من ماي لاي إلي حديثة : ثقافة المجزرة
صبحي حديدي
مرّت قبل أيام قليلة الذكري الأربعون لمذبحة ماي لاي ، التي نفّذتها قوات أمريكية نظامية في فييتنام ضدّ المدنيين العزل، وأسفرت عن مقتل قرابة 500 شيخ وامرأة وطفل، وانطوت علي ارتكاب فظائع بربرية كالإعدام الجماعي والإغتصاب واللواط والتمثيل بالجثث.
هنا مثال واحد، عن واقعة رواها أحد الجنود الأمريكيين في وصف ما فعل زميله: أطلق النار علي الصبيّ من المسدس الرشاش، فأخطأه. ضحكنا جميعاً. نهض واقترب ثلاثة أو أربعة أقدام، فأخطأ الهدف ثانية. ضحكنا من جديد. وعندها مضي حتي صار فوق رأس الصبيّ، وضغط علي الزناد . هذه واحدة من سلسلة اعترافات وشهادات موثقة، جاءت في تقرير لجنة التحقيق العسكرية الرسمية التي ترأسها الجنرال وليام بيرز.
التوقف عند هذه الذكري يثير سلسلة دلالات، بينها أنّ عشرات الأصوات الأمريكية التي ترتدي اليوم أقنعة الطهارة، وتحضّ علي تجريد حملات صليبية ضدّ مَنْ تصنّفهم في خانة الإرهاب ، عشوائياً وكيفما اتفق، هي ذاتها الأصوات التي لم تكتف بالسكوت عن مجرمي الحرب منفّذي مجزرة ماي لاي فحسب، بل حاولت تبريرها ومباركة أبطالها طيلة أسابيع، قبل انكشاف الحقائق علي النحو المروّع المعروف. آنذاك، كانت هذه الأصوات قد صاغت مواقفها في رأي قيل إنه وطني ، يرفض تجريم المقاتل الأمريكي الذي ذهب إلي فييتنام من أجل توطيد الحرية ودحر الشيوعية، وفي المقابل يردّ الاتهام إلي الأمريكيين الحمر أو اليساريين أو حتي الليبراليين الذين يثيرون عواصف في فناجين، ويبالغون في وصف حادثة عسكرية طبيعية تماماً وإن كانت مؤسفة بعض الشيء، فيحوّلونها إلي مجزرة!
الدلالة الثانية تدور حول أكذوبة شفافية التحقيق في أهوال مثل هذه، وبالتالي نزاهة القضاء، في الديمقراطيات الغربية. فبعد أن قاتل الصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش، بأسنانه قبل لسانه وقلمه، لكشف أستار مذبحة ماي لاي ؛ وبعد انقلاب الصدمة الأولي إلي حركة أمريكية جماعية تنطوي علي احتقار السياسة الخارجية الأمريكية، إسوة باحتقار ما يُسمّي الذات الوطنية الأمريكية التي تغطّي هذه السياسة؛ وبعد أن قالت الصور الفوتوغرافية والإعترافات الشخصية الكلمة الأخيرة الرهيبة في واقعة أريد لها أن تغرق إلي الأبد في ظلام دامس… بعد ذلك كله، جري تشكيل لجنة تحقيق، أحالت تقريرها إلي القضاء، فلم يعثر القضاة الأشاوس إلا علي مذنب واحد هو الملازم وليام كالي، تمّ سريعاً تحويله إلي كبش فداء وحيد.
وشهود العيان أكدوا أنّ كالي أمر اثنين من جنوده بإطلاق النار علي 60 من المدنيين العزّل، وحين تردد الجنديان في تنفيذ الأمر، تناول كالي رشاشه الآلي وأجهز بنفسه علي الحشد، وكان علي مبعدة عشرة أقدام فقط من ضحاياه. ولأنّ الدليل صار أكثر من دامغ وصارخ، فقد أصدرت المحكمة حكماً بالسجن المؤبد علي وليام كالي، ثم أطلقت سراحه بعد ثلاثة أيام لأنه استأنف الحكم بدعم مباشر من الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. فيما بعد، قضي كالي ثلاث سنوات في الإقامة الجبرية، ثم أطلق سراحه نهائياً في عام 1973.
ولكي لا تغيب صلة الماضي بالحاضر المعاصر، كان عدد من المحققين العسكريين قد كُلّفوا بإجراء تحقيقات ميدانية حول شكاوي (صدرت عن جنود أمريكيين، وليس عن الضحايا!) حول سوء معاملة الجيش الأمريكي للمدنيين وأسري الحرب الفييتناميين. وكان بين هؤلاء ضابط برتبة رائد، سوف ينضوي دون إبطاء في صفّ المؤمنين ببراءة الجنود، وإيجاد مبرّر وطني لوحشيتهم؛ ولسوف يصبح ذات يوم رئيساً لهيئة الأركان في حرب الخليج 1991، ثمّ زيراً للخارجية في حرب احتلال العراق 2003 : الجنرال كولن آرثر باول!
دلالة ثالثة تتصل بموقف الرأي العام الأمريكي، المساند عموماً لطبول الحرب متي وكيفما قرعها البيت الأبيض والبنتاغون، وأياً كانت الرموز الوطنية التي تدغدغها تلك الطبول. وكما تأخر الأمريكيون كثيراً في استيعاب كارثة التدخل العسكري في فييتنام، وإدراك الندوب التي ستظل عالقة عميقة الغور، كذلك تأخروا في استيعاب آثار انقيادهم الأعمي خلف الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في حملاته الصليبية، حسب عبارته هو نفسه، ضدّ أفغانستان والعراق (وإيران، قريباً؟)…
وأمّا الدلالة الأهمّ فهي ذلك الإنجذاب الأمريكي، الجَمْعي الهستيري، الشعبي وليس الشعبوي فقط، نحو قراءة المذابح الجماعية بوصفها سيناريوهات لا مفرّ منها، أو لا غني عنها، في سبيل تأديب العصاة و كارهي أمريكا و الإرهابيين ، إلي آخر لائحة هذه المسمّيات الزائفة. ألم يصفّقوا لمشاهد مجزرة بلدة حديثة العراقية، التي شهدت في خريف 2005 سقوط 24 مدنياً عراقياً، بينهم نساء وأطفال، برصاص جنود الإحتلال الأمريكيين؟ ولولا ما كشفته أسبوعية تايم الأمريكية حول هذه المجزرة، علي غرار كشوفات سيمور هيرش بخصوص ماي لاي ، هل كانت رئاسة الأركان ستشكّل لجنة تحقيق حول ما أسمته الـ الحادث ، ليس أكثر؟ ألم تكتف المحكمة العسكرية بتوجيه الإتهام إلي ثمانية من الـ مارينز ، ثمّ أسقطت التهمة عن خمسة منهم حتي تاريخه، والبقية علي الطريق؟
وكيف يمكن أن لا تنشأ، ثمّ تترعرع وتضرب بجذورها، ثقافة أمريكية كاملة تختلق غطاء وطنياً لأيّ وكلّ مجزرة ارتكبتها، أو سوف ترتكبها القوّات الأمريكية، في أيّ وكلّ غزواتها العسكرية؟
القدس العربي
31/03/2008