وداعاً هنتنغتون وصراع الحضارات

مسعود ضاهر
في 24 كانون الأول 2008 توفي الباحث الأميركي المشهور صموئيل هنتنغتون عن واحد وثمانين عاما. وقد تضمنت سيرته الذاتية المليئة بالنشاط العملي والأكاديمي أنه تخرج من جامعة يال، ونال الدكتوراه من جامعة هارفرد ثم درّس فيها لمدة ثمانية وخمسين عاما إلى حين تقاعده في عام 2007.
إبان تلك الفترة المديدة من التدريس الأكاديمي نشر هنتنغتون وشارك في تأليف سبعة عشر كتابا وأكثر من تسعين مقالة علمية في القضايا السياسية الراهنة. وعمل في إدارة الرئيس جيمي كارتر خلال عامي ١٩٧٧-١٩٧٨.
في الغالب، لم تتم الإشارة إلى هنتنغتون لدى غالبية الباحثين في الدول النامية، خاصة في الدول العربية والإسلامية، إلا من خلال مقالته الشهيرة التي تحولت إلى كتاب نشر بعنوان “صدام الحضارات”. فقد أهملت كتبه ومقالاته الأخرى، وتم التعريف به بأنه صاحب مقولة “صراع الحضارات “. وبعد أن كان باحثا أميركيا محدود الشهرة، بات من أكثر الباحثين السياسيين الأميركيين حضورا وفاعلية في السنوات العشر الماضية.
إلا أن شهرته في الدول العربية لا تنم عن احترام لنظريته الجديدة حول “صراع الحضارات”. بل كان يتم استحضارها بصورة منتظمة للتهجم عليها ولإثبات خطل ما جاء فيها استنادا إلى ثوابت الماهية الثقافية والحضارية التي تشكل خط الدفاع الأول، لا بل شبه الوحيد لدى الشعوب العربية والإسلامية. وقد أشار عدد من الباحثين العرب إلى أن ذلك الهجوم القاسي ينم عن غياب شروط الإبداع الثقافي والإنتاج التقني لمواجهة تحديات العولمة وثقافته الأساسية أي الثقافة الغربية بالدرجة الأولى.
لذلك جاءت مقولته الجديدة في إطار توصيف مفهوم الصراع وآلياته في عصر العولمة. وهي مسألة جوهرية تشير إلى طبيعة الانقسامات الكبرى بين الدول والشعوب في مرحلة ما أطلق عليه فوكوياما مفهوم “نهاية التاريخ”.
فالصراع باقٍ إلا أن تجلياته، في رأي هنتنغتون تتخذ شكلا ثقافيا لأغراض سياسية واقتصادية وغيرها. والفرضية الأساسية التي قدمها تقول بأن المصدر الأساسي للنزاعات في عصر العولمة لن يكون إيديولوجيا أو اقتصاديا في المقام الأول بل مصدر ثقافي. وستظل الدول أو الأمم الكبرى أقوى اللاعبين على الساحة الدولية. لكن حقل النزاعات السياسية على المستوى الكوني يتحدد في مجال الدفاع عن أمن مجموعات بشرية ذات حضارات مختلفة. فيلعب الصراع بين الحضارات دورا أساسيا في تحديد السياسات الدولية لأن الحدود الفاصلة بين الحضارات هي خطوط المعارك الكبرى في المستقبل، بحيث يصبح الصراع بين الحضارات المرحلة الأخيرة من مراحل الصراع في عصر العولمة.
مرد ذلك وجود تمايزات بين الحضارات نفسها. فللحضارة الغربية صورتان متغايرتان: الأوروبية والأميركية الشمالية. وللحضارة الإسلامية صورها الفرعية، العربية منها والتركية والماليزية… أما لماذا ستتصادم الحضارات فلأنها تعبئ كتلا كبيرة فاعلة وذات تأثير عالمي بسبب كثافة القوى البشرية المرتبطة بها. فهناك حضارات كبيرة كالحضارة الغربية، والكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندية، والسلافية، والأرثوذكسية، والأميركية اللاتينية، وربما الأفريقية. أما أشد الصراعات في المستقبل فستتفجر على امتداد الحدود الثقافية الفاصلة بين تلك الحضارات. كما أن عملية التحديث الاقتصادي والتغيير الاجتماعي في كل أنحاء العالم ستساهم في انفكاك الشعوب عن هوياتها التراثية القديمة والعميقة الجذور. وهي تضعف الدولة/ الأمة من حيث هي مصدر للهوية، مما يسمح بنمو الوعي المتزايد بأهمية الحضارة الغربية نتيجة للدور المزدوج للغرب. فهو الآن في أوج قوته والوحيد القادر على حمل الثقافة الكونية الجديدة من جهة، وتقع على كاهله مسؤولية المواجهة مع الدعوات الإرتدادية للدفاع عن الهويات التراثية لدى الثقافات غير الغربية من جهة أخرى. وفي حين قطعت الشعوب الغربية شوطا بعيدا في مجال التحديث والعصرنة، فإن شعوبا أخرى اكتسبت سمات الحداثة والعصرنة لكنها ما زالت تتمسك بتراثها التقليدي وتقيم التوازن بين التقاليد الموروثة مع الانفتاح الكامل على الثقافات العصرية.
وتقدم كل من اليابان، والصين، والهند، والنمور الآسيوية، وغيرها نماذج واضحة على نجاح تجارب التحديث فيها من مواقع مغايرة للحداثة الغربية. وهي تتشدد في إقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة دون تمجيد الماضي أو الانغلاق على الذات. في حين بقي هاجس “المغايرة الأصولية” قويا لدى غالبية الدول العربية التي فشلت في بناء حداثة سليمة، على النسق الغربي أو الآسيوي أو من خارجهما. فهي تميل إلى معاداة الثقافة الغربية الكونية من منطلقات أصولية دينية تضعها في مواجهة ثقافة العولمة ذات الطابع العلماني الواضح.
في إطار فرض ثقافة العولمة على المجموعات البشرية، طوعا أو بالقوة، رسمت حدود الصراع القائم حاليا على امتداد الخطوط الفاصلة بين الثقافات الكبرى. وهو صراع يرتدي وجها دمويا في حالة فرض السيطرة الخارجية من جهة، والدفاع المستميت عن الهوية من جهة أخرى. واشتد التنافس للسيطرة على المؤسسات الدولية وتحويلها إلى أدوات للسيطرة ونشر مرتكزات الثقافة الغربية لتبقى على الدوام الثقافة الأولى والأكثر فاعلية على المستوى الكونية. وتقوقعت الثقافات التراثية لحماية ذاتها من التبعية والتغريب. فبدا الصراع الأكثر دموية بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط. ونظرا الى الممارسات السيئة جدا للأنظمة التي اقتبست شكل الديموقراطية الغربية وطبقتها في العالم العربي تعزز دور القوى السياسية المعادية للغرب. ولعب النمو السكاني المتزايد دورا إضافيا في التأزم القائم بين العرب والغرب، وزاد من فرص تحوله إلى صدام حضارات.
نخلص إلى القول إن هاجس هنتنغتون كان ينبع من توصيف الصراع الدائر حاليا على المستوى الكوني لتوليد نظام عالمي جديد يضمن استمرارية سيطرة الغرب على مختلف الصعد. مما اثأر ردود فعل عنيفة ضده في العالمين العربي والإسلامي لأنهما الأكثر تضررا من السيطرة الغربية، ولأن الصراع يدور أساسا على اراضيهما. فكتب الكثير في مديح الغرب وهو في أوج قوته بعد انهيار الإتحاد السوفياتي. وليس ما يشير إلى صراع عسكري بين الدول الغربية بحيث باتت قوة الغرب العسكرية دون منافس  وباستثناء اليابان، لم يكن الغرب يواجه تحديا اقتصاديا،بل يهيمن على المؤسسات الدولية،وبالشراكة مع اليابان على المؤسسات الاقتصادية. كما أن القرارات التي يتخذها مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي تعكس مصالح الغرب، وتقدم للعالم باعتبارها تعبر عن رغبات المجتمع الدولي، الذي بات اليوم اسما ملطفا لمصطلح “العالم الحر”. وذلك بهدف إضفاء مشروعية كونية على سياسات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. فتمحور الصراع بين “الغرب وبقية العالم”، وابرز تجلياته ردود الفعل التي تظهرها الحضارات غير الغربية ضد الحضارة الغربية، بصيغتها الأميركية.
ختاما، رأى هنتنغتون قبل رحيله كيف تهاوت ركائز الهيمنة الأميركية بعد أن ولدت أزمة حادة لم يشهد النظام الرأسمالي العالمي مثيلا لها منذ العام 1929. وهي نتاج طبيعي لحروب التسلط والهيمنة، في معزل عن الحضارات التي تتفاعل ولا تتصارع.

(مؤرخ)
النهار