أزمة خبز أم أزمة ليبرالية شرسة؟
صلاح الدين حافظ
على السطح يبدو أن أزمة الخبز التي اجتاحت مصر في الأسابيع الأخيرة، قد عكست أزمة أشد تتمثل في اتساع مساحة الفقر، وحدة ارتفاع الأسعار، خصوصاً السلع الغذائية والاستهلاكية.. وكذلك فعلت أزمة نقص مياه الشرب في العام الماضي.
وقد بادر كثيرون إلى تبرير مثل هذه الأزمات الحادة، خصوصاً نقص الخبز ونقص المياه، بإرجاعها جميعا إلى مجرد سوء إدارة، أي إلى غياب واضح لقدرة الإدارة الحكومية على الإنتاج والتوزيع السليم، ومن ثم جرى إلصاق تهمة التقصير أو الفشل بالحكومة الحالية، التي طالتها سكاكين وخناجر أضعفت ثقتها في نفسها، على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
ولعلني أتفق جزئياً على تبرير سوء الإدارة أو غيابها، ما أدى إلى تراكم الأزمات من دون أن تجد “إدارة حكومية” قادرة على المواجهة، وابتكار الحلول والبحث عن مخارج للتخفيف على المواطنين المنهكين.
غير أن الأصل والأساس في الأزمة يكمن في ما هو أكبر وأعم وأهم من الإدارة، وأعني أن الفلسفة السياسية السائدة هي المخطط والموجه والمحرك للإدارة لكي تعمل، فالمفروض أن تكون هناك في أي مجتمع أو دولة، رؤية عامة وفلسفة سياسية حاكمة، تحدد الاختيارات وترسم التوجهات الفكرية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والسياسية بالطبع.
وفي ضوء هذه الرؤية والفلسفة السياسية الحاكمة، تأتي الحكومات والسلطات التنفيذية لتقوم بإدارة الحركة واختيار الطرق الأنسب لتحقيق أهدافها الكبرى، وفق خطط زمنية محددة الأهداف والوسائل، ولذلك قلنا كثيراً من قبل إن مجتمعاً بلا رؤية، ونظاماً بلا فلسفة سياسية، هو مجتمع أعمى ونظام بلا عقل.
وأظن أن مصر قد اختارت وبالتحديد منذ التسعينات، اتباعاً لنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أن تسير بسرعة في ما يسمى “لبرلة” اقتصادها، بالخصخصة وبيع القطاع العام والإفراط في تفعيل آلية السوق وحرية العرض والطلب، وإطلاق يد القطاع الخاص ليمتلك ويدير ويصدر ويستورد، بينما بدأت الدولة في تخفيف قبضتها على حركة الاقتصاد، خصوصا الصناعة الناشئة والزراعة التقليدية القديمة، مثلما بدأت في التخلي عن بعض مهامها تجاه خدمات التعليم والصحة والتشغيل والأجور والأسعار وحماية المستهلكين.
ويبن يوم وليلة، تحولت مصر من دولة الرعاية الاجتماعية التي طبقتها ثورة يوليو/تموز بقيادة عبد الناصر في سنواتها الأولى، والتي تخضع للهجوم الآن، إلى دولة ترفع شعار الليبرالية الاقتصادية، لكنها تحجم عن الليبرالية الأخرى وهي الليبرالية السياسية، فوقع التناقض في أكثر من موقع، ولم تكن أزمات الخبز ومياه الشرب والري وجنون الأسعار والغلاء والاحتقان الشعبي إلا مظهراً وانعكاساً لهذا التناقض، بين ليبرالية اقتصادية منفلتة وليبرالية سياسية محدودة.
ورغم أن الوقائع تقول إن حكومة الدكتور أحمد نظيف لا تتحمل وحدها مسؤولية كل ما جرى، لأن الحكومة السابقة لها بقيادة الدكتور عاطف عبيد هي التي أطلقت القطار بسرعة الصاروخ، من دون تمهيد سياسي اجتماعي، من دون استباق الأزمات بالحلول المفترضة، إلا أن كل ذلك يطرح سؤالاً جوهريا على الجميع.
ماذا لو لم يتدخل رئيس الدولة بشكل مباشر لتخفيف أزمة الخبز، ويعطي الحكومة تكليفات محددة تبدو بديهية، فهل كانت غائبة عن الحكومة أو أنها تتجاهلها، تحت شعار حرية العرض والطلب وآلية السوق، وليبرالية الاقتصاد، كما هو موقفها من كل ما يجري في السوق المصرية، من أسعار الحديد والأسمنت المنفلتة بلا قواعد، إلى أسعار السلع الغذائية الأساسية والبسيطة، التي شهدت ارتفاعا يصل إلى حدود 160 في المائة خلال الشهور الأخيرة كما تقول تقارير منشورة؟
ويستتبع السؤال الأول، سؤال آخر هو، ماذا لو لم تتدخل القوات المسلحة والشرطة بقدراتهما الإنتاجية المتعاظمة لفك أزمة الخبز، التي عجزت الأجهزة المدنية والوزارات الحكومية المختصة عن مواجهتها بل تركتها تتداعى؟
والإجابة معروفة عن السؤالين، إذ إن هذه الوزارات والأجهزة، تحكمها شذرات من الأفكار الليبرالية التي تؤمن بها بينما تغيب عنها الرؤية الاجتماعية، والفلسفة السياسية الحقيقية التي جاءت بها الليبرالية الحقيقية والتي نراها مطبقة في الغرب الأوروبي الأمريكي، حيث مراعاة العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية وقوانين العمل وتناسب الأجور مع الأسعار وحقوق المستهلك وشبكة الأمان والضمان الاجتماعي الواسعة، وغيرها من الإجراءات المطبقة، تحمي المواطن من الاحتكار والفساد والاستغلال السيئ للظروف وتفكيك السوق.
والنتيجة أن الإدارة الحكومية هذه، تصورت أن مهمتها الأساسية هي الانتهاء سريعاً من برنامج الخصخصة وبيع القطاع العام وأصول الدولة، والمصانع الاستراتيجية والبنوك، إلى الأراضي الشاسعة المزروعة والصحراوية تحت شعار الاستثمار، والتفريط في ثروات الوطن بتعجل وبأسعار منخفضة يعرف الجميع أنها سترتفع غدا، كما هي الحال مع المخزون القليل من النفط والغاز.
وبالمقابل رفعت يدها عن حكاية الرعاية الاجتماعية، حتى وإن رفعت مؤخرا شعار العدالة الاجتماعية، وأطلقت آلية السوق، وشهوة الاحتكار تطحن الفئات الأوسع والأكثر فقراً في مصر، فازدادت مساحة الفقر، حتى إن التقارير الدولية تقدرها بأنها بلغت نحو 48 في المائة من الشعب المصري، وهي نسبة لم تحدث من قبل بل إنها تهدد بانفجار اجتماعي خطير.
ومما زاد الطين بلة والأزمة تعقيداً، أن الذين أشرفوا على كل هذه التحولات السريعة، ويسمون أنفسهم الليبراليين الجدد، قد تشكلوا غالباً من نوعين، نوع يبدو أنه من الهواة الذين التقطوا بعض السياسات من الليبرالية الأوروبية، من دون دراسة معمقة وجاؤوا لتطبيقها على الوضع المصري، والنوع الثاني يتمثل في رجال الأعمال وجماعات المصالح الذين رأوا في هذا المناخ فرصتهم الكبرى للكسب ومضاعفة الثروات وشراء القطاع العام وأصول الدولة بأبخس الأسعار، وفرض أجندتهم حتى على التشريع وصياغة القوانين التي تسهل مهمتهم.
وهكذا اتفق الطرفان المشار إليهما، واحد يريد تطبيق أفكاره المجتزأة، وآخر يريد تحقيق أقصى ربح ممكن في أقصر وقت ممكن، من دون مراعاة للأغلبية الساحقة من المواطنين، التي تنحدر بسرعة نحو الفقر والبطالة والاحتقان الاقتصادي الاجتماعي والسياسي بل والنفسي والعصبي.. وانظر وتأمل الشارع المصري وأحواله.
لم يكن غريباً إذن، أن نسمي ما يجري حالياً الليبرالية الشرسة، وهي بالطبع غير الليبرالية ذات البعد الاجتماعي، التي يطبقها مثلاً حزب العمال في بريطانيا، باسم الطريق الثالث، ما بين الرأسمالية والليبرالية المتوحشة، وبين الاشتراكية والماركسية المتوارية.
ولم يكن غريباً أيضاً أن يصل الاحتقان في المجتمع المصري مداه الخطير، كما هي حاله اليوم، ففي ظل انفلات هذه الليبرالية الشرسة، وغياب قواعد العدالة سواء في توزيع الدخول والثروات، أو في توزيع الأعباء، وإطلاق حرية رجال الأعمال ومعظمهم تجار وليسوا منتجين حقيقيين، انتفض كثير من فئات الشعب المطحون، كل يطلب بعض حقوقه، عبر التظاهرات والإضرابات والاعتصامات.
ولم يكن غريباً أن تتصادم هذه السياسات بكل عنف مع مصالح وحياة العمال والفلاحين، مع القضاة والصحافيين مع أساتذة الجامعات والأطباء، مع المعلمين والمهنيين وغيرهم كثير.. أي مع الشغيلة والمفكرين.
المطرقة النازلة بعنف زادت من حدة الاحتقان الاجتماعي الاقتصادي، والسياسي الثقافي، وسرت روح في المجتمع تنادي بأن يأخذ كل واحد حقه بذراعه كما يفعل رجال الأعمال وتلاميذ الليبرالية الشرسة.
فهل إلى خروج من سبيل؟
آخر الكلام يقول: محمد مهدي الجواهري:
نامي جياع الشعب نامي
حرستك آلهة الطعام