الليبانوفوبيا
وسام سعادة
حاجة كل وطن، كي يصير حقيقة قائمة بذاتها، الى جملة أساطير مؤسسة. تستمزج هذه الأساطير نتفاً من هذه الحقبة التاريخية ومن تلك، وتصل ما بين المحطات المنتقاة، فتكسبها سحراً وجاذبية وبهاء، وتجعل من الممكن بذل الولاء لها، وإطلاق القصيد نحوها.
بيد أن شرط فاعلية الأساطير المؤسسة أن تفضل في البال صنعة جامعة بين الانشاء الخيالي الموحِّد (بكسر الحاء) وبين المخيالات المحلية المتباينة والمتناثرة، وأن لا تطرح نفسها كحقائق مطلقة، أو مباشرة. ينبغي التشبث بالأساطير المؤسسة، بل والدفاع عن قدسيتها، إلا أن هذا التشبث ليس يقيناً ايمانياً ولا يقيناً برهانياً ولا يقيناً تجريبياً. انه يفترض وعياً ما، الى مصلحة ما، لكنه يفترض أيضاً جملة عوامل متضاربة، لا يمكن تفسيرها، بل لا حاجة الى تفسيرها. فالأساطير المؤسسة بقدر ما يمكن أن تفاخر بإيحاءاتها المتخطية للزمن، وبالتقاطاتها للمعاني الواصلة بالوجود، الا أنها تباهي أيضاً بما يعج بها من سذاجة وسرعة عطب.
تحتاج هذه الأساطير المؤسسة اذاً لتذكير جوفي ينبّه الآخذين بها على أنها تبقى أساطير في آخر المطاف. لكنها تحتاج كذلك الأمر لسياق صحي وسوي لا يشجّع على تعريضها طول الوقت لحملة شعواء تلو حملة.
ففي كل مرحلة، وعند كل عتبة، يمكن أن يفرز أي مجتمع في أي بلد، عناصر أو مجموعات تجعل من التعرّض والتعريض بالأساطير المؤسسة شغلها الشاغل، وبشغف من يخال أنه يحطّم الأوثان ويكشف الحقائق وينصف المظلومين.
وعادة ما يقوم التواطؤ بين أولئك الذين يدلّسون على الأساطير و«يفرضونها» كحقائق، وبين أولئك الذين يعنّفون هذه الأساطير ويرجموها بحجّة أنها اكاذيب.
هذا التواطؤ هو ما عانت منه تاريخياً عملية انتاج الهوية الوطنية الجامعة في بلد كلبنان. فريق يغالي في تبني الأساطير، بل يصوّر الأمور على أنه يستأنف الزمن الأسطوري من ألفه الى يائه، ويقابله فريقُ يلعن هذه الأساطير المؤسسة للهوية اللبنانية، باسم أساطير مؤسسة تتبع هويات أخرى، أصغر أو أكبر أو موازية للبنان، مع أنها الأولى بالتفنيد والتعطيل، بل أن بعضها متهافت من تلقائه، ومستنسخ من أساطير غريمه.
فإذا كانت الشوفينية اللبنانية (المتعاملة مع الأساطير المؤسسة كحقائق مطلقة ومباشرة ولا تقبل المزاح) تتحمّل مسؤولية أساسية لجهة عدم استتباب مقومات الهوية اللبنانية المتماسكة والسليمة. واذا كانت الشوفينية اللبنانية محامية فاشلة لقضية محقة هي قضية التعدد اللبناني، الاثني والديني، فلا تغيبن أيضاً مسؤولية «رهاب اللبننة» أو «الليبانوفوبيا».
وهذه «الليبانوفوبيا» نوعان: أحدهما يعكس مباشرة مشكلة جماعة طائفية أو مناطقية مع سواها، وهذا النوع قد مال تاريخياً الى التضاؤل بعد أن صارت لكل طائفة شخصيتها السردية فضلاً عن تلك الممأسسة. أما ثاني النوعين، فهو من الفئة العاجزة عن الانتقال من زمنية الى أخرى، والعاجزة عن تحيين المعاني والألفاظ تبعاً للسياق. وهذا النوع، على هامشيته وكاريكاتوريته، الا أنه يطلّ برأسه بلاهة وشماتة بين الفينة والفينة، وقد تصل به نزعة «الليبانوفوبيا» الى حد وصف بلده بأوصاف مقذعة من نوع «وطن الترمس»، في مقابل إغداق عبارات تبجيل لأقطار أخرى، نتساءل ان لم يكن من الأفضل تنسيبه اليها، بجرة قلم إدارية.
والبعض، وان كان لا يعتنق هذا الطور المرضي من «الليبانوفوبيا»، الا أنه يستخدمها، أو يفسح لها بالمجال، فهي تخفي احتقاراً للثقافة واستهانة بالأخلاق، وهذا ما يحتاجه هذا البعض.
تنازع «الليبانوفوبيا» أشجار هذا البلد المقدسة، كتابياً، والشامخة أبداً (بهمة أصدقاء البيئة طبعاً، وفي طليعتهم زميلنا حبيب معلوف الذي أكسب الهوية اللبنانية كفكرة، بعداً أيكولوجياً صميماً)، تنازع «الليبانوفوبيا» هذه الأشجار، بمجموعة من الطحالب والفطريات والطفيليات. أو هي تطالب التلامذة في المدارس الابتدائية بأن يكفوا عن تعلّم النشيد الوطني اللبناني، ويبدلوه بنشيد جزيرة سيلان (ماذا عن التاميل؟)، والإقلاع عن أي فضول يمكن أن يقود التلامذة الى طرح السؤال عن التاريخ القديم لهذه المنطقة من العالم، لأن التاريخ لم يبدأ بالنسبة الى رواد «الليبانوفوبيا» الحالييين لا عند الحثيين واليبوسيين والكنعانيين ولا عند الأموريين والآراميين. انما ابتدأ التاريخ، والتاريخ في عرفه ملحمة للثورات، يوم غزا رائد الفضاء «الليبانوفوبي» بستاناً، ونال حظّه من الفاكهة الوفيرة. الفاكهة أسماها تأميمات، والبستان المفتوح أسماه كوميوناً!