واشنطن توازن بين انفتاحها على سوريا والتزامها تجاه حلفائها اللبنانيين
دايفد شنكر
من المقرّر أن يلتقي هذا الأسبوع أرفع ديبلوماسي لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركيّة سفير سوريا في الولايات المتحدة عماد مصطفى، في ما يُشكل المحادثات الأولى لإدارة أوباما مع مسؤول سوري رفيع، واللقاء الأول لمصطفى مع مسؤول أميركي بهذا المستوى منذ سنوات. ويأتي هذا اللقاء في اطار الحركة الكثيفة على مستوى العلاقات الأميركية- اللبنانية- السورية، ومن ضمنها زيارات مسؤولين رفيعين في الكونغرس الى سوريا، وإصدار البيت الأبيض بياناً عبّر فيه عن دعمه القوي لبيروت، إضافة الى تبدلات في سياسة الولايات المتحدة، اعتبرها كثيرون بمثابة انفتاح على دمشق.
الخلفية
في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، سحبت إدارة بوش سفيرها من دمشق. وبعد شهر على الإغتيال، تظاهر 1.5 مليون لبناني في بيروت لاشتباههم بدور للنظام السوري في الاغتيال. وبعد شهر سحبت سوريا، التي احتلت لبنان قرابة الثلاثين عاماً، قواتها، ليفوز بعدها فريق 14 آذار الموالي للغرب والمناهض لسوريا في الانتخابات ويتسلّم مقاليد الحكم. وتجاوباً مع “ثورة الأرز”، قدّمت الحكومة الأميركية الى لبنان دعماً لم يسبق له مثيل على المستوى الاقتصادي، والعسكري، والديبلوماسي.
أبدى تحالف 14 آذار قلقه الواضح من وعود باراك أوباما خلال حملته الانتخابية وبعدها، بتجديد العلاقات الديبلوماسية مع دمشق. البعض تخوّف من احتمال أن تضحّي الإدارة الجديدة بحلفائها اللبنانيين عبر قيامها بتسوية على حساب المحكمة الدولية التي ستحاكم قتلة الحريري، طمعاً بأن تحصل في المقابل على التعاون السوري لدفع القضايا الإقليمية مثل العراق أو عملية السلام قُدماً. فبالنظر الى المخاوف اللبنانية الطويلة الأمد في ما يتعلّق باستمرار واشنطن في تعهداتها تجاه لبنان، فإن الإتئلاف الحاكم قلق من المؤشرات المحيّرة التي يراها.
سعياً منهما لطمأنة بيروت وإحياء للذكرى الرابعة لاغتيال رفيق الحريري، أصدر الرئيس الأميركي ووزيرة الخارجية بيانان عبّرا فيها عن دعمهما لسيادة لبنان- وهي كلمة غالبًا ما تستخدمها 14 آذار- ووعدت الإدارة بدفع مبلغ 6 ملايين دولار إضافي لتمويل المحكمة الدولية. ومن ثم اتصلت وزيرة الخارجية كلينتون، وقائد الـ CENTCOM دايفد بترايوس بإبن رئيس الوزراء الراحل، والقائد البارز في 14 آذار سعد الحريري.
إنفتاح الكونغرس الأخير على سوريا
في لبنان، حيث النجاح الإنتخابي لقوى 14 آذار يعتمد بدرجة كبيرة على الشعور باستمرار دعم الولايات المتحدّة لها، تمّ النظر الى الزيارات الأخيرة التي قام بها نواب أميركيون الى دمشق بالكثير من الاهتمام. أربعة أعضاء من الكونغرس التقوا الرئيس بشار الأسد في شباط، أهمهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جون كيري (ممثل ولاية ماساشوست) ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب هوارد برمان (ممثّل ولاية كاليفورنيا).
عملاً بتوصيات الإدارة الأميركية، زار السناتور كيري لبنان حيث التقى الرئيس سليمان وسعد الحريري قبل أن ينتقل الى سوريا. وأعاد كيري، خلال تصريح أعقب لقاءه الحريري، طمأنة بيروت وخفّض توقعات دمشق، فكرّر الدعم الأميركي للبنان وأكّد أنّ محكمة الحريري كانت “مستقلة عن كل القضايا التي نوقشت بين الولايات المتحدة وسوريا”، قائلًا إنّ “هدف النقاش مع سوريا هو “اختبار ما إذا كانت هذه اللحظة مؤاتية للتغيير… إننا نبحث عن الأفعال”.
في كل الأحوال، كان مسؤولو 14 آذار راضين عن الرسالة التي عبّر عنها كيري في بيروت، أما مؤتمره الصحافي في دمشق فقد أزعجهم، خصوصاً في ما يتعلق بتصريحه المتفائل حيال اماكن التعاون المحتملة مع سوريا. وكان رأي كيري مثيراً للجدل عندما قال إنّ دمشق قد تكون قوة فاعلة إيجابياً لتعزيز قيام حكومة وحدة وطنية فلسطينية بين حماس وفتح، وهو اقتراح يضعف الجهود الديبلوماسية الجارية حالياً عبر حلفاء واشنطن في القاهرة.
الإتجاه الأوّلي هو الإنفتاح
منذ انتخاب الرئيس أوباما، اعتمد الرئيس الأسد لهجة استعطافية تجاه واشنطن، ممهداً الطريق لبدء مرحلة انفتاح إدارة أوباما على دمشق. وفي أوائل شباط، انتشر خبر موافقة وزارة التجارة الأميركية على إجازة بيع قطع طائرات 747Boeing الى سوريا، وكانت الطائرات قد تعطلّت لسنوات بسبب النقص في قطع الغيار. وفي حين كان يمكن أن يسمح بنقل هذه القطع بشكل آمن ومُراقب قبل سنوات، غير أنّها مُنعت بسبب مخاوف الولايات المتحدة من استخدام هذه الطائرات المدنية لنقل مواد عسكرية من دول مثل إيران وكوريا الشمالية الى سوريا و “حزب الله”.
يمثل الاتفاق لبيع قطع طائرات تحولًا في سياسة الولايات المتحدة ولفتة مصالحة تجاه دمشق. وفي الوقت نفسه، سمحت وزارة الخزانة الأميركية بتحويل مبلغ 500000 دولار الى مؤسسة خيريّة تخص زوجة الرئيس الأسد، وهي خطوة تُرجمت كتخفيف من العقوبات الأميركية عليها. تشكّل هذه الخطوات مجتمعة انفتاحاً للولايات المتحدة على دمشق، وهو انفتاح ديبلوماسي مهم كان ينبغي أن تقابله سوريا بخطوة مماثلة.
جواب الأسد
عوض أن ترحّب دمشق بهذه الخطوات الواضحة التي تقوم بها واشنطن كإشارة إيجابية، وتتخذ خطوات لتصحيح العلاقات الثنائية بينهما، عمدت الى القبول بالتنازلات المقدمة من الجانب الأميركي وتطلّعت الى استغلال هذه الخطوات وتحويلها الى مكاسب ديبلوماسية إضافية. فعلى سبيل المثال، لدى إعلان الموافقة على إجازة بيع قطع تبديل لطائرات 747، صرّح وزير النقل السوري يعرُب بدر الى وكالة الأنباء السورية أنّه يأمل أن تنعكس هذه الخطوة “بشكل إيجابي على المفاوضات الجارية مع شركة Airbus”، باعتبار أنّ أوروبا التي رفضت حتى الآن بيع طائرات الى سوريا، وفي ضوء التحوّل في سياسة واشنطن، قد توافق الآن على بيع الطائرات.
في كل الأحوال، قد تكون ردة فعل النظام على زيارات أعضاء الكونغرس الأخيرة أكثر تعبيراً من ردّه على التغيرات في السياسات الأميركية. ففي 19 شباط، بعد يوم من تقديم السناتور كيري ملاحظاته في بيروت، حيث طلب أيضاً مساعدة سوريا في مسألة “نزع سلاح حزب الله”، هاجمت الصحافة السورية الخاضعة للحكومة السناتور بنجامين كاردن (ممثل ولاية ماريلاند) الذي زار دمشق قبل أسبوع. فانتقدت صحيفة الوطن السورية كاردن لـ” فشله في التمييز بين الإرهاب والمقاومة”، سائلة “هل هذه المجموعات [حماس و”حزب الله”] إرهابية؟ لا نظن ذلك”. وقد وبخّت الصحيفة أيضاً كاردن لتطلّعه “لدق إسفين الخلاف بين إيران وسوريا”. وتتابع الصحيفة بالقول إنّ إذا كان للعلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا أن تتطوّر فإنّ “التغيرات يجب أن تحدث في واشنطن وليس في دمشق”، فإذا كان السناتور كيري وعضو الكونغرس برمان “يتبنيّان وجهات نظر مماثلة، فليس عليهما تكبّد عناء السفر الى دمشق”.
تحقيق التوازن
لقد كانت مقاربة إدارة أوباما الأولية للإنفتاح على سوريا حذرة، وحريصة على المحافظة على التعهدات الأميركية في لبنان، وعلى إحباط الإرتياح غير المنطقي في دمشق. تبدو هذه المقاربة منطقية، لا سيّما في ظل سياسات سوريا غير المتعاونة منذ أمد طويل، والنقص في أي تغيير ملموس في السلوك السوري رداً على الانفتاح الأميركي، ولكن فرصة الاستمرار في هذه المقاربة تزداد صعوبةً يوماً بعد يوم. فمن جهة، لا تريد واشنطن إضعاف فريق 14 آذار مع اقتراب الانتخابات اللبنانية في حزيران، ومن جهة أخرى، من الصعوبة بمكان خلق زخم في العلاقات مع سوريا من دون أن ترسل الولايات المتحدة سفيراً و/أو مسؤولين رفيعين في الإدارة الى دمشق.
يُعتبر اختيار جيفري فيلتمان للقيام بأوّل لقاء رسمي لإدارة أوباما مع السفير مصطفى ذكيّاً. ففيلتمان هو السفير السابق للولايات المتحدة في لبنان، والمساعد الحالي الفاعل لوزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، وهو مثّل واشنطن في بيروت خلال ثورة الأرز عام 2005، ويحظى باحترام قادة 14 آذار. وفي الوقت نفسه، سبب أداؤه في بيروت، حيث أعلن بوضوح دعمه لقوى 14 آذار في مقابل “حزب الله”، أن لا يكتسب أي معجبين في دمشق، اذ قال وزير الخارجية السوري وليد المعلم عام 2007 إنّ فيلتمان “يجب أن يغادر [لبنان]” وعرض عليه أن يرسله في إجازة مدفوعة الى هاواي.
إنّ تعيين فيلتمان كمتحدث باسم واشنطن يدلّ عن التوجه السياسي المناسب نحو بيروت ودمشق؛ فهو يطمئن بيروت على استمرار واشنطن في التزامها تجاهها، ويوصل الى دمشق رسالة مفادها أن التقدم في العلاقة الثنائية يعتمد على حصول تغيرات جوهرية في السلوك السوري.
تواجه إدارة أوباما تحدياً كبيراً في إقامة التوازن بين الأولويات، بين أن تدعم قوى 14 آذار وفي الوقت نفسه تنفتح على دمشق. وفي الحالتين المخاطر مرتفعة، ففوز “حزب الله” في الإنتخابات اللبنانية من شأنه أن يمثّل نكسة للمعتدلين في المنطقة على يد كل من إيران وسوريا. وبطريقة معاكسة، لو أن الإدارة الأميركية قادرة بشكل من الأشكال أن تستغل إعادة التموضع الاستراتيجي لسوريا، وتدفعها بعيداً عن إيران باتجاه معسكر السلام، لسدّدت صفعة مهمة للمقاتلين الإقليميين. ومع المضي في إنفتاح واشنطن على دمشق ينبغي أن يبقى عنصر التوازن جزءًا لا يتجزأ من هذه الاستراتيجية. لا شكّ أنه سيكون من الصعب الحفاظ على مثل هذه المقاربة، ولكن العلامات الأولى تُظهر فهم إدارة أوباما للمخاطر، وتحرّكها للتخفيف من حدّة النتائج السيئة التي يمكن أن تترتّب على هذه السياسة.
The Wasingthon Institute الخميس 26 شباط 2009
بي بي سي