السعودية: دولة امارات لامتناهية
د. مضاوي الرشيد
ان كان هناك تطور سياسي ملحوظ في السعودية فهو ينبثق من حقيقة واحدة. لقد تحولت الدولة ومؤسساتها في العقدين الاخيرين الى دولة امارات متعددة ومتشعبة تتصارع وتتعاون وتتناحر وتتقاسم النفوذ والسلطة والموارد. تقمع وتتنافس في فنون القمع وأصوله. وقد جاء هذا التطور والتشعب ليس من باب اللامركزية او الفدرالية بل من باب تقسيم الإرث السياسي بشقيه التسلطي والمعنوي.
لقد تحولت المملكة الى مماليك والامارة الى امارات والوزارة الى الوزارات والاقتصاد الى اقتصاديات لا يربط بعضها بعضاً سوى خيط الاستئثار بالسلطة والموارد المرتبطة بها والغطرسة التي تواكبها في غياب المحاسب والرقيب. ولقد ساعد عملية بروز الامارات اللامتناهية هذه انفراط عقد المجتمع وتشرذم مؤسساته القديمة. فلا رابطة علماء قوية مستقلة تشرف على ممارسة السلطة وتجاوزاتها ولا مؤسسات حديثة كمجلس شورى منتخب وصاحب صلاحيات يتجاوز الثرثرة وعملية البصم الحالية على ملفات الحكومة المنتقاة للعرض على اعضاء معينين بمراسم ملكية. ولا مؤسسات او جمعيات مدنية فاعلة ومستقلة ولا طبقة اقتصادية ذات مصالح مستقلة عن تلك المرتبطة بالدولة. ولا شريحة عمالية منظمة في اتحادات ومؤسسات ولا شريحة مثقفة تنطق بالحقيقة التي يراها العميان ولكنها تظل مغيبة عن قلمهم اما كخيار شخصي او كخيار تفرضه حالة القمع الحالية لكل مشروع سياسي او كخيار يضمن استمرارية المصالح الذاتية. ولا شريحة اجتماعية مستعدة لان تشغل نفسها بموضوع الامارات اللامتناهية واثرها الهدام على الوضع السياسي الداخلي والخارجي لأنها مشغولة بغزوات الهيئة المناط بها حراسة الفضيلة على المقاهي والجامعات والاماكن العامة والخاصة. لقد استطاعت وبالفعل حققت الامارات اللامتناهية نجاحاً في ان تجعل المجتمع منغمسا في قضايا هذه الغزوات المتعددة والمتكررة. فأصبحت الشغل الشاغل لطيف كبير من المحسوبين على الكتاب والمعلقين. ان غزوات هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هي قضية العصر السعودية في القرن الواحد والعشرين وقد جعلها كذلك ظروف الوضع الحالي الذي خلقتها بيروقراطية مرتبطة بسياسة الدولة وليس دينها كما هو معلن ومكرر.
لقد استطاع النظام السعودي ان يدفن المؤسسات القديمة والفعاليات الاجتماعية التي كانت يوما ما جهات لا يستهان بها وبموقفها التي تستطيع ان تفرضه على الدولة وفي نفس الوقت قتلت اي مشروع لتأسيس فعاليات مستقلة جديدة تستطيع مساءلة السلطة ناهيك عن محاسبتها. لقد انقرضت سلطة العلماء المناط بهم الارشاد والمراقبة وتفتت مفهوم ‘أهل الحل والعقد’ حتى تلاشى من مصطلحات المجتمع بمفهومه القديم وحل محله حلقة صغيرة من الامراء الكبار وابنائهم وأحفادهم. وكل من هؤلاء يتربع على امارة ما ومنهم امير للثقافة وامير للقمع وامير للخارج وامير للداخل وامير للشباب وامير للفن والطرب وامير للسياحة وامير للبيئة وامير للاقتصاد وامير للحراسة وامير للامن الى ما هنالك من امارات لا تحصى ولا تعد. ولقد سهل تبلور هذه الامارات الفراغ الاجتماعي والسياسي المنظم والمرتبط بالمؤسسات المستقلة المتفرغة للشأن العام. وجاء هذا الفراغ نتيجة سياسة الدولة الهادفة الى تفريغ المجتمع من المعنى والمضمون. لقد اصبح المجتمع اليوم نصا مفرغا من علامات الاستفهام والنقاط على الحروف واشارات التعجب والرفع ولم تبق سوى حروف الجر وعلامات السكون. تحول المجتمع الى نص باهت تطغى عليه امارات كثيرة تعتبر عناوينه العريضة التي تهيمن بثقلها عليه وتطرد المعنى منه. وتستأصل قدرته على تحريك المخيلة. فيظل المجتمع ـ النص مثقلا بتراتيل مكررة وصور قديمة وسجع يعتمد على الايقاع واللحن بدل الاختراع والابداع. المجتمع النص لا يقرأه من لا يكتبونه ولا يعلق على ابداعه المزعوم سوى من سئم الحاضر ودفن نفسه في الماضي.
امام الفراغ الذي احدثته السلطة وامام غياب البديل الجديد المبني على قواعد نص منبثقة من مسلماته نجد ان الساحة مفتوحة لمشيخة امارات لم تعد تعرف اين هي الحدود وما هي الضوابط وأين هي اشارات المرور. تتخبط هذه الامارات في قرارها وتصريحاتها ومواقفها على الصعيد الداخلي والخارجي معا. بعضهم يصالح في مهرجانات القمم وآخر يحرض ويتوعد ويقاطع. بعضهم يعد بالاصلاح وآخر يقمع ويتغطرس وهذا لا ينطبق على الامارات الكبيرة بل اصبح الوضع المتعدد والمتصارع والمتناحر هذا ديدن الامارات الصغيرة. وما الضجة التي احدثها احد امراء الرياضة والشباب مؤخرا الا انعكاس لحالة الغطرسة التي ولدتها تشعب الامارات فينهر امير ويزجر بل حتى يهدد ويتوعد على الهواء مباشرة لان ليس هناك من رقيب او وازع او مثل اعلى يحتذى. فالكل أسكرته القوة فداخ في حناياها ولم يعد يفرق بين الغضب والوقاحة وبين المعقول واللامعقول. تشعب الامارات اللامتناهية يستحضر تقييما لديمومة السلطة وشرعيتها وهيبتها. لقد تحولت الدولة السعودية الى شركة محدودة يتقاسم اسهمها طيف كبير من الورثة الذين فقدوا الصبر وراحوا يتقاسمون الارث رغم ان عملية القسمة هذه لم تخضع لشريعة او نص مقدس او ما شابه ذلك.
لقد تمت المحاصصة هذه بعيدا عن رقابة اي سلطة خارجة عن سلطة الحلقة الضيقة وكل ما يطمح اليه المجتمع بشرائحه الدينية والاجتماعية والثقافية والرياضية هو ان يلتحق بامارة ما ليصبح من خدمها والمرافقين لها والمسبحين باسمها. فمن مضحك لهذا الامير ومهرج لاخر ومرافق لذاك ومناصر لمجموعة اخرى تكتمل عملية تفريغ النص الاجتماعي من قدرة حروفه ان تكتب بحرية واستقلالية. وان لم نعد نستعمل القاب الوظائف القديمة فقد استبدلناها بكاتب الامير والناطق باسمه ومستشاره ومدير اعماله والمشرف على ديوانه وحاجب مكتبه الى ما هنالك من وظائف مستحدثة تتلاءم مع العصر والتطور. وان اختلفت المسميات الا ان المضمون الجديد ما هو الا استمرارية لمضامين انعدام الاستقلالية والتبعية.
لقد جرت عملية تشويه لمفهوم الدولة ذات الامارات اللامتناهية حينما قضت السلطة على قدرة المجتمع واطيافه الفاعلة والفعالة لانه يلعب دور الرقيب والمحاسب فتحول العالم الديني الى ديكور للسلطة والمثقف الى بوق والتاجر الى سمسار والمعلم الى مرتل لنص السلطة والشاعر الى مطبل ودخل الجميع في عملية تنافس رهيبة للاستئثار بهذا الامير او ذاك وتناحر المجتمع تماما كما تتناحر الامارات فيما بينها. والويل الويل لمن لم يجد اميرا يحتضنه فيدخل في حلقة امارته سيجد نفسه بدون امير في عصر الامارات المتعددة. وسيتحول الى يتيم في مأتم كبير ولن يجد رخصة لاستيراد بضاعة او بيع سلعة ولن يجد ورقة توصية من اجل وظيفة او بعثة دراسية او حتى سيارة اسعاف او سرير في مستشفى.
هذا التشرذم على مستوى الامارات قد بدأ يعطي نتيجة تتمثل اليوم بفقدان هيبة الدولة مما يجعل عمليات تزوير اوراقها الرسمية وتوقيعات امرائها تتداول على الانترنيت في عصر العولمة. تصارع الامارات فيما بينها وتباين مواقفها واتساع سلطتها على حساب سلطة الدولة المتهالكة والمنقرضة يجعل من الدولة كيانا هشا تتآكل اطرافه وتتقلص قدرته على استحضار الاحترام والثقة. وبهذا تفقد الدولة المركزية قدرتها على ان تحكم بالاقناع والمشورة وتلجأ الى العنف لانه وحده القادر على تثبيت السلطة وعرض العضلات. فالخوف وحده يصبح سيد الموقف بين الحاكم والمحكوم بانعدام الثقة والاحترام المتبادل. وبينما حلت معظم الدول الخليجية المجاورة معضلة تعدد الامارات في دولها اما عن طريق تقليص عدد اللاعبين السياسيين من ضمن المجموعة الحاكمة او عن طريق بناء مؤسسات محاسبة ومراقبة كما يحصل في حالة الكويت او عن طريق اشراك مجموعات ذات ثقل اجتماعي في مؤسسات الدولة كما يحصل في عمان نجد ان النمط السعودي قد اصبح وضعا نشازا حتى في محيطه الخليجي. وكلما تطورت دول الجوار كلما ظهر للعيان والمراقبين مدى تردي الوضع السعودي في ظل امارات لامتناهية. ولا نعتقد ان الامثلة الخليجية السابقة قد وصلت الى الكمال بل هي في طور التجربة الا ان السعودية لم تدخل بعد مرحلة التجربة بل نستطيع ان نجزم انها تتراجع الى الوراء. فتعدد الامارات هذا لم يكن ممارسا منذ زمن بعيد بل هو وليد حقبة ارتبطت بعصر الملك الراحل ولم يستطع الملك الحالي ان يستوعبها ويتدارك ابعادها الهدامة. وما هي الا سنوات قليلة وسنرى كيف هي تبعات الامارات اللامتناهية والى اين ستؤدي في المستقبل المجهول.
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
القدس العربي