صفحات ثقافية

ثغرة في الجدار

null


الياس خوري

ماذا تبقي من الثقافة العربية في زمن هجرتها ومنافيها الجديدة؟

كانت الهجرة عاملا اساسيا في ولادة النهضة العربية الأولي، الأفغاني وعبده صنعا من باريس مكان انطلاقة العروة الوثقي، المهاجرون الشوام الي مصر صنعوا من القاهرة عنوان ثقافة جديدة، الشدياق في هجراته الي مالطة وباريس وتونس، وضع اسس اللغة العربية الحديثة، واخيرا لعب المهجريون في الأمريكيتين، وخصوصا رابطة جبران القلمية دورا رياديا في تأسيس الرؤية الحديثة، من شعرية جبران، الي نقدية ميخائيل نعيمة.

كانت الهجرة اقترابا من بناء مشروع نهضوي عربي في الثقافة والفكر والسياسية، ولم تكن اعلان يأس او عجز، وكان الأمل في صناعة بديل حديث للسلطنة العثمانية المتهالكة يصنع ما يشبه الحلم وسط الظلام والاعدامات والمجاعة التي كانت الاشارات الأخيرة لموت الدولة العثمانية.

لذا لم يهاجر المهجريون الا مجازا، هجراتهم كانت وسيلة او شكلا لممارسة التأثير في بلادهم، لذا فسرعان ما عادت اكثريتهم اليها.

لكن ما نشهده اليوم منذ سقوط بيروت تحت الاحتلال الاسرائيلي عام 1982، وما تبعه من انفجار اهلي مخيف، لا تزال تردداته مهيمنة علي المشهد اللبناني، هو هجرة جديدة صارت تشبه المنافي الدائمة. ولعل الهجرة بدأت بالمثقفين العراقيين الذين وجدوا انفسهم بعد بيروت، علي ارصفة اوروبا، ثم استفحل وضعهم وصار دائما بعد الاحتلال الامريكي للعراق، الذي حطم الدولة وجعلها مطية للصراعات الطائفية والمذهبية المدمرة. غير ان المنفي صار مثل هوة لا تتوقف عن ابتلاع الجميع، واتخذ مسارات جديدة وصلت الي ذروتها مع الانهيار الفلسطيني الذي جعل من وطن اللاجئين الافتراضي اشبه بالمنفي، وصولا الي هجرة الأكاديميين العرب، التي يجسدها نصر حامد ابوزيد.

كانت الهجرة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لحظة مؤقتة، اي كانت جزءا من استعادة القدرة علي المقاومة تمهيدا للعودة باشكال مختلفة. اما المنفي الحالي، فمهدد بالتحول الي منفي مديد كي لا نقول نهائي، مع التشظيات التي تهدد المجتمعات العربية بالتفكك، وسط هبوب رياح العولمة وتحول الجاليات العربية في اوروبا وامريكا الي اقليات حقيقية في مجتمعاتها.

هنا يجب ان لا نمزج بين ظاهرتين مختلفتين:

الظاهرة الأولي، هي المنفي القسري، الذي يجعل من العمل الثقافي في اتجاه الوطن ضرورة. وفي هذا المجال، فان المنفي الجديد قدم مساهمات فكرية وسياسية وصحافية كبري، لكن هذه المساهمات لم تتبلور في اطر او مجلات منتظمة تسد جزءا من الفراغ الثقافي في الوطن. لا اريد التقليل من اعمال شجاعة ونبيلة لم تتوقف، لكنني اريد الاشارة الي ان محاولات انشاء منابر ثابتة او شبه ثابتة لم تنجح، من تجربة اليساريين المصريين مع ميشال كامل الي تجربة مجلة زوايا اليسارية اللبنانية. وهنا تأتي ضرورة المساهمة في دعم الأصوات التي لا تزال تحاول بناء افق ثقافي سياسي نهضوي في الوطن. واتساءل هل يعقل ان تتوقف اهم مجلتين فكريتين وادبيتين عن الصدور، الكرمل والطريق، من دون ان يطرح هذا علينا في الوطن والمهاجر، ضرورة العمل علي اعادة اصدارهما، كي لا تبدو الثقافة وكأنها اخلت الساحة لهذا الزمن المنقلب؟

الظاهرة الثانية، هي الوضعية الجديدة للجاليات العربية في اوروبا وامريكا، وهي وضعية بدأت تفرز ثقافاتها الجديدة المولدة، في الغناء والموسيقي والمسرح والأدب والفكر ايضا. أليس من الضروري التعامل مع ظواهرها الجديدة بجدية، ومحاولة ادخالها في النسيج الثقافي العربي. لقد سبق لنصر حامد ابوزيد ان اشار الي ضرورة تأسيس فكر ديني جديد انطلاقا من هذه التجربة، كما ان الفن الذي ينتجه ابناء هذه الجاليات، وهم ابناء الجيل الثاني او الثالث من الهجرة، بدأ يشكل تنويعا خاصا داخل الثقافات الأوروبية المختلفة، ويحتاج تاليا الي قراءات نقدية تدرجه في سياقات البحث الثقافي العربي عن آفاق جديدة.

في الوقت الذي تتشكل فيه ثقافة الجاليات العربية في المنفي، كجزء من المشهد الثقافي الغربي، فان ثقافة المنفيين تعيش ما يشبه محنة الهوية. فحين يصير المنفي دائما، وحين يكتشف المثقفون العراقيون، علي سبيل المثال، ان العودة الي العراق لم تعد واردة، وان المنفيين يصيرون علي الرغم من ارادتهم جزءا من المهاجرين، فان هذا الواقع يهدد بأن تتحول الثقافة الي مزيج من الحنين والاندراج في آليات السلطة الثقافية العربية التي صارت خاضعة في شكل كامل للثقافة النفطية باجنحتها المختلفة.

هنا يأتي سؤال الأفق.

فاليأس من التغيير والشعور بالاحباط، والاستسلام امام العجز، ينتج عنها تفريغ الثقافة المهاجرة من مهمة الدفاع عن الحريات الوطنية والثقافية في الوطن، وهي المهمة الوحيدة التي تعطي هذه الثقافة شرعيتها.

افق النهضة العربية الثالثة، التي هي نهضة قائمة علي المزاوجة بين الديمقراطية ومقاومة الاحتلال، هو افق الثقافة العربية الأساسي في الوطن والمهجر، وحول هذا الهدف يجب ان تبني استراتيجيات ثقافية جديدة، وبني مستقلة، من اجل ان يتوحد المنفيون في الخارج والداخل، وتنفتح ثغرة في جدار القمع الذي يحاصر الجميع.

26/02/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى