتنفت الانتخابات مظاهر سالبة غير قليلة، لعل ابرزها ان جهاز المفوضية العليا للانتخابات يفتقر بجلاء الى الكفاءة فقد عجز عن تسجيل المهاجرين المطرودين من مدنهم واحياء سكانهم على يد عصابات التطهير الطائفي، وهؤلاء يشكلون نحو 160 الف عائلة، قد تؤلف قوة انتخابية قد تناهز ربع مليون صوت او لربما اكثر. وهناك محافظات لا تزيد فيها المفوضية العليا عن كونها جهازاً حزبياً او متحزباً لهذا الفصل او ذاك، وهي مشكلة مزمنة.
ثمة الكثير من الشكاوى من وجود قدر من التزوير. هذا جائز تماماً. لكن الشكاوى الاهم، من قيام بعض الاحزاب المشاركة في السلطة بتوزيع المال والبطانيات وغيرها من السلع القيمة. هذا اشهار فصيح بالافلاس السياسي.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى