دعوة المثقف إلى الاستقلال أم دعوته إلى الوجود؟
صالح البشير
هذا ممّا نشره الفقيد صالح البشير في الأوان منذ حوالي عام ونصف (16 أغسطس 2007)، وممّا يعكس شيئا من هواجسه، وشيئا من فكره ومن مساءلته لـ”عادات التّفكير” التي “لا تساءل”.
وفي هذا المقال صدى لبعض الحوارات الشّيّقة التي زخر بها الموقع : هل يمكن للثّقافة أن تستقلّ عن السّياسة، ما العلاقة بين السّياسة والثّقافة، وما العلاقة بين السّياسة والسّياسيّ، وما علاقة كلّ هذا بما تمّ إخطاؤه في الحداثة العربيّة، وما علاقة كلّ هذا بصور المثقّف وصور السّلطة كما تمّ بناؤها في مخيّلات المثقّفين أوّلا وقبل كلّ شيء…
قطعة من حياة نخرجها من الأرشيف…
(رجاء بن سلامة)
يثير ياسين الحاج صالح، إذ يدعو إلى استقلال الثقافة عن السياسة (أنظر في مديح الثقافة ودفاعا عن استقلالها)، موضوعا يقع في فجر الحداثة الغربية وفي مبتدئها، وقد يكون بعض إسهامها النظري الأبرز والتأسيسي، وإن بدا، لمثقفي العربية، وهم في الأغلب الأعم، وبالنسبة إلى الحداثيين منهم، بين إيديولوجي وما بعد إيديولوجي (والـ”ما بعد” هذه لا ترتب، بداهة، خلوصا ناجزا من مسبقات بعينها)، خروجا عن مألوف وعن عرف استتبّا، على ما قد توحي بعض تعليقات ذيلت، على هذا الموقع، مقالة ياسين المذكورة…
إذ لم تفعل الحداثة، وقد كان فعلها ذاك آية الصرم الذي أقدمت عليه مع نصاب سبقها وعلامة تمايزها حياله، غير إرساء استقلالية مختلف مناحي وانخراطات الكائن البشري (ما كان منها، على الأقل، من قبيل اجتماعي، بالمعنى الأوسع( وإعلانها قطاعاتٍ أو “قاراتٍ” أو دوائرَ مستقلةً متباينة، لا تقيم في ما بينها علاقة استتباع، متكافئا متبادلا كان ذلك الاستتباع أم لم يكن، ولا علاقة تراتب.
وهكذا أُعلن الفن (وقد اعتُبر “سيدا” sovereign) “ذاتا” مستقلة وكذلك الأخلاق والسياسة والعلم وما إليها، لا تكاد تؤوب إلى مرجعية غير ذاتها، على نسبيّتها (الناجمة عن التعدد وعن التقائها جميعا عند الإنسان فاعلا ومنفعلا) في مضمارها ذاك، فلا يتطلع أي منها إلى ما يتخطى مجاله ودون أن يبلغ بها الأمر مبلغ الانزواء طبعا. وبذلكلم تكتف الحداثة باجتراح الفرد، بل أوجدته متعددا، وظائف ومستويات، ضالعا في “مقاطعات من الثقافة مستقلة نسبيا”، كما أشار الفيلسوف الألماني كارل شميت، في كتابه “مبدأ السياسة” (الصادر في ثلاثينات القرن الماضي)، متبرّما مشنّعاً، حتى أننا ربما عددنا فصل السلطات الذي تقوم عليه الديمقراطيات الليبرالية الوجه العيني والإجرائي لذلك الأقنوم الأعمّ.
علة ذلك، وإن بقدر من تبسيطٍ وإيجاز، التحرر من اللاهوت، ذلك الإكويني-الأرسطي لا سيما، والذي ظل سائدا في العالم المسيحي الغربي، حتى عصر النهضة وخصوصا حتى عصر الأنوار، وكان بصفته تلك يُلحق كل فعل بشري، مهما كان مجاله، بمبدأ أخير أو بمرجع أسمى، ويدرجه شاخصا نحو غاية قصوى، سببا أخيرا، تليولوجيّاً (teleological)، “يسعى” إليه وينشده.
لذلك، كان فعل الفصل أو الانفصال ذاك، المأخذ الأثير لمنتقدي الحداثة، إن من منطلق رجعي (دون المعنى الهاجي لهذه الصفة، كما درجت على ألسنة العرب وأقلامهم)، الذي يحاسب الحداثة باسم ما سبقها وجبّتْه، أو بهاجس إيديولوجي شمولي، يزعم تجاوزها، وسواء صدر ذلك النقد عن تيارات عدمية أو عن أخرى، ما بعد حداثية، أو عن بعضها.
جل ذلك النقد نعى على الحداثة تجزيئها الإنسان وتشظيته، فإذا العلم، على سبيل المثال وآية هذا الزمان، غير منشغل، أخلاقيا، بتبعات اكتشافاته وإنجازاته، أو هو لا يخضع في ذلك إلا إلى أخلاقية تخصه وتخص العاملين فيه كقطاع قائم الذات، أسوة في ذلك بسائر قطاعات النشاط البشري الأخرى، إلا إلى ديونتولوجيا (deontology)، إلى معايير جزئية، إن جازت العبارة، لا تزعم شمولا، بله تطلب التخصيص وتصرّ عليه… وهو ما آل، في نظر منتقدي الحداثة (شأن الكنيسة الكاثوليكية، وهذه، لا سيما كنيسة يوحنا بولس الثاني فبنديكتوس السادس عشر، ظلت حتى يومنا هذا تدين بلاهوت إكويني-أرسطي، سابق للحداثة) إلى نسبوية ثقافية “مقيتة”، يستوي لديها كل شيء بكل شيء.
ذلك الفصل هو إذن من بدائه الحداثة، أو من بدائه صيغتها الليبرالية، وربما الأصلية على الأصح والأدق، وهذه لم نعرفها، في مناطقنا “العربية” ولا عهد لنا بها. فما كان عندنا فترات ليبرالية، وجيزة، خبرها بعض البلدان دون بعض، لم يكن أكثر من سمةٍ من سلوك، لنقلْ على قدر من “نعومة”، لدى نخب حاكمة من أعيان المدن، زالت بزوالها وعندما حلت محلها، انقلابا في الغالب، فئات من خلفيات سوسيولوجية مختلفة، أكثر “فظاظة” في نظرتها إلى الحكم وفي مزاولته.
نحن لم نعرف إذن تلك الحداثة التي تفصل وتميز، استقلالا وإن نسبيا، بين مختلف “مقاطعات” الثقافة والفعل البشريين، لأننا لم نلج التحديث إلا من باب صيغه “المُجاوِزة” للحداثة الليبرالية أو الزاعمة ذلك والمرتدة عليها في تمايزها الفارق ذاك تحديدا، من إيديولوجيات، وطنية أو قومية أو اشتراكية، أو آخذة من كلٍّ من تلك بطرف، تلفيقا فجا رثا، يبقى مع ذلك صلبا متجانسا في استبداده، “مستعيرا” من الأصل تبرمه بالتعدد وضيقه باستقلال القطاعات…
لذلك، تبدو الدعوة إلى انفصال الثقافة عن السياسة، ضربا من عود على بدء حداثي، نوعا من استدراك لما لم ينجز، من ضربِ صفحٍ عن حقبة كان الإخفاق ميسمها، وهي (أي الدعوة) لكل ذلك عين الصواب…مبدئيا، غير أنها، ولكل ذلك أيضا، تستثير بعض أسئلة.
أولها، الذي نكتفي ها هنا بالإشارة إليه دون الخوض فيه لأنه سؤال شاسع وبعيد الغور في آن ويستحق تناولا يُفرد له، يخص مبدأ الاستقلالية من أساسه، وهو ذلك الذي مفاده: هل يمكن استعادة مسار الحداثة من مبتدئه (في مجال فصل الثقافة عن السياسة وفي أي مجال سواه استطرادا) علما بأن للحداثة تاريخا، لا يتيسر استحضاره بكراً بكل براءته وتفاؤله البدئييْن، لم يكن مشرقا دوما وفي كل وجوهه، جرت وتجري مساءلته، نقدا ليس متجنيا في كل الحالات وليس من طينة إيديولوجية دوما؟ صحيح أن مقالة ياسين الحاج صالح لم تخض في ذلك، ولكنها، ونظرا لما نعلم من عادات القراءة عندنا وميلها إلى مُخلّ الابتسار ومُشطّ الاستخلاص، عرضة لتأويل كهذا (هو قطعا ليس من مسؤولية كاتبها…).
غير أن المقالة المذكورة، تطرح، في ما يتعدى دعوتها الصريحة، الموضوع من زاوية مستجدة، وإن نسبيا. فهي لا تتوجه بالدعوة تلك إلى الساسة وأصحاب السلطة، تهيب بهم عتق رقبة الثقافة، على ما درج قول شائع بين ظهرانينا، “مشاكس” (في الغالب) أكثر منه “معارض”، يستمرئ نبرة الضحية وموقعها، بل إلى المثقفين أو من يقوم مقامهم عندنا، وفي ذلك ما يمثل منطلقا طيبا للنقاش، يفسح المجال أمام استكناه أمرين يعتبران في عداد المسلمات.
أولهما افتراض وجود “ثقافة رسمية”، تتوخاها أنظمة المنطقة، صارمة، تفرضها، تسلط على من يشذ عنها القمع والقصاص. قد لا يكون الأمر هذا صحيحا، أو هو ربما انطلق من قياس غير سليم، ينسب إلى استبدادنا الرث (دون نكران قسوته طبعا) سماتِ ضروب من الاستبداد أخرى، أكثر “حداثة” وأكثر “منهجية”… والحال أنه في ما عدا حالات استثنائية، شأن الأصولية الحاكمة أو الشريكة في الحكم في بلد مثل السعودية، يعسر، بل قد يتعذر القول بوجود “أورثوذكسية” ثقافية تأخذ بها السلطات الحاكمة في بلدان المنطقة، وهذه لا تقيم مع الثقافة، في الغالب الأعم، من آصرة سوى آصرة “التذرع” و”الانتهاز”، تستخدمها كما تتوسل أي شيء آخر، تغرقها في التظاهرات الترفيهية إن أولتها دوائرُها اهتماما، وقد لا تخصها بمقاربة غير تلك الأمنية، إن اتخذت النتاجات الثقافية منحى اعتبرته “تشهيريا”، وقد لا تحاسبها قط استنادا إلى معايير “فكرية” هي لا تمتلكها أصلا. لذلك، لم يجد بعض تلك السلطات، شأن تلك المصرية على سبيل المثال، غضاضة في التخلي عن الحقل الثقافي (ما دمنا في هذا المضمار) للإسلاميين، من “إخوان” وسواهم، مع أنهم يناصبونها المعارضة ومع أنها تناصبهم العداء، ولا تقر لهم بوجود قانوني، يمارسون في مجاله هيمنة تكاد تبلغ مبلغ الانفراد.
فأنظمة المنطقة تمسك بالسلطة، بمعناها الأولي أو الصرف، أو الخام على الأصح والأدق، وقد تتخفف من كل ما تبقى. إذ هي لا تحكم إلا بأدوات القسر المادي وبالرشوة وبالابتزاز بالفوضى، بالتخويف بما هو أدهى في حالة زوالها. وهي لذلك، وبمعنى من المعاني، ربما كانت آخذة بمبدأ استقلالية القطاعات الآنف الذكر (وإن لم يكن وفق تلك الصيغة التي أرستها الحداثة أو تُنسب إليها) ما لم تكن لتلك الاستقلالية تبعات أمنية، وهي ما هي: سلطات قسر بحت… وعلما، تكرارا، بأن كل ذلك لا ينال من كنهها الاستبدادي في شيء ولا يضفي عليه نسبية.
ربما يعود ذلك إلى أن السلطات تلك، على نحو عام لا يستبعد بعض الاستثناءات وإن جزئية، لا تتطابق مع دولة أو تقصر عن أن تتماهى مع دولة قد لا تكون قائمة. ولعل انعدام الدولة هو ما يشكل الحائل الموضوعي دون “ارتقاء” (إن كان في الأمر ارتقاء) استبداد سلطاتنا إلى مرتبة توتاليتارياتٍ، لها جدانوفها أو غوبلزها (وهذه على أية حال فرضية تتطلب مزيد سبر)، وذلك ما يصح حتى على تلك الأنظمة التي أعلنت هوية إيديولوجية صريحة، تزعم لها تماسكا وانسجاما.
لذلك ربما غالى “مثقفونا” أو سوادهم الأعظم، مغالاة ليست براء من نوازع النرجسية أو هي ناجمة عن الإقامة على عادات تفكير لا تُساءَل، في “التهويل” من شأن استبداد سلطاتنا الثقافي، وهو “تهويل” قد لا يضاهيه غير نظير له يتعلق بالثقافة وبالمثقفين.
فالمثقف، ذلك الذي تتوجه إليه دعوة الاستقلال، قد لا يكون موجودا، بالمعنى الذي في الذهن، فاعلا قادرا على إنتاج المعنى وعلى ابتداعه، خالقا في مجاله، حائزا فيه على حظوظ الكفاءة في إدراك الذات والاقتدار في إدراك العالم… شروط الظفر بصفة “المثقف” في مناطقنا هي الأدنى والأيسر منالا مقارنة بأية “مهنة” أو نشاط آخر. والضحالة سمة عامة ملازمة، إلا في ما ندر ولا يُقاس عليه. لننظر إلى القرنين الأخيرين وإلى أداء الثقافة والمثقفين في مواكبة أحداثهما الجسام، استنكاها واستشرافا، وسنجد الحصيلة هزيلة أو منعدمة.
ولأن الأمر على هذه الحال، فإن المثقف لا يمتلك شرعية يستقيها من “تخصصه”، كما يستقي الطبيب شرعيته من علمه بالطب أو رجل الدين شرعيته من علمه بالدين مثلا، بل هو يسعى إلى نيل تلك الشرعية استعارة واستلافا، والسياسة هي المصدر الداني والسهل لالتماس تلك الشرعية، خصوصا تلك المعارِضة منها، والتي كانت في الغالب صاحبة اليد الطولى والسطوة الأعظم في “تزكية” الثقافة والمثقفين…
ومن خصال السياسة، بالمعنى هذا، أنها تمكن المثقف من حزمة من المكاسب دفعة واحدة: تلبي نازع التمرد، إن وُجد أصيلا كان أم من لزوم الصورة، وتمنح صفة الاهتمام بالشأن العام، وتوفر معنى جاهزا يتم الانضواء فيه ويغني عن مشقة إنتاجه واجتراحه، ثم أنها مصدر لحمة تضامنية وآلة ترويج ناجعة، قد ترتقي بمن تتبناهم إلى مصاف “العالميّة”، وهذه لا تتعدى عند غالبية مثقفينا ترجمة آثارهم إلى لغة غربية، وإصدارها في خمس مئة نسخة من قبل دور نشر صغيرة، مناضلة أو متعاطفة في الغالب… تأخذ نصوصهم على أنها “شهادات” لا على أنها إبداع فكري أو فني.
قد تكون الصورة هذه مخلة لإفراطها في الإيجاز، إلا أننا نعتقد، بالرغم من إغفالها استثناءات تبقى ضئيلة أو جنينية، أنها لا تجافي واقع الحال كثيرا… لذلك، إذا كانت الدعوة إلى استقلالية الثقافة محقة مصيبة من حيث المبدأ، إلا أنه ربما توجب أن تسبقها أو أن تشفعها دعوتها إلى الوجود، إلى مجرد الوجود… وتلك لعمري، مهمة أشد عسرا ومشقة.
موقع الآوان