الآخرون وحروب الهوية
فخري صالح
معظم الحروب التي خاضتها البشرية منذ نهايات القرن الماضي، قامت على خلفية صراع الهويات؛ فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن العشرين، انفتح قمقم الجذور العرقية والقومية، والهويات الإثنية والجغرافية. وقد شهدنا على أساس من هذه الانقسامات التي غذتها المصالح الاقتصادية وإعادة الاصطفاف السياسي والمذهبي معارك طاحنة، ما كان لها أن تحدث لولا عودة مفهوم الهوية إلى مقدمة المشهد لتحدد طبيعة العلاقات بين البشر.
يبدو مفهوم الهوية إذاً، بوصفها الجدار العازل الذي يفصل المجموعات الجغرافية والإثنية والثقافية، عاملا متجددا وحاسما خلال السنوات الأخيرة، وهو مازال يقيم في أساس الحروب الناشبة والتوترات السياسية والوجودية التي تقبض على عصب العلاقات البشرية في اللحظة الراهنة. من هنا يتكرر الكلام على الآخر في الجدل الدائر في الإعلام والمؤسسات الأكاديمية، بين رجال ونساء السياسة وعلى صعيد الاقتصاد.
لكن إذا كان الكلام على الآخر، خلال العقود الثلاثة من القرن الماضي، قد جرى على أساس من الانفتاح على هذا الآخر، والحوار معه، والوصول بالمشترك الإنساني إلى حدود يمكن أن ترأب الصدع الذي قام بين الشرق والغرب على مدار قرون، فإن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، قد عصفت بالعلاقات بين الشرق والغرب، بين العرب والمسلمين من جهة والغرب كله من جهة أخرى. وصار من الضروري الآن إعادة النظر في هذه العلاقة المضطربة التي أتت على الأخضر واليابس، وجعلت العرب والمسلمين بصفاتهم الإثنية والدينية يقفون متهمين أمام أنظار العالم.
لكن الحديث عن الآخر بوصفه آخر، أي بوصفه مختلفا وربما نقيضا، يفتقد في معظم الأحيان التحديد الذي يمكننا على الصعيد الثقافي والمعرفي من استثمار صعود مفهوم الآخر، وحقل الهوية الضاغطة في الزمان المعاصر، للانفتاح على الداخل والخارج. يجب أن نحدد من هو الآخر. هل نقصد الآخر بمطلقيته؟ أم هناك آخرون في أنحاء مختلفة من العالم؟ هل نقصد الغرب؟ هل نقصد دول العالم المختلفة؟
الإشكال الأساسي يكمن في أن العالم يشهد اهتماما وتركيزا شديدين على مسألة الهوية خلال هذه الفترة الملتهبة من العلاقات الدولية، ولاسيما خلال ربع القرن الأخير، حيث يتعرض ما يسمى بالهويات الفرعية إلى ضغوط كبيرة في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يؤدي للأسف إلى الحرب والقتل ويثير نزعات الكراهية والانفصال والانشقاق وتقسيم البلدان والمجتمعات إلى بلدان ومجتمعات أصغر.
سؤال الهوية ليس مطروحا بقوة عند العرب والمسلمين فقط، بل إنه مطروح بقوة لدى الغرب عموما. فقد أصدر المفكر الراحل صموئيل هنتنغتون بعد كتابه الشهير «صراع الحضارات» كتابا آخر عنوانه «من نحن؟» (2004) يتساءل فيه عن ماهية أميركا، وعن المكونات الأساسية للهوية الأميركية. وهذا يعني أن سؤال الهوية أو سؤال الآخر مطروح بقوة في قلب القوة القطبية الوحيدة في العالم المعاصر. وإذا كان المفكر الأميركي الراحل هنتنغتون، مشعل نار الفتن في العالم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين برؤيته العرقية – الثقافية اليمينية المحافظة، قد قام بالتنظير للصراع الحضاري – الإثني، فإن على المثقفين في الطليعيين في الغرب، كما في العالم العربي، أن يبينوا خطورة السياسات القائمة على الهوية وكارثيتها وقوتها التدميرية وطاقتها غير المحدودة على إثارة نزعات الكراهية بين الشعوب، حيث تحولت، كما يشير أمين معلوف إلى «هويات قاتلة».
على العرب أن يطرحوا أسئلة الحوار، حيث تتخطى هذا الأسئلة الشأن الاقتصادي، وصولا إلى الشأن السياسي والشأن الثقافي في المقام الأول، بعد أن أصبح فتح باب الحوار الثقافي بين الكتل المختلفة في العالم أمراً ضرورياً، فالعقلاء في العالم، في الغرب خصوصا، هم حلفاؤنا وعلينا مد أيدينا لهم لا القطع معهم، وتفضيل سياسة الصراع على سياسات الحوار. نحن مطالبون بالسعي في هذا الاتجاه، بأن نخرج إلى العالم ونقول إننا لسنا أولئك الأشخاص الذي تصورونهم هذه الصور النمطية وتتهمونهم بأنهم هم مصدر الإرهاب والعنف وعدم التسامح، خصوصا أننا نشهد الآن، وبغض النظر عن النتائج، صعودا لقوى مختلفة في الغرب يمثلها انتخاب باراك أوباما لرئاسة الولايات المتحدة. فليعد المفكرون والمثقفون ورجال السياسة في العالم العربي النظر في آليات الحوار مع الآخر، سواء كان هذا الآخر جزءا من الذات أو قوة خارجية كالغرب، أو جهات حضارية، أو ثقافية أخرى في العالم.
كاتب من الأردن