تعقيبــاً علــى تحقيــق “هــل لا يــزال الماركســيون ماركســيين”: مـاذا تقـدم الماركسـية اليـوم لفـهم الصراعـات غيـ الطبقيـة
بول طبر
لماذا يخبو صوت الماركسيين ولم تعد كتاباتهم مثيرة للإهتمام ومدار نقاش في السجلات الدائرة حول القضايا والهموم التي تواجهنا في هذه الأيام؟ هل السبب يعود إلى عجز ذاتي، أم إلى قصور في النظرية ذاتها؟
للإجابة على هذه الأسئلة نناقش التحقيق الذي اجرته ثناء عطوي في السفير (الملحق الثقافي، 30 ك2 2009) مع خمسة مثقفين ماركسيين (بعضهم لم يعد ماركسيا) ومقالا” لسلامة كيله نشرته النداء في التاريخ نفسه (العدد 102).
ننطلق من ما جاء على لسان هؤلاء المثقفين: فواز طرابلسي، فهمية شرف الدين، حازم صاغية، منى فياض وعزة شرارة. وذلك لأن الافكار التي طرحوها يجوز اعتبارها مدخلا لنقاش الأسئلة التي بدأنا بها هذه المقالة.
بداية نجد أن طرابلسي وشرف الدين متمسكان علنا بالنظرية الماركسية، ولكن شرط استمرار صلاحيتها في تأمين الادوات الفكرية لتحليل الواقع والانطلاق من هذه الادوات لتطويرها، وليس الانتكاس عنها، جريا مع الوقائع والاحداث التي استجدت مع نهاية القرن التاسع عشر. في المقابل يمكن وضع مواقف صاغية وشرارة وفياض في سلة واحدة لجهة افصاحهم عن تخليهم عن الرهان على النظرية الماركسية، واكتفاء الاول والثاني بتبني الفكر الليبرالي وتطوراته الانسانية العامة، واعتبار الثالث، اي فياض، انها لم تكن يوما من انصار الانغلاق على الفكر الماركسي بل كانت ولا تزال تدعو الى الانفتاح والاستفادة من كتابات ماركس وكتابات مفكرين لاحقين كنيتشيه وفوكو وفرويد. نستطيع نوعا ما أن نشمل موقف فياض مع مواقف طرابلسي وشرف الدين لجهة انفتاح الثلاثة على مبدأ الاستفادة من الكتابات غير الماركسية مع ضرورة تمييز ان طرابلسي وشرف الدين كانا واضحين في قولهما بضرورة توظيف تلك الاستفادة في تطوير الماركسية ذاتها.
على الرغم من التمايزات المذكورة انفا نعتقد بوجود قاسم مشترك بين الجميع يتمحور اساسا حول كيفية تفسير المشاكل التي تواجهنا، وعلى رأسها التخلف والتقاليد، وبسطوة الفكر الغيبي والخرافي والتفاوت الاجتماعي، اي باختصار كيف نبني مجتمعا حديثا ومتحررا من الاستغلال والاستبداد؟ هذا الهم المعلن لدى البعض والمضمر عند البعض الاخر، هو المؤشر الاوضح عن الخلفية المشتركة للمثقفين الخمسة، أي خلفيتهم الماركسية. وهنا نعود إلى المربع الاول بطرحنا للسؤال التالي:
هل النظرية الماركسية لا تزال قادرة على تفسير الواقع وتعيين سبل تغييره نحو الافضل ام انها اصبحت قاصرة عن ذلك؟
لنرجع الى ما قاله المتحاورن في السفير بهذا الصدد. يشير طرابلسي في معرض حديثه عن أنتمائه الماركسي إلى نظرية ماركسية »لا تزال تقدم المفاتيح الرئيسية لفهم الرأسمالية التي طبعت عالمنا«، ويضيف معللا ماركسيته لجهة المنهج لانه يغلّب »الإنتماء الإجتماعي والطبقي للبشر كعنصر اساسي محدد لسلوكنا وفهم تطورنا«. واخيرا يبرر طرابلسي انتماءه الماركسي لانه يعتبر الماركسية »نقطة انطلاق نقدية لما هو سائد« مضيفا ان المقياس في النهاية هو قدرة »الماركسية على إنتاج معارف حول أوضاعنا«.
في الواقع لا يكتفي طرابلسي بهذه الأفكار، وانما يعود ليشرح ماركسيته بأنها الأقرار بأن »موضوع المعرفة« هو »هذا العالم وليس الغيب« وان »المحرّك الرئيسي ليس الاقتصاد وانما الصراع بين القوى الإجتماعية«.
في مجال نقده للماركسية، تقول كاتبة التحقيق عن لسان طرابلسي »ان اكبر تصحيح للماركسية هو وهمها بان تطور الرأسمالية يكنّس كل البنى والتقاليد ومؤسسات ما قبل الرأسمالية«، ويضيف ان ماركس لم يلحظ في اطار تنبؤاته عن تطور النظام الرأسمالي نمو طبقة وسطى وازنة »خصوصا« في المجتمعات الرأسمالية الناتجة عن الكولونيالية »الامر الذي يعقد التركيب الطبقي خصوصا إذا لاحظنا ان الطبقة الوسطى غير مفعول بها »وانما هي فاعل واحيانا مسيطرة« كما هي الحال في مجتمعاتنا.
طرابلسي هو الوحيد الذي يفصح عن افكار محددة يمكن اعتبارها مثالا لما قاله عن ضرورة استلهام الماركسية وتطويرها. الاخرون لم يفعلو ذلك. وحده صاغية اكتفى بالقول ان النظرية الماركسية لا تصلح لفهم مجتمعاتنا لأننا لم نتشكل كمجتمعات، بل لا نزال عشائر وطوائف واثنيات. ويفهم من هذا الكلام عدم صلاحية الماركسية لفهم هذه التشكيلات رغم ادعائها بعكس ذلك. من جهتنا نعتقد ان كلام صاغية قد وضع الاصبع على الجرح لانه لغاية الان لم ينتج الماركسيون العرب على الاقل معارفا بمجتمعاتهم تؤدي الى فك لغز العلاقات والانتماءات الاولية (القبلية والعشائرية والطائفية الخ….)، رغم الاشارات التي اطلقها طرابلسي في هذا الحوار وفي حوارات ومقالات اخرى، لا مجال لذكرها هنا. نذكّر بهذه القاعدة المعرفية تضامنا مع طرابلسي حول هذه الفكرة على الاقل: يبقى المقياس »هو قدرة الماركسية (ونزيد اي نظرية اخرى( على إنتاج معارف حول أوضاعنا«
ان يتم الاقرار بأن الماركسية قد تنبأت خطأ بأن الرأسمالية سوف تكّنس البنى التقليدية في سياق تطورها، او انها لا تصلح لتفسير »القبلية والاثنية والطائفية«، فأن ذلك لا يقدم فعلا معرفتنا لمجتمعاتنا. وكذلك الكلام على الدور الفاعل والمسيطر احيانا للطبقة الوسطى. فكيف نقول ذلك ونبقى متّسقين مع النظرية الماركسية الجازمة بان السيطرة الفعلية في المجتمعات الرأسمالية هي للطبقة البرجوازية لا غير؟ على اية حال، تبقى ملاحظات طرابلسي حول تطوير النظرية الماركسية ملتبسة وغير محسوبة بدقة لجهة مضاعفاتها على النظرية الماركسية وعلى قدرتها لفهم مجتمعاتنا العربية. ان تكرار مقولة ان الصراع الاجتماعي هو المحرك والمحدد للمجتمعات لا يقدم جوابا شافيا لفهم مجتمعاتنا وخصوصا الولاءات الاولية والعصبيات العضوية التي تخرقها.
هناك اولا ضرورة تحديد ماذا نعني بالصراع الاجتماعي؟ فهل المقصود هو صراع الطبقات ام صراع قوى اجتماعية لا تعرّف نفسها بصفتها الطبقية؟
نطرح هذا السؤال لأن الصراعات غير الطبقية هي كثيرة في مجتمعاتنا (والمجتمعات الأخرى) مما يتطلب عدم الالتباس في استخدام المفاهيم التي تهدف لتفسير هذه المجتمعات. واننا لمن القائلين بأن صلاحية الماركسية تكمن في جانب اساسي منها في قدرتها على تفسير الظواهر والصراعات التي لا تقدم نفسها على أنها طبقية، كالاثنية والطائفية والعشائرية وما إلى ذلك.
الحزب
وهنا يحضرنا مقالة سلامة كيله (النداء 30/1/2009) بصفتها نموذجا عن المنهج الماركسي السائد في دراسة الظواهر والصراعات غير الطبقية. ففي هذا المقال يعالج الكاتب »السياسي والطبقي في الماركسية« مشيرا” إلى اشكالية تحديد الصراع الطبقي للعلاقات السياسية. يرى كيله أن هذه العلاقة أمّا ان تجعل من المستوى السياسي تعبيرا واضحا عن مصالح الطبقات المتصارعة، وإما أن يتحول السياسي إلى ما يعبّر عن تصورات الطبقة المسيطرة فقط، مستلحقا بذلك الطبقات المسّيطر عليها. ويورد كيله شروط حدوث الحالة الأولى بأنها أولا وقوع تأزم للتناقضات الطبقية واستفحال استغلال العمال والفلاحين، وثانيا اضطلاع الحزب الماركسي بدوره في توعية المستغلّين والارتقاء بنضالهم المطلبي النقابي إلى مستوى السياسي الأم من أجل تغيير السلطة البرجوازية بالكامل. واذا لم تحتدم التناقضات بين البرجوازية وطبقة العمال والمزارعين لسبب ما، كالدخول بفترة ازدهار ورخاء اقتصاديين، فلا يمكن استيلاد التعبيرات السياسية لطبقة الفقراء، الامر الذي يمنع اندفاع »الشباب من ابناء هؤلاء نحو الفعل السياسي كتعبير عن واقع طبقتهم«. وعليه يصبح طبيعيا، وفق ما يقوله كيله، »ان لا تهتم الأجيال الشابة بالعمل السياسي، وان تهجر الثقافة السياسية«. والأهم في هذا التحليل القول، »بان هذا الوضع يؤسس لاشكال من الاحتجاج لها طابع اخر، مثل »الاحتجاج الاخلاقي« نتيجة شعور قطاعات تتهمّش بانهيار القيم التقليدية، أو يسيطر الميل الديمقوقراطي لدى فئات مثقفة. الفكرة الاساسية اذن تتمحور حول الاقرار بأن شرط امتلاك كل طبقة للوعي السياسي المطابق هو احتدام التناقض الطبقي وقيام الحزب الماركسي بدوره النضالي بالانخراط في الصراع والارتقاء بالوعي المطلبي الى مستوى الوعي السياسي الاشمل. وما عدا ذلك فهو كناية عن صراعات جانبية كالصراعات »الاخلاقية« والليبرالية التي تتعلق بالقيم الديموقراطية.
اذا سلمنا بأن ارتفاع نسبة الاستغلال الطبقي المصحوب بتأزم التناقض بين العمال والبرجوازية يشكل الاساس لاحتدام الصراع السياسي، يصبح وفق منطق التحليل لدى كيله، اكتساب الوعي الطبقي المطابق للعمال والفلاحين مشروطا بوجود الحزب الماركسي والقيام بدوره في توعيتهم على ذلك. بالطبع لا نريد ان نقلل من اهمية الدور الذاتي/الارادي للحزب في مجرى الصراع ومآله الاخير لكن بالمقابل لا نريد أن نحصر استيلاد هذا الوعي بهذا الدور ولو على قاعدة احتدام الاستغلال والنزاع الطبقي. فمجتمعاتنا مليئة بالازمات الاجتماعية والصراعات التي تتخذ اشكالا طائفية، وعشائرية وعائلية، واثنية، رغم وجود الاحزاب الماركسية منذ منتصف القرن الماضي على الاقل.
بالطبع النزعة الاقتصادية المصحوبة بالنزعة الارادية لا يمكن لها ان تقدم شرحا شافيا لهذه الولاءات والصراعات غير الطبقية. من هنا نطرح السؤال: كيف نفسر هذه الصراعات والولاءات غير الطبقية؟ وهل تتخذ اشكالا مختلفة باختلاف المجتمعات والثقافات التي تنوجد فيها لانه لا مكان لـ»ترسيمة مبسطة« للرأسمالية، أم لمجرد قدرتها على البقاء في وجه الرأسمالية الزاحفة؟
واذا كان الامر كذلك، هل »البنى والتقاليد ومؤسسات ما قبل الرأسمالية« هي نفسها في مرحلة ما قبل وما بعد الرأسمالية؟ بالطبع الجواب هو بالنفي، الامر الذي يقود الى تركيز الطرح مجددا حول علاقة تحديد الصراع الطبقي، او المستوى الاقتصادي، بهذه »البنى والتقاليد والمؤسسات«، وايهما الاسبق في تحديد الاخر والاشكال السياسية للصراع؟
أجوبة
تاريخيا قامت الماركسية بتقديم اجوبة مبسطة ومعقدة عن هذا السؤال. بعض الماركسيين اعتمد مقولة الوعي الزائف لتوصيف كل ما هو لا يعبّر عن مصالح الطبقات المستغلّة، والمسؤول عن هذا الوعي هو بالطبع طبقة المستغلّين في المجتمع المعني. انه تفسير ارادوي وحتى مؤامراتي لا يقيم وزنا للبنى والعلاقات بصفتها المادية المستقلة عن ارادة الافراد.
امّا الاقرار بالصفة البنيوية المستقلة للبنى والعلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية، فهو من سمات النظرية الماركسية التي تتعارض مع الذاتية في تفسير الظواهر وتغيرها. ومن جهة اخرى، هناك التفسير البنيوي، ورائده التوسير، الذي لا يرى ان التشكيلة الاجتماعية تتحدد بسبب واحد أوحد، وانما ببنى غير منظورة لا نستطيع التعرّف »أمبريقيا« إلا على اثرها. ويضيف التوسير ان الكل الاجتماعي هو وحدة مركبة من عدة بنى وهي: البنية الاقتصادية والبنية السياسية ـ القانونية والبنية الايديولوجية واخيرا، يزيد البعض، البنية العلمية.
بذلك يصبح التحديد الاجتماعي تحديدا متضافرا اي يعود لأكثر من سبب بنيوي. وفوق كل ذلك، يشير التوسير وانصاره البنيويون الى ان البنية الاقتصادية تبقى المحدّد »في نهاية التحليل«. وهنا يستعين المفسرون باستعارة العمارة لتوضيح ما يقصده التوسير بالتحديد »في نهاية التحليل«. يقول هؤلاء ان التشكيلة الاجتماعية هي مثل عمارة من عدة طوابق. ولا يجوز القول ان الطابق الاول والثاني هما نتيجة لوجود الطابق الارضي، رغم انهما يستندان اليه ولا وجود لهما من دونه. كل طابق هو منفصل عن الطابق الذي يعلوه او يكون من تحته. وما يحدث داخل كل طابق لا يتحدد بما يجري في الطوابق الاخرى. يطلق التوسير على هكذا علاقة بانها تقوم على مبدأ »الاستقلال النسبي« بين البنى التي يتشكل منها الكل الاجتماعية.
واذا اضفنا الى ذلك تحديد التوسير للبنية الايديولوجية التي تتكون من علاقات تخييليه بين البشر كذوات والعلاقات الاجتماعية التي يختبرون اثارها عليهم، فاننا نستطيع القول بان هذا التحليل يؤدي الى نتيجتين كلاهما يهددان مقولة تحديد الصراع الطبقي للوعي السياسي والاجتماعي والثقافي بالتصدع. النتيجة الاولى تفيد بان طبيعة العلاقات والبنى الايديولوجية ـ اي الثقافي والاجتماعي ـ التخييلية لا تسمح بأن نعي حقيقة العلاقات والمصالح الطبقية. وثانيا الاستقلال النسبي لكل بنية والزمن المتفاوت الذي تمتلكه يمنعان بالضرورة تبلور الوعي الطبقي المطابق. يفضي هذا التحليل إلى استنتاج شبيه بموقف لينين القائل بان الوعي الطبقي السليم يأتي من خارج الطبقة ذاتها اي عن طريق حزب الطليعة والمثقفين. هل حقا امتلاك الوعي »العلمي« كفيل بتبديد ما عجزت عنه الرأسمالية لغاية الان، اي تبديد البنى التقليدية والوعي غير المطابق؟ وكيف يمكن لهذا الوعي ان يلغي البنى المتفاوته زمنيا والمستقلة نسبيا عن بعضها البعض؟
يبدو ان التمسك بمقولة التحديد الطبقي الاحادي لجميع البنى السياسية والايديولوجية غير ممكن مهما فعل البعض في مجال تفسير هذا التحديد وتقديمه بصورة اكثر تعقيدا من النظريات الاختزالية الاخرى (لم نناقشها جميعا). بداية نجد ان العدة النظرية لا لتوسير مفيدة بلا شك خصوصا لجهة مفاهيم كالتشكيلية الاجتماعية والكل الاجتماعي والبنى التي تتألف منها، ومفهوم البنية والأثر (وهو لدوركهايم اصلا) والاستقلال النسبي للبنى والازمنة المستقلة والخاصة بكل بنية، وتضافر التحديدات (overdetermination ). امّا مفهوم البنية الاقتصادية بصفتها كالطابق الارضي الذي يحمل البناء بأكمله فهو صحيح بدون شك لانه لا يتضمن التحديد الاحادي والميكانيكي للطوابق الاخرى أو لما يجري في داخل كل طابق.
غير اننا نرى ان احلال مفهوم الحقل كما حدّده بورديو (Bourdieu) مكان البنية هو اكثر قدرة على تفسير العلاقات بين مختلف مستويات الكل الاجتماعي، اضافة الى تمكنه من ترميم دور الفاعل الاجتماعي، أكان فردا ام جماعة، في هذه البنية عكس موته المحتم وفق بنيوية التوسير. الحقل الاقتصادي يبقى الاساس كما حددناه اعلاه، ولكن علاقته بالحقول الاخرى لا تنحصر بدور القاعدة فقط. بل يمكن لهذه العلاقة ان تكون علاقة تعاضد حينا وتنابذ احيانا اخرى. ويجوز كما يقول بورديو لرصيد أو رأسمال كل حقل ان »يصرّف« في الحقول الاخرى فيؤدي امّا الى تحسين موقع الفاعل الاجتماعي في الحقل الذي يدخله او ان يخفّض من رصيده في هذا الحقل اذا قلّ رصيده الاصلي الذي يدخل به الى حقل جديد (على سبيل المثال، امتلاك الفاعل الاجتماعي لرأسمال اقتصادي كبير كونه من الاغنياء، يجعل بمقدوره ان يستملك رصيد سياسي كبير بمجرد ان يتخذ قرارا للدخول في الحقل السياسي).
وكما اسلفنا نستطيع عبر مفهوم بورديو للـ»Habitus« ان نقدم فهما اكثر دقة واعتبارا لدور الفاعل الاجتماعي في الحياة الاجتماعية قياسا على نظرية التوسير. بالنسبة للأخير، ذاتية الفرد وبالتالي وعيه يقوم على تخييّلات لا اكثر. امّا عند بورديو فمفهوم الـ»Habitus« يؤسس لفهم افضل لدور الفاعل الاجتماعي بإحالتنا إلى نظام الاستعدادات والتصورات التي يمتلكها هذا الفاعل، ويبقى أن جميع هذه التناقضات والصراعات المتوّلدة عنها (طبقية او طائفية او اثنية او عشائرية او جندرية الخ….) لا يمكن فهمها بالاعتماد فقط على قراءة المصالح الاقتصادية للطبقات وتصارعها.
فالقراءة الاخيرة تجوز عند القيام بدراسة المستوى او الحقل الاقتصادي وما يتولد عنه من وعي سياسي وثقافي وايديولوجي قد يتطابق او لا يتطابق مع مصالح وتطلعات الطبقات المتصارعة اقتصاديا بحكم تأثيرالمحددات غير الطبقية. امّا الصراعات الاخرى المتولدة من تناقضات غير اقتصادية، فان المقياس لحلها يقوم أولا بالإعتراف بوجودها المادي المستقل وبفعاليته بتحديد مواقف ومسالك الأفراد. ويقوم ثانيا، على تفسير نشوئها في الزمان والمكان. ففي عصر الرأسمالية وامتدادها المتواصل والمتفاوت في جميع أنحاء المعمورة، يتضح لنا أن الكثير من »البنى والعلاقات والمؤسسات ما قبل الرأسمالية« اتى إحياؤها في سياق نشوء هذه الرأسمالية، وان بعضها الآخر اوجدته الرأسمالية نفسها (وليس الرأسماليون) وذلك لدفع عملية تطورها بالذات (على سبيل المثال، نشأة العنصرية مع نشوء الرأسمالية في الغرب كما الطائفية في لبنان). والمهم في هذا المجال هو قراءة البنى والعلاقات »التقليدية« وفهم آلية انتاجها بذاتها وبالعلاقة مع البنية الطبقية وصراع الطبقات. بذلك يتضح دور هذه »البنى والعلاقات« في تفتيت وتشتيت علاقات وتضامن الطبقات والفئات المستَغلة، الأمر الذي يمد الرأســمالية بحيوية أكبر ويؤخر في تغييرها (أولــيس هدف أساسي من الصراع الطبقي هو اكتـــساب المستـغلين لوعي مطابق؟).
ختاما، لا يجوز باسم احادية التحديد الطبقي الاجتماعي ان نلغي فعالية التحديدات الاجتماعية الاخرى ورسم الخطة لتجاوزها. هل يكون الاقرار بذلك شرطا لاحياء دور النظرية الماركسية وادواتها الفكرية في تفسير مجتمعاتنا، وبالتالي استعادة حضور هذه النظرية في السجالات الفكرية والسياسية الراهنة؟