هل تملك سورية (وقطر) أن تسير «خطوات» أخرى مع إيران؟
محمد مشموشي
أياً كانت الشروح والتفسيرات، فلم يعد محل جدل أن سورية (ومعها قطر، في المدة الأخيرة) سارت بعيداً في المشروع الإيراني، الإقليمي و(…)، الى درجة يصح فيها التساؤل عما إذا كان يمكن لها أن تتوقف، أو أن تتراجع عما سارته من خطوات. ولا فرق هنا بين ما إذا كانت لسورية (أو لقطر، مرة أخرى) حسابات خاصة تتعلق بدور ما، أو بجوار تريد حل مشكلاتها معه، أو ما اذا كانت مؤمنة صدقاً وفعلاً بالمشروع الإيراني… لأن ما حدث حتى الآن تجاوز كل حسابات من جهة بقدر ما أن محصلته بدأت، أو باتت على وشك أن، ترتد عكسياً عليها من جهة ثانية.
قبل الحرب الاسرائيلية على غزة، وما رافقها عربياً وفلسطينياً، كان يمكن الإنصات الى شروح وحتى إيجاد ذرائع لدواعي التحالف، أو ربما «الحياد» فقط، بين إيران وأي من البلدان العربية. وحتى عندما كان خطاب طهران السياسي، على تهافته الموضوعي، يبدأ وينتهي عند «المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير»، على تهافت هذا المشروع بدوره منذ بدء الحديث عنه، فقد كان للنظام في سورية ما يقوله، وحتى أن يجد آذاناً صاغية له، حول طبيعة وأهداف العلاقات بينه وبين النظام في إيران. كذلك فدعم إيران، بالمال والسلاح والتدريب، لكل من «حزب الله» في لبنان و«حماس» في قطاع غزة، باسم تحرير الأرض المحتلة ورد الهجمة التوسعية الإسرائيلية، كان له بدوره ما يوفر لسورية – وربما لغيرها أيضاً – ذريعة وقوفها موقفاً ودياً من هذا الدعم، وحتى من النظام الإيراني ذاته.
أما بعد هذه الحرب، وتحديداً في خلال العمليات العسكرية الواسعة ضد قطاع غزة، فلم يعد لـ«المستور» الإيراني ما يمكنه أن يختبئ وراءه، بل انه بدا عارياً تماماً ليس كصاحب دور ونفوذ إقليميين فقط وانما كعامل تخريب عامد متعمد، وعلى نطاق واسع، لما يوصف بالنظام العربي على الشكل الآتي:
1 – تنظيم تظاهرات في طهران ودمشق (وفي بيروت من قبل حلفاء سورية وإيران) أمام سفارات مصر في العواصم الثلاث، في موازاة إعلانات متكررة من حركة «حماس» عن رفضها النهائي تمديد فترة التهدئة التي رعتها مصر بينها وبين إسرائيل قبل ستة شهور. كان عنوان هذه التظاهرات الدعوة الى فتح معبر رفح المصري مع القطاع، إلا أن كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أن الهدف هو الضغط على مصر، بل وضعها في «قفص الاتهام» واعتبارها شريكاً – كما قالت طهران بلسان مسؤوليها في وقت لاحق – في أي عمل عسكري إسرائيلي ضد «حماس» والشعب الفلسطيني في غزة.
ومع أن العنوان كان مصر، والمطالبة بفتح معبر رفح، إلا أن الرسالة كانت موجهة في العمق الى عنوان أوسع… الى ما تصفه طهران وحلفاؤها بـ«دول الاعتدال» بما فيها السعودية والأردن ودولة الإمارات والكويت وبقية الدول العربية التي أقرت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت العام 2002 ثم كرستها في قمة الرياض العام 2007. أما المحتوى فيتلخص في عبارة واحدة، هي أن لا مكان في المنطقة إلا لقوى «الممانعة … والمقاومة»، وأن لا سلام ولا تسوية مطروحة أو ممكنة عملياً، ليس مع إسرائيل والولايات المتحدة والغرب فقط بل أيضاً مع كل من يرى في «الاعتدال» سياسة تتبع، أو حتى طريقة حياة.
2 – الكلام على قمة عربية طارئة، ثم عن «قمة… بمن حضر»، دعماً لـ«حماس» والشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ومبادرة قطر – بتشجيع من إيران وسورية – للدعوة الى هذه القمة في عاصمتها، الدوحة، على رغم أن قمة عربية مقررة ستعقد بعد أيام فقط في الكويت.
وبدا كذلك منذ اللحظة الأولى لهذا الكلام، خصوصاً في ضوء ما تردد من تحضيرات للقمة، أن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يهيئ نفسه لحضورها (وقد حدث ذلك فعلاً، ثم انه ألقى خطاباً مزايداً في الثورية والمقاومة، ورسم بأصابعه إشارة النصر!) مع أن الدعوة إليها تمت تحت عنوان أنها قمة عربية خالصة.
وفي هذه القمة، لم يكن إلا تعرية لهدفها الحقيقي استبدالُ ممثل السلطة الفلسطينية الذي غاب بممثلين عن منظمات دعت علناً الى إسقاط منظمة التحرير وإنشاء منظمة بديلة، كما لم يكن إلا ليخدم الهدف ذاته إقرارُها «توصيات» تدعو الى نبذ البقية الباقية مما يجمع عليه العرب بإزاء القضية الفلسطينية: مبادرة السلام العربية.
3 – شن حملة واسعة على جامعة الدول العربية، الهيئة الوحيدة الجامعة للعرب، وأمينها العام عمرو موسى شخصياً، بدعوى أنها فقدت دورها وتحولت الى «أداة» في يد فريق عربي ضد فريق آخر، بل بتهمة أنها لا تقف الى جانب الشعب الفلسطيني بينما يتعرض لعدوان إسرائيلي همجي.
وفي الواقع، فالحملة كانت مزدوجة: ضد مؤسسة القمة من جهة، وضد جامعة الدول العربية من جهة ثانية. فللمرة الأولى في تاريخ القمم العربية تعقد ما تسمى «قمة بمن حضر»، كما أنه للمرة الأولى تعقد قمة تغيب عنها الأمانة العامة للجامعة العربية لا لشيء إلا لأنها تتم من دون توافر النصاب القانوني الذي تنص عليه قواعد القمم والجامعة المعتمدة.
وليس إلا للوقوف في وجه «التسلل» الإيراني هذا، على رغم تواطؤ كل من سورية وقطر، الى داخل الجامعة العربية ومؤسسة القمة، كانت دعوة الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز الى قمة خليجية طارئة قبل 24 ساعة من «القمة… بمن حضر»، ثم دعوته في وقت لاحق في قمة الكويت الى مصالحة عربية شاملة.
4 – وما أعقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، من خلال أية زاوية نظر إليه، لم يكن أقل إصراراً على التدخل في الشؤون العربية مما كان قبله. وليس استقبال قادة حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» واحداً بعد الآخر في طهران، مع رسم إشارة النصر معهم، ثم إعلان رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل – من الدوحة بالذات – توجهه وقوى «الممانعة… والمقاومة» الى إنشاء منظمة بديلة لمنظمة التحرير، ثم تصعيد الحملة على مصر لأنها تسعى الى وقف اطلاق نار دائم بين إسرائيل و«حماس» واستعادة الحوار بين «حماس» والسلطة الفلسطينية للاتفاق على حكومة وحدة وطنية، إلا من صنف التحركات التي تصب في الجدول إياه.
وإذا أضيف الى ذلك «التشدد» الذي يبديه قادة الخارج في «حماس» بالمقارنة مع «المرونة» لدى قادة الداخل، سواء في ما يتعلق بالتهدئة مع إسرائيل أو بفتح المعابر الى غزة أو بحكومة الوحدة الوطنية مع السلطة الفلسطينية، لاكتملت الصورة الى حد بعيد.
… والمشهد الآن، بعمومياته وحتى بالتفاصيل، هو الآتي: سارت إيران بعيداً في محاولتها «التسلل» الى عمق النظام العربي، ولا يبدو أنها ستتوقف عن ذلك في المستقبل القريب على الأقل.
ولقد سارت سورية وقطر بعيداً معها كذلك… فهل تقدر، أو تملك أن تقدر، أن تسير خطوات أخرى على الطريق ذاته بعد؟
الشهور المقبلة كفيلة بأن تقدم الجواب.
* كاتب لبناني.
الحياة