صفحات الحوار

لا شيء في الشعر خارج المزاج، ماهر شرف الدين: «الغاوون» بيت وحانة للشعراء

null


اسكندر حبش

الغاوون» مجلة شعرية، صدرت حديثا في بيروت ويرأس تحريرها الشاعران ماهر شرف الدين وزينب عساف، وتحاول، على قول شرف الدين، أن يكون الشعر مشروعها إذ الفكرة بحد ذاتها هي المشروع.

حول المجلة وقضاياها ومناخاتها، هذا اللقاء.

«الغاوون» جريدة شعرية جديدة انطلقت حديثاً، أولاً ما الدافع من وراء إصدار جريدة للشعر؟

بدايةً، إن معظم الأسئلة التي طاولت الشعر في عصرنا الحديث ظنّت أنها تطاول ماهيّته، لكنها في الحقيقة كانت تطاول دوره ضمن تسميات مختلفة مثل: مكانة الشعر، أهميته، وجوده… وبالنسبة إلى سؤالك لديّ جواب قاسٍ يتعلّق بغياب المشاريع عن الشعر؛ فللأسف لقد انتبهنا إلى هذا الغياب كمن يتنبّه إلى وجود زجاج بفضل الغبار الذي تراكم عليه.

إذاً سيكون من أسباب صدور أي مجلة جديدة غياب «المشاريع» من مجلات ودوريات أدبية، وشعرية خصوصاً، بشكل يدعو إلى الذعر. حتى المجلات التي ما زالت مواظبة على الصدور فإنها في حكم الموت السريري.

كنت سأسألك عن المشروع الذي ترغبان فيه (أنت وزينب) من وراء هذه المجلة؟ ولمَ اخترتما لها شكل جريدة، بعيداً عمّا اعتدناه في المجلات الشعرية الأخرى؟

المشروع هو الفكرة بحدّ ذاتها؛ أن يكون الشعر مشروع الشعر. وفي الحقيقة أنا أعتبر المشروع الحقيقي لأي مجلة هو مشروع هويتها، الهوية الفنّية تحديداً. «الغاوون» فتحت الشعر على كل شيء. وكمثال سريع خذ مثلاً موضوع «شعراء الملك فاروق» المنشور في العدد الأول، فقد أحدث مسلسل «الملك فاروق» عاصفة من السجال الثقافي والشعبي، حتى أن مجلة مثل «روز اليوسف» خصصت لمعالجة هذا الموضوع ثلاثة أو أربعة أعداد، لكن أحداً لم يتطرّق إلى دور الشعر والشعراء في تلك المرحلة. «الغاوون» رصدت للشعر والشعراء وتقلّباتهم وعلاقتهم بالملك فاروق، منذ أن سمّاه محمود حسن إسماعيل بـ«الربيع» إلى أن سمّاه أحمد زكي أبو شادي بـ«الكركدن». شهادة الشعر على تلك المرحلة يجب أن تكون شهادة أساسية، وهنا يأتي دور جريدة مثل «الغاوون».

في العدد الثاني مثلاً ثمة صفحة «اقتصــاد» ولكــن في الشعر، وفي العدد الذي يلي ربما تجد صفحة «رياضة»… ابتكار الأفكار الجديدة والطريفة سيُعين «الغاوون» على بلورة هويتها. وربمــا يكون شكل الجريدة الذي اخترناه هو أحد هذه الأفكار العملية أيضـاً، والتي تتيح لنا أشكالاً إخراجية لا يتيحها شكل (وحجم) المجلة العادية. البعض قال إنها أشبه بفن التجهيز من حيث الفكرة، وأنا أعتبر هذا الكلام يصبّ في مصلحة الجريدة وانفتاحها على الفنون الأخرى. وكما لاحظ قارئ العددَين اللذين صدرا حتى الآن ثمة انفتاح على جميع الأشكال الشعرية وجميع الأفكار وجميع الشعراء.

الغاوون

ولمَ اقتصرت «الغاوون» على الشعر فقط؟ ثم لماذا هذه التسمية (الغاوون) المستلّة من آية قرآنية؟

سأستعير جوابي مما قالته زينب يوماً، بـ«عنصرية» شعرية، عن أن الشعر أناني لا يسمح لك بتذوّق الفنون الأخرى. هذه «الأنانية» الآسرة للشعر تجعلنا نظن بأن مشروعاً خاصاً للشعر هو مشروع عام، ليس على المستوى الأدبي فحسب، بل على المستوى الثقافي، وربما الاجتماعي أيضاً. خصوصاً في عالمنا العربي الذي كان الشعر ديوانه وسجلّ مفاخره ونكساته على السواء. بحثنا الحثيث – مثلاً – عن الشاعرات الجديدات والموهوبات وتشجيعهن يحمل «شبهة» المشروع الأبعد من مشروع جريدة للشعر. الشعر نقطة التقاء وجودية أيضاً. نقطة تماس بين معنى الأدب ومعنى الوجود ومعنى الإنسان. وفي هذا التصوّر سيتسع جمهور «الغاوون» عدداً بعد آخر. وسيضمّ أناساً لم يكونوا من جمهور الشعر يوماً، في المعنى التقليدي لكلمة «جمهور».

وبالنسبة إلى التسمية فهي نقطة تلاقٍ (أو تماس) لدلالات ثقافية متعدّدة، منها الديني المتصل بآية قرآنية تطاول الشعر والشعراء بالهجاء، ومنها الشعري المرتبط بمعاني الغواية في وصف الشعر فعل إغواء، ومنها الفنّي القائم على «سِفاح» لفظيّ بين واوَيْن، ومنها المزاجي أيضاً وأيضأً. أصلاً لا شيء في الشعر يمكن أن يكون خارج المزاج. و«الغاوون» هي جريدة مزاج أيضاً. الصفحة الأخيرة مثلاً تقوم كبقية الجرائد اليومية على أخبار طريفة من الوكالات. لكن زينب أخذت الوكالات إلى الشعر. كيف؟ انتخبت في العدد الأول خبرَيْن (من الوكالات) عن شجر السرو، ثمّ ركّبت أنطولوجيا صغيرة عن شجر السرو قوامها مقولات الشعراء في (أو عن) هذه الشجرة، كما أنها – أي زينب – كتبت مقالاً مبنياً على تعريفات شعرية للسرو، بعنوان «السرو كلب الشجر». وكذا في العدد الثاني انتخبت خبرَين عن القبلة وأنطولوجياها وكتبت مقالاً بعنوان «القبلة محاولة لتبادل الشفاه»… وهكذا ستكون هذه الصفحة دائماً: أخبار وكــالات في ضيـافة الشعر.

في العددَين اللذين صدرا حتى الآن ثمة الكثير من الأسماء الشابة، هل هي مجلة للتجارب الجديدة فقط، أو للجيل الجديد فقط؟

هي مجلة للشعر قبل الأجيال، لكن من طبيعة الشعر الاحتفاء بالجيل الجديد. بالطبع ثمة قصد في التركيز على الأقلام الشابة، وحتى غير المعروف منها، لكن من دون أن يكون هناك إقصاء لأحد، على العكس تماماً، فنحن قلنا في العدد الأول إنها بيت وحانة للشعراء، ولم نقل بيت وحانة للجيل الجديد فقط. وهنا اسمح لي التعريج على مسالة الأجيال لأقول إن ولادة أي جيل شعري تتطلّب عنصرين أساسيين: العنصر الفني والعنصر الزمني. وإذا افترضنا أن العنصر الفني هو الأمّ، فالعنصر الزمني لا بدّ أن يكون القابلة. لذا من التعسف بمكان اعتبار الزمن أمّاً وقابلة في الوقت نفسه، وهذا ما يحدث على كل حال في مشهدنا الشعري العربي المعاصر، حيث بات مرور عشر سنــوات يكفي لتسمية جيل. هذا التفريخ الأوتوماتيكي الذي نسف أحــد طرفَي المــعادلة، نسف أيضاً دعوى الخصوصيــة والســمة والتجــربة التي هي حقّ من حقوق كل جيل. لا يمكن الزمن أن يكــون وحــدة قياس وحيدة وصاحب الحق الحصري في محض الجيل اسمــه: ماذا نفعــل عنـدما نصل إلى الستينيات مثلاً؟ هل سنقول جيل الستينيات الثاني؟ الزمن كما قلت يجب أن يكون مجرّد قابلة. وأن أعيد الكلام على أن أهمية جيلنا الشاب تكمن في أنه استطاع التخلّص من ربقة الأيديولوجيات والقضايا الكبرى، معناه أنه استطاع إنجاز تجربة مختلفة تحاول استيفاء شرطها الفني وشرطها الزمني على السواء.

بعد مجلة «نقد» التي تواكب الشعر قراءة، تأتي اليوم «الغاوون» هل ثمة تكامل ترغبان فيه؟

بالطبع، هما مشروع واحد، أو هما وجها المشروع الواحد. ثمة «محاصصة» مقصودة فلكلّ منهما هويته ودوره ووجهته ومغامرته. «نقد» لها دور مكمّل يأخذ على عاتقه نشر النقد الأكاديمي، في معنى إتاحة الفرصة والحرية لـ«الغاوون» لتناول مواضيع أكثر حيوية وأكثر تخفّفاً لجهة اقترابها أكثر من حساسية القارئ العادي وغير المتخصص من خلال جعل الشعر نافذة على كل شيء في الحياة. أنت هنا تقرأ الميثولوجيا مثلاً من خلال الشعر. في موضوع «إنهيدوانا سركون الأكدي أول شاعرة في العالم» (والذي ستصدر ترجمته الكاملة ككتاب لدى دار الجمل) أنت لا تقرأ سيرة شاعرة فحسب، بل سيرة ابنة الملك الآشوري العظيم سركون، كما تتلمّس مكانة المرأة الأساسية في الأديان القديمة حيث كانت إنهيدوانا أعلى سلطة دينية في المملكة وحيث كانت إلهتها إنانا أعظم من الآلهة الذكور وأكثر قوّة. في العدد الثاني أعلنا أن أحد مواضيع العدد المقبل سيكون «الشعراء العرب اليهود»؛ هذا الموضوع يهمّ غير الشعراء، وحتى غير الأدباء، إنه موضوع من المسكوت عنه ولا بدّ من أن يهمّ الجميع.

كُثُر عرفوا هذين المشروعين (المجلة والجريدة) بـ«المغامرة»، وأنا لا أمتلك ردّاً على ذلك سوى أن أقول: في الهاوية لا معنى للمسافة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى